samedi 14 mai 2016

الضفادع



وأنتم هنا لسماع الحكايات ..
ولا أرى سيفا مصلتا على الراوي يداريه بتتابع الأحداث فما معنى هذا التواطؤ إذن؟ هذا التواطؤ المكتوم الذي جرني عبر المسافات إلى هذا المجلس يدعوني للحكي..
كنت دائما على قناعة –بالرغم من تاريخ ميلادي غير المضبوط- بأني من برج الدلو, فقضيت حياتي ألتمس قيعان الآبار .
وهذه البئر عميقة..
هل أملك ألا أنزلها وأشيح بوجهي عن وثبة البدء حين تجلت لعيني الضفدعة, على ضخامتها تنط من صفار البيض وقيل لي: هذا خيط قدرك, اتبعه أو لفه حولك ومت به..
ليس لي حنكة القطط في لف الخيوط , لذلك بدأت البحث , وعزمت على ألا يهدأ لي بال حتى أصل إلى النهاية أو أهلك..أعود منهوكا مقرح الداخل, ويكون ذلك في أواخر النهارات فأرتمي على السرير ككلب الصيد, حرارتي مرتفعة وحلقي ناشف أدمدم للحظات , رغم التعب وجفاف الحلق بأنصاف كلمات, هي أشبه بالغطيط أو هرهرة الكلاب , وهي لا تكون في الحقيقة سوى شتائم ولعنات لا تكتمل أبدا وإن كان البائس الذي توجه إليه والذي ليس سواي , يدرك بذاءتها و يفكر في أن يتوقف عن الإنشغال بهذا الأمر , يتوقف عن البحث وكل هذا الوجع, هذا الوجع الذي لا أفق له.
كنت كما لو أني في ساحة..
عاريا كما ولدتني أمي وكما سأمثل يوم الحشر بين يدي الله ربي ومولاي..ضباب أبيض كالشمع وأبخرة, وهمهمات حشد لا أتبين منه أحدا..كأنه وجع الأرض يصّاعد من أغوارها السحيقة..ثم كأني أسبح , وما يحيطني زبد البحر الذي سينحسر عن وجه فينوس ربة الجمال, لذلك لم أستغرب حين طلوعها من خلل الضباب والبخار..كنت أنتظرها وكنا على موعد..فتاة في مقتبل العمر, ركبتاها الحسيرتان تعلوان ساقين بيضاوين رفيعتين..قالت: هل أحضرت البيضة؟ وصوبت نحوي فوهتين واسعتين يزينهما الكحل والحور ..أجبت مرتبكا: نعم..ففتحت خرجا كان بيدها وأخرجت كتبا ورقائق قديمة , رمتها على الأرض الغائمة حواليها , فغارت خلف الضباب, لكن العناوين بقيت تسبح فوق و تتلألأ, قرأت: "تفسير الأحلام" لإبن سيرين, و"المجسطي" لبطليموس..أعادت: هل أحضرت البيضة؟ هاتها بسرعة..خطت على قشرتها بالسماق خطوطا وحروفا مبهمة, ثم قالت: أحضر نيتك وافتحها..دمدمتُ بكلمات تفيد بأني سلمت أمري لها وأن النية تسبح في دمي, ثم شققت البيضة فنطت منها ضفدعة كبيرة..بقيتُ مشدوها للحظات وأنا أغمغم : ما هذا؟ وكانت تضحك و تقول: ألا ترى بعينيك؟ إنها جرانة..أو إذا شئت قرقورة*..أقول: بلى ولكن كيف, كيف؟ فتقول: أغلق فمك أيها الأبله حتى لا تعد لك أسنانك.
أقرأ: "الكوميديا الإلهية" لدانتي, و "جوامع علم النجوم والحركات السماوية" لأبي العباس الفرغاني..تسبح العناوين حولي, وتسبح النية في دمي, والضفدعة جاثمة أمامي كالخيمة تغطيني بنظرات متفحصة..أقول: كيف؟ وهي تضحك دون توقف وتشد بطنها حتى أخال أنها قربة مملوءة بالضحك تنهرق أمامي..ثم إنها فرغت بعد لأي من الضحك واكتسى وجهها صرامة لا تناسب ملامحها الطفولية.."ألم تأت كي أقرأ طالعك؟" قالت.."ها هو أمامك" وأشارت إلى الخيمة بأصبع رفيعة بيضاء..بحلقت في طالعي جيدا, وإذا كل شئ قد غاب دفعة واحدة كما في الحلم, وبقيت هناك أمام العينين الفظيعتين لضفدعة ضخمة وكريهة, ضخمة كالخيمة قيل إنها طالعي الذي أبحث عنه.
ثم إنه لما أضناني البحث , فكرت أن أذهب إلى الخراز الصحراوي أتملى الأحذية المتينة التي يصنع , وعندها قلت: أي جديد عندك أيها الصحراوي؟ وهو قبل أن يرد علي, نظر إلى الصحراوي الآخر الذي كان يجلس في قعر الحانوت والذي أتى من البلاد حديثا ولم يؤمّن بعد شروط الإستقرار بالمدينة, لذلك ليس له في الأيام المقبلة إلا أن يرقب يدَي الصحراوي الخراز وهما تثقبان وجه الحذاء تلك الثقوب الصغيرة التي سوف تسكنها الخيوط, اليدين النشيطتين الطامحتين, يرقبهما وفي القلب حسد أو ربما فخر وإعجاب وأنا لست أدري..قال: انظر وتمتع, إنها ليست أحذية ماكينات..ورشف الآخر من الكأس رشفة صائتة فرأيت الشاي الأسود و"السبسي", قلت : هذا ..هذا الحذاء الخفيف الموكاسان , بكم؟ قال: انظر متانته, وبعدها يحن الله في الثمن..قلت : أعرف متانة أحذيتك كما أعرف أنك صحراوي , ولا داعي للمزيد من النقيق..رشف الآخر رشفة ثانية صائتة كالشفطة من قفا المحجوم, وقال: إنه من قصر "الجرانة", وهو ابن عمي, وأنا جئت أتعلم الصنعة على يديه.
لا..لا مجال للصدفة هنا..كل شئ محسوب في دفتر ما..مدبر ومقروء من قبل الإرادة الأخرى التي لا دخل لنا فيها ..هي أطلعت الضفدعة من البيضة ولم تزد شيئا..والصحراوي الذي لم يؤمن بعد استقراره يحدثني عن قصر الجرانة**, وأقول لنفسي لقد حصل المراد, وأكاد أطير من الفرح..ثم أي شئ قصر الجرانة أيها الغالي؟
سأفهم شيئا فشيئا بانه ليس قصرا بالمعنى المتعارف عليه..ليس شبيها بتلك القصور المتوهجة تحت الشمس, التي يبنيها الجان في ليلة واحدة لأبطال الحكايات, ولا بقصر فرعون الأثري المعروف بمدينة وليلي التي تبعد بثلاث كيلومترات عن زرهون مدينة المولى إدريس الأكبر..هو قصر بالجيم المعجمة كما يتلفظها إخواننا المصريون, يوجد بالجنوب في أقاصي البلاد الصحراوية.
وحينها سأرى بوابته الضخمة, التي تغلق مساءا فيصير مثل القلعة..سأراها حين أزوره, وأرى الحيطان العالية المبنية بالآجر ورمل الصحراء, الحيطان الباردة من الداخل والتي لا تدخلها الشمس إلا عبر كوى في السقوف مفتوحة على مسافات موزونة.."الدهاليز الموحشة للقصور الإنجليزية العتيقة حيث تسرح أشباح الموتى"..هذا ما تذكرته وأنا أعبر الممر الطويل المعتم , أرى الأطفال المحمولين على ظهور أمهاتهم, واللاعبين أمام أبواب الجحور, الذين تتجمع قبائل من الذباب القاسي فوق وجوههم الصغيرة وأعينهم دون أن يرمش لها جفن, والأمهات ذوات الأزر السوداء الفضفاضة التي تغطي الجسد كله ما عدا عينا واحدة, ذوات الأقراط الدائرية الكبيرة المدلاة من الآذان, الواقفات تنظرن خلسة إلى الوافد الغريب , أو المنشغلات بدق عراجين التمر في مهاريس خشبية.
أتابع سيري وأقول : لعل هذا ما كنت أبحث عنه ولعلي لم أخطئ بالمجئ ..ينسدل شعاع من الشمس عبر الكوة المفتوحة, يرقد على الجدار البارد أو قامة غير عابئة, فأذكر أنه ما تزال هناك شمس تضئ هذا العالم..أدور مع الدهليز الذي يتعرج الآن, ثم يمتد أماما دون أن يبين له عمق , ودائما نفس المشهد: أطفال مطوقون بقبائل الذباب ونساء بأزر سوداء وأقراط دائرية كبيرة..يشيعونني بنظراتهم ويتهامسون, وأنا أقول لنفسي الآن: أية علاقة توجد بين هذا القصر المسمى قصر الجرانة والضفدعة التي طلعت  من البيضة؟ يخامرني شك في أني أخطأت..أسترجع بعض التفاصيل القديمة: الحروف الدقيقة المكتوبة على قشرة البيضة, الأصبع الرفيعة البيضاء مقلومة الظفر, أيام البحث الطويلة والشاي الأسود البارد في دكان الخراز..وأعود فأسأل: ما الذي سأجنيه من هذه الدهاليز والحيطان الباردة والنظرات؟ ثم ما شأني بهذه الباب التي تلوح لناظري الآن, وكأنها بانتظاري منذ ولدت, التي تنفتح ويدعوني صريرها للدخول؟
ألتفتُ وراءً, فأرى أنهم توقفوا ..الأطفال عن اللعب والنساء عن التهامس ودق التمر في المهاريس ..ينظرون إلي من بعيد , إلى ظلي الممسوح القسمات..بعيدون هم الآن, وأقرب كوة إلي يتدلى منها خيط أبيض يتيم..وفيما يخيل إلي إني أسمع مقطعا من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن, الخامسة أو التاسعة لست أدري, تلك التي تبدو فيها الموسيقى مثل ريح عجوز وشريرة تصعد السلم, كانت الباب تبتلعني, ودون أن ألتفت هذه المرة, أعرف من صريرها الصدئ أنها تنغلق خلفي, كما أعرف أن المعزوفة إياها إنما هي تهليلات ترحيب لآلاف الضفادع المنتظرة هناك.

***********

* "الجرانة", "قرقورة" لفظتان بالعامية المغربية للدلالة على "الضفدعة"
** القصر (بالجيم المعجمة) نوع من البناء في الجنوب المغربي يضم تجمعا سكنيا, له مواصفات خاصة..


                                           قتل القط

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire