المقامر
أنا: ولدت كي أكون مقامرا ..دمي خاثر وعيناي لا تخشيان
النور..تهت طويلا بين رياح الفقد والمغانم المنتظرة, والآن..علي أن أتوجه نحو
الهاوية بعينين مفتوحتين.
- هيا أيها الخاملان أفيقا.
صاح بابنيه لإيقاظهما, فيما هما يدمدمان بأنصاف كلمات
نازحة من مناطق للظل ورفيف أجنحة هائمة في أحياز الملكوت, ثم.. فركا أعينهما وهبا
واقفين.
خرجوا.
عبروا أزقة وشوارع مغمورة بضباب ندي..أزقة متعرجة
ومتشابهة, وشوارع دون اسم..عبروها دون أن ينظروا إلى الخلف, وحيدين وصامتين وعصيين
على الإنكشاف, كما لو كانوا مجرد انعكاسات لأجسادهم التي بقيت هناك تتقلب بين
أصابع الحلم ..ماضين بهمة باتجاه السقف..سقف المدينة, حيث الحافة التي تقبع هناك
منذ مئات السنين لرصد توجعات الريح وبوح العناصر. بدت هائلة وخرافية..كأنما هي
الحافة الأولى التي رعى هابيل فوقها قطعان الضأن, قبل أن تنسل فلول البشرية من خلل
رشحاتها, سلالة إثر الأخرى , وبعدها..يمتد الخلاء الشاسع متطاولا باتجاه الشرق ,
حيث تتحد آخر زهرة برية بتعريشة متخيلة في سماء مغموسة في حبر العتمات.
نزلوا عبر المنحدر مسلكا وعرا ومفروشا بالأحجار التي ما
إن تلامسها الأقدام حتى تتهاوى في حركة متهورة وصاخبة باتجاه القعر.ولو أن الأب
استدار في لحظة مباغتة وتفرس في ابنيه, للمح تلك الهالة من الفزع التي مطت
حدقاتهما وشدت الأنفاس الى سؤال الكينونة الأول.
لماذا يتوجب على الأبناء أن يثقوا في آبائهم؟
لماذا لم يرتابا في شئ, حين أيقظهما في ذلك الغبش المورد
بالعتمات وقال : اتبعاني , فتبعاه طائعين مطمئنين؟..حين قال لهما: ودعا أمكما
وأشياءكما الصغيرة ,فاكتفيا ببحلقة متسائلة وخاطفة, ثم أومآ له بأنهما مستعدان؟
"لقد ضغط الزر, ولا شئ بإمكانه أن يوقف
الهول الآتي."
كانوا قد بلغوا السفح..وطأوا الأرض المستوية , وشرعت
خيوط النور تتدلى من البكرات اللامرئية المبثوثة في الفضاء , فأحس الإبنان ببعض
الارتياح, وجعلا يتحركان بخفة ملحوظة مثل جديين أرعنين تاها عن القطيع, ثم ارتكنا
الى النسيان.
أراضي شاسعة , وهواء محمل بروائح النباتات البرية
..نظرات ملتبسة وفجر في طور الولادة.
توقف فوق بقعة غير مزروعة , دقها بقدمه, ثم انحنى وأخذ
حفنة تراب: "هذه الأرض رخوة ومطواعة مثل جدائل الحرير, هذه الأرض
مناسبة." استل من خرج آنية بلاستيكية محكمة الإغلاق وصحنا وقنينة صغيرة
وكاغدا ملموما ومنديلا..حط الكل على بساط الزعفران, وحدق في الأفق المختلج بأفكار
شريرة.
"كان علي أن آتي بهما إلى هنا كي أقطع آخر شعرة
تصلني بالأشياء والناس , وتدنو حياتي من نقطة الإكتمال."
عاش حياة مترعة بالترقب, عرف إشراقات حظ نادرة وعانى
إفلاسات دون حد..لكنه ظل في أحلك الظروف يبتسم ابتساماته الملغزة , ويقول:"
من ولد مثلي بدم أزرق لا يخشى الأنيميا", ثم ينصرف بخطوات ثابتة.والآن..
الآن, عليه أن يكابد التوجه نحو الهاوية بعينين
مفتوحتين.
فتح آنية البلاستيك, وصب البيصارة في الصحن..سكب عليها
زيت الزيتون من القنينة الصغيرة, وذرى فوقها بعض الكامون والفلفل الحار..أخرج من
المنديل خبزا, ودعاهما الى الأكل, ثم انتحى جانبا, واستل من الظلال رفشا وفأسا.هوى
بالضربة الأولى فأحدث شرخا عميقا في التربة الرخوة , سمع غرغرة مكتومة في الأحشاء
الدافئة, وجهة الشرق تفتقت السماء عن صفرة داكنة تمهيدا لبزوغ الشمس, وغير بعيد,
اصطفقت أجنحة لطيور الصباح.
الطفلان راكعان فوق الصحن.
ضربات الفأس تزداد احتدادا والحفرة تزداد عمقا.
تجشآ وحمدا الله.
- هل شبعتما؟
سأل دون أن ينظر اتجاههما أو ينتظر الرد.
- والآن , ستريانني شطارتكما : أخرجا كراتكما الزجاجية
والعبا أمامي, لكن انتبها, العبا بأقصى ما يمكن من التركيز , وليلعب كل منكما من
أجل الفوز كما لو أن حياته تتوقف على ذلك.
"لا شئ يمكن أن يوقف الهول الآتي."
شبكة من الأعصاب.
شبكة هائلة من الأعصاب الموتورة , وغليان على تخوم
الإنفجار..العالم لاشئ خارج اللعبة , حدي الربح والخسارة ..شبكة من الأعصاب
المحترقة..صمت مترقب , متخم بعواء الغابات..ثم تعلم أن يكون أكثر هدوءا وحيادية,
أن يعشق اللعبة لذاتها, كرهان محض مجرد عن أي اعتبار آخر, لأن المقامر الحق "لا ينطلق من مبدإ أنه قد يخسر كل شئ, بل
من مبدإ أنه لا يملك أي شئ." وفي هذه الحالة ما الذي سيخسره؟ البيت, المتاع,
الزوجة؟؟
قامر بها ذات يوم.
يوم بارد بشكل استثنائي ..امتلأت فيه القاعة بالكنزات
الصوفية والقبعات, وقفازات عديدة بدت له كلما خسر رهانا مثل قفازات ملاكمين
يتحرشون بالضربة القاضية .ثم بدا أنه خسر كل شئ ..بدا ذلك من نظرات الخصوم, من
الإشارات المنتشية وطرقعات الأصابع.
- لقد انتهيت
صاحوا بلهجة ظافرة..ترقبوا أن يخلي المقعد, وينسحب في
انكسار ..لكنهم لا يعرفونه جيدا: دمه الأزرق الفضي ولياليه المسهدة, حيث استنطق
الأبراج ومرايا الكون , وطوح بنداءات النفس الى الصحاري البعيدة.
ما يزال لدي ما أقامر به: زوجتي.
وشرعا يلعبان, بعد أن اتفقا على قواعد اللعب وعدد
الأدوار..تدحرجت الكرات الزجاجية على الأرض ..تحاورت الأصابع واحتقنت الأوردة:
"العبا بأقصى ما يمكن من التركيز, كما لو أن حياتكما تتوقف على
ذلك"..تصادما وتناطحا , وحدج أحدهما الآخر في حقد.
قال: زوجتي.
وسمعها تقول له: ستقامر بنا في يوم من الأيام.
غمغم: أبشري فقد تحققت نبوءتك, وربما أصبحت بعد لحظة
سبية لأحد هؤلاء..مسحهم بنظرات فارغة وفكر في البرد " ستكون الجبال مثقلة
بالثلج" ثم ركز بصره على القفازات ولم يفكر في شئ.
كان الوقت ليلا حين عاد الى البيت ..أحس بانجذاب مفاجئ
الى المرأة التي تنتظره هناك ..رأى الآخر يشدها بوثاق ويسحبها وراءه, رآه يطوح بها
فوق سرير ما, ينتر ملابسها ويعتلي الجسد, يعركه يعجنه يدخله, الجسد الذي فاز به في
يوم شديد البرودة..حضنها بنظرة حانية ومقت نفسه.." كدت أفقدك, لكن الحظ شاء
العكس" رنا اليها في ود, ثم...
- هل العشاء جاهز؟
كي يغلف اللحظة بالزجاج وينكر انشداده.
ظل يحملق في الفراغ ..رأى مرايا عديدة, ونتفا لأوجه
مجهولة , دخل دروبا ومتاهات, وأزمنة متداخلة وملتبسة, بحثا عن صورته المثلى:
المقامر الذي لا يضاهى, الذي لا يملك شيئا ولا يتعلق بأحد.
نحى الإبن الفائز جانبا, وشد الخاسر من كتفه:
- انظر حواليك جيدا, الى شقشقة الصبح والأزهار المغسولة
بالندى , التحليقات الأولى لطيور مترعة بالدهشة, الشمس الصقيلة وكتاب السماء..
انظر الى كل هذه الأشياء واستبطنها بعمق : لقد خسرتها بخسرانك الدور.
فلماذا يثق الأبناء في آبائهم؟
لماذا لم تثر في داخله الرياح العاتية, رياح الشك
والعصيان, ويستحيل الى قط متنمربمخالب لا ترحم؟ اكتفى ببحلقة بلهاء متسائلة, وتبعه
طائعا الى الحفرة المعدة لاحتضانه..فقط حين طفق يهيل عليه التراب, أدرك ما يحصل
له(بشكل ملتبس) فارتاع.
- ماذا تفعل بي يا أبي؟
وعوى.
"لكن
من يوقف الهول الذي حل؟"
الاقامة في العلبة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire