lundi 16 mai 2016

                                                        عصافير و قتلة      

إلى اطفال الحجارة.                             
  


 يتكرر دائما نفس المشهد: يحط العصفور ثم يتهاوى و عندما انحني عليه لأتأكد من موته و أرى دمه و الثقب الذي أحدثه الحجر تمتد الأمواج أمامي صاخبة  سوداء و تبتلع الأرض أرضا لا تنبت سوى الأطايب و الأفراس الجامحة أسميها أمي و تلقبها الجارات بالأم الحزينة.
   عندما يزرنها اتسلل انا من الغرفة و أقصد الشجرة الوحيدة التي بقيت في الحديقة، شجرة الزيتون العجوز الواقفة في مهب الريح. يحطن بها كل مرة و يجهدن أنفسهن كي يواسينها فيما تبقى هي في سهومها الأخرس مثل خريف دائم مثقل بالوحشة.
     - هوني عليك يا أم محمد.
     -  حرام ما تفعلينه بنفسك
و لا ترد إلا حين يقلن لها :                                                                                     
- كل الأطفال اغرموا يوما بقتل العصافير.                                                                           
  عندها تنتفض مثل لبؤة مهددة في شبلها و تقول: لا                                                                 ولدي ليس ككل الأطفال.
 و أفكر لحظتها في الشيء الذي يميزني عنهم ، فكلنا نذهب إلى المدرسة و نلعب الكرة و نشاكس الكبار و ربما لا أبزهم   إلا في عدد  العصافير التي قطفت، لكن هذا بالذات ما يؤلم أمي و يثير غضبها علي. أفكر أحيانا- و خصوصا عندما أرفع عيني و أرى تنهيدتها الكالحة التي تنشر ظلها في جو الغرفة- أفكر في أنني طفل عاق لم يجلب لأمه سوى الحزن و المتاعب ، لحظتها لأفكر صادقا في الإقلاع عن عادتي السيئة أقول للأطفال : هيا نلعب الكرة و عندما يرتفع صياحنا و يحتدم التسابق نحو الهدف أشعر بسخافة هذه اللعبة و يسكنني ضجر مميت أقترح أن نشاكس العم محبوب الذي يتقبل شيطنتنا بصدره الرحب و لا ينزعج منا أبدا لكني ما البث أن أضجر مرة أخرى و يدخلني حنين قاس إلى الهواية التي تشكل بالنسبة إلي تلك المتعة التي لا تحد. و عندما أعود إلى المنزل مساء يكفي ان تلقي أمي علي نظرة خاطفة لتدرك أن عصفورا آخر انضاف إلى قائمة قتلاي، فتسرح تنهيدتها في فضاء الغرفة و أرى أمواج الحزن تغسلها انكمش في ركن و تنتابني حالة كالبكاء أو كدكنة الخريف ثم يحط  الليل فجأة و ينضاف إلى الليل الآخر الذي يسكننا.
 و لقد تكرر هذا المشهد كثيرا وربما كان سيستمر إلى أمد طويل لولا أني رأيتهم ذلك اليوم فتغير كل شيء.
و لم يخب ظنها.
تأكدت من أنها لم تخلف الخلاء و لشدما فرحت عندما قال لها ذلك أدركت أنه لم يعد طفلا أو بالأحرى صار طفلا حقيقيا على الصورة التي كانت ترجوها وقفته، البسمة الناضجة المؤتلقة على وجهه و المضاء الطافر من العينين، تفرست يديه و شكرت الرب: لن تخضبا بعد بدم عصفور. هو قال لها ذلك و صدقته  " سامحيني يا أمي لم أجلب لك سوى الحزن و المتاعب" و هي لم تغضب يوما لتسامحه الآن " لن أقتل عصفورا بعد اليوم" و هذا رجاؤها، لها أن تسعد لها أن تزغرد حتى تسمع كل الجارات  يا سكينة يا أم خالد و أنت يا رتيبة اقبلن لكن البشرى و لم يصدقن آذانهن: أم محمد تزغرد؟ و إذ هرولن اليها لقيتهن كلماتها المفعمة بالفخر و الفرح: ألم أقل لكن إن ابني ليس ككل الأطفال. و أحطن بها مشجعات ة مباركات:
-هكذا يا أم محمد، اضحكي زغردي.
-انسي الهم قليلا
و انطلقن يسألنها و يحفزن الفرح الذي كاد ينطفئ في الأحشاء و كنت عند الزيتونة احضنها و اهيئ نفسي لزمن يأتي قريبا
إسمك : محمد قاسم الباز
سنك: خمسة عشر عاما
بلدتك: فلسطين
سلاحك: الحجارة
من أوحى لك به: الأرض
من يحرضك: الأرض
ماذا تريد الأرض
و كانت ساحرة غناء، بقعة للخصب و انتعاش الروح ناغلة بالعصافير و الفراشات الملونة. كنت سرحت مطاردا العصافير حتى وصلت هناك و كانت فرحتي لا تطاق: سأسقط عشرات الطيور و أؤكد للآخرين أنني الأفضل بدون منازع و أمي؟ لأول مرة تشتعل نظرتها بيني و بين الرمية، في مثل هذه اللحظات أنساها و أنسى الحزن  و الليل و كل شيء. للعصفور وحده الحضور المشع إغراء. كان على غصن مائل قريب و في اللحظة التي اهتز الغصن قليلا و ترك للشمس فسحة تنساح منها و تقبل الأرض ارتعشت يدي المرفوعة و أبطأ الحجر في الانطلاق كانت هناك عينان تتفرسان في حزينتان و مشعتان  غمغمت : أمي و أبطأ الحجر في الانطلاق و انطلقت الرصاصات و أسراب الموت.
عندما عاد |ذلك اليوم تذكرت أباه لأول مرة أراه فيه راجفا و عيناه مسكونتان بشيء كالرعب، كالدم، أو كموجة تتجمع في القعر متأهبة للصعود قال " رأيتهم يا أمي" و ابتلع غصة أليمة، شعرت أنه صار اللحظة طفلا حقيقيا و أنه لن يقتل عصفورا  "هم قتلوا العصافير و قتلوه " قال و ارتجف بين يدي ضممته و باركت الأفكار التي تضطرم داخله و عرفت أني لم أخلف الخلاء، عندما قبلت أباه للمرة الأخيرة رفع إلي عينيه و قال :" ابني هو الأمانة الوحيدة عندك هو استمراري و استمرار النار ربيه على الاشتعال" نظر إلى الأفق مليا ثم ابتسم و قال كأنما يحدث نفسه:" لا لم تقتلوني أيها القتلة" و بعدما نام على كتفي و بكيت..بكاء لوعة و فرح.لي الآن أيضا أن أفرح و أقبل الأرض أنا التي لم تخلف الخلاء.
إسمك : محمد قاسم الباز
سنك: خمسة عشر عاما
سلاحك: الحجارة
من أوحى لك به: الأرض
من يحرضك: الأرض
ماذا تريد: الأرض
أرض الشهادة . دمه الذي ساح، انثال مثل رشاش و عسل جذع الشجرة أنا لا أذكر أبي و لقد رايته ذلك اليوم عندما رأيت العينين غمغمت: أمي ثم أدركت أنهما عينا رجل، رجل جريح لن يكون سوى أبي. لحظتها بدت أجسامهم المقيتة و أزت رصاصتهم و ضحكات و عصافير  و رجل وموت.سقط الرجل و سقطت عشرات العصافير المذبوحة اندغم الدم بالدم، الدم بالدمع ألدمع بالضحكات. و كان ذلك فظيعا ،كان كريها كانوا حيوانات متوحشة كريهة ارتوت دما ثم مضت تهرس العواد في طريقها و تخنق الأعشاب خضبت وجهي بدم العصافير و دم الرجل و بكيت و قلت لن أقتل عصفورا بعد اليوم  .سأقتل قاتلي العصافير.
 وقلت لهم هيا نلعب
قالوا الكرة ؟
 قلت : لا
 قالوا نشاكس العم محبوب ؟
 قلت : لا نظروا إلى بعضهم البعض و أصاخوا السمع.
 و كانت الدورية عند الجسر.
عند أقدام الأشجار التي اصطفت جنب الطريق و انحنت قليلا في محاولة لتقبيل الساقية. هناك اغتيل ابو علي برصاصة في الظهر و هناك اشتبك معهم عبد الرحمان بالسلاح الأبيض و استشهد بعد ان جندل منهم اثنين و جرح الثالث.
 جسر للشهادة و الانفتاح على الشمس.
و في هذه الصبيحة كانت الأرض تنصت لنبضها. وحده وقع الأقدام الغليظة يكدر الصفو. سرب صغير لعصافير كانت تحلم تشتت موصوصا و حلق في كل اتجاه و بدا ماء الساقية أكثر صخبا و اندفاعا. كنا وراء الأشجار نرقبهم و نرقب اللحظة المناسبة ، تقترب الدورية و تنطلق النظرات المقيتة في اتجاهنا تتسلق الجذوع مثل الأفاعي و تخدش الأرض.تتقلص أجسادنا الصغيرة خلف الجذوع و تتوتر مثل سهام تستعد للإبحار. لن أقتل عصفورا بعد يا أمي، هم الذين يقتلونها، يرعبونها ويضحكون، هم الذين ينشرون الظلام  و يريقون الدماء، لكنا هنا رجالا مذ ولدنا و للأعداء حجارتنا و انفتح الجسر دربا ابيض لأسراب العصافير. اسمك : محمد قاسم الباز
سنك: خمسة عشر عاما
بلدتك: فلسطين
سلاحك: الحجارة
من أوحى لك به: الأرض
من يحرضك: الأرض
ماذا تريد الأرض

الأرض الأرض الأرض الأرض الأرض الأرض- قبلت الأرض و عفرت  وجهي بترابها و قلت للجارات : زغردن أنا التي لم تخلف الخلاء.


سبعة أجراس  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire