عصافير و قتلة
إلى اطفال الحجارة.
يتكرر دائما
نفس المشهد: يحط العصفور ثم يتهاوى و عندما انحني عليه لأتأكد من موته و أرى دمه و
الثقب الذي أحدثه الحجر تمتد الأمواج أمامي صاخبة
سوداء و تبتلع الأرض أرضا لا تنبت سوى الأطايب و الأفراس الجامحة أسميها
أمي و تلقبها الجارات بالأم الحزينة.
عندما يزرنها
اتسلل انا من الغرفة و أقصد الشجرة الوحيدة التي بقيت في الحديقة، شجرة الزيتون
العجوز الواقفة في مهب الريح. يحطن بها كل مرة و يجهدن أنفسهن كي يواسينها فيما
تبقى هي في سهومها الأخرس مثل خريف دائم مثقل بالوحشة.
- هوني عليك
يا أم محمد.
- حرام
ما تفعلينه بنفسك
و لا ترد إلا حين يقلن لها :
- كل الأطفال اغرموا يوما بقتل العصافير.
عندها تنتفض مثل لبؤة مهددة في شبلها و تقول: لا ولدي ليس ككل الأطفال.
و أفكر لحظتها
في الشيء الذي يميزني عنهم ، فكلنا نذهب إلى المدرسة و نلعب الكرة و نشاكس الكبار
و ربما لا أبزهم إلا في عدد العصافير التي قطفت، لكن هذا بالذات ما يؤلم
أمي و يثير غضبها علي. أفكر أحيانا- و خصوصا عندما أرفع عيني و أرى تنهيدتها
الكالحة التي تنشر ظلها في جو الغرفة- أفكر في أنني طفل عاق لم يجلب لأمه سوى
الحزن و المتاعب ، لحظتها لأفكر صادقا في الإقلاع عن عادتي السيئة أقول للأطفال :
هيا نلعب الكرة و عندما يرتفع صياحنا و يحتدم التسابق نحو الهدف أشعر بسخافة هذه
اللعبة و يسكنني ضجر مميت أقترح أن نشاكس العم محبوب الذي يتقبل شيطنتنا بصدره
الرحب و لا ينزعج منا أبدا لكني ما البث أن أضجر مرة أخرى و يدخلني حنين قاس إلى
الهواية التي تشكل بالنسبة إلي تلك المتعة التي لا تحد. و عندما أعود إلى المنزل
مساء يكفي ان تلقي أمي علي نظرة خاطفة لتدرك أن عصفورا آخر انضاف إلى قائمة قتلاي،
فتسرح تنهيدتها في فضاء الغرفة و أرى أمواج الحزن تغسلها انكمش في ركن و تنتابني
حالة كالبكاء أو كدكنة الخريف ثم يحط الليل
فجأة و ينضاف إلى الليل الآخر الذي يسكننا.
و لقد تكرر هذا
المشهد كثيرا وربما كان سيستمر إلى أمد طويل لولا أني رأيتهم ذلك اليوم فتغير كل
شيء.
و لم يخب ظنها.
تأكدت من أنها لم تخلف الخلاء و لشدما فرحت عندما قال
لها ذلك أدركت أنه لم يعد طفلا أو بالأحرى صار طفلا حقيقيا على الصورة التي كانت
ترجوها وقفته، البسمة الناضجة المؤتلقة على وجهه و المضاء الطافر من العينين،
تفرست يديه و شكرت الرب: لن تخضبا بعد بدم عصفور. هو قال لها ذلك و صدقته " سامحيني يا أمي لم أجلب لك سوى الحزن و
المتاعب" و هي لم تغضب يوما لتسامحه الآن " لن أقتل عصفورا بعد اليوم"
و هذا رجاؤها، لها أن تسعد لها أن تزغرد حتى تسمع كل الجارات يا سكينة يا أم خالد و أنت يا رتيبة اقبلن لكن
البشرى و لم يصدقن آذانهن: أم محمد تزغرد؟ و إذ هرولن اليها لقيتهن كلماتها
المفعمة بالفخر و الفرح: ألم أقل لكن إن ابني ليس ككل الأطفال. و أحطن بها مشجعات
ة مباركات:
-هكذا يا أم محمد، اضحكي زغردي.
-انسي الهم قليلا
و انطلقن يسألنها و يحفزن الفرح الذي كاد ينطفئ في الأحشاء
و كنت عند الزيتونة احضنها و اهيئ نفسي لزمن يأتي قريبا
إسمك : محمد قاسم الباز
سنك: خمسة عشر عاما
بلدتك: فلسطين
سلاحك: الحجارة
من أوحى لك به: الأرض
من يحرضك: الأرض
ماذا تريد الأرض
و كانت ساحرة غناء، بقعة للخصب و انتعاش الروح ناغلة
بالعصافير و الفراشات الملونة. كنت سرحت مطاردا العصافير حتى وصلت هناك و كانت
فرحتي لا تطاق: سأسقط عشرات الطيور و أؤكد للآخرين أنني الأفضل بدون منازع و أمي؟
لأول مرة تشتعل نظرتها بيني و بين الرمية، في مثل هذه اللحظات أنساها و أنسى
الحزن و الليل و كل شيء. للعصفور وحده
الحضور المشع إغراء. كان على غصن مائل قريب و في اللحظة التي اهتز الغصن قليلا و
ترك للشمس فسحة تنساح منها و تقبل الأرض ارتعشت يدي المرفوعة و أبطأ الحجر في
الانطلاق كانت هناك عينان تتفرسان في حزينتان و مشعتان غمغمت : أمي و أبطأ الحجر في الانطلاق و انطلقت
الرصاصات و أسراب الموت.
عندما عاد |ذلك اليوم تذكرت أباه لأول مرة أراه فيه
راجفا و عيناه مسكونتان بشيء كالرعب، كالدم، أو كموجة تتجمع في القعر متأهبة
للصعود قال " رأيتهم يا أمي" و ابتلع غصة أليمة، شعرت أنه صار اللحظة
طفلا حقيقيا و أنه لن يقتل عصفورا "هم
قتلوا العصافير و قتلوه " قال و ارتجف بين يدي ضممته و باركت الأفكار التي
تضطرم داخله و عرفت أني لم أخلف الخلاء، عندما قبلت أباه للمرة الأخيرة رفع إلي
عينيه و قال :" ابني هو الأمانة الوحيدة عندك هو استمراري و استمرار النار
ربيه على الاشتعال" نظر إلى الأفق مليا ثم ابتسم و قال كأنما يحدث
نفسه:" لا لم تقتلوني أيها القتلة" و بعدما نام على كتفي و بكيت..بكاء
لوعة و فرح.لي الآن أيضا أن أفرح و أقبل الأرض أنا التي لم تخلف الخلاء.
إسمك : محمد قاسم الباز
سنك: خمسة عشر عاما
سلاحك: الحجارة
من أوحى لك به: الأرض
من يحرضك: الأرض
ماذا تريد: الأرض
أرض الشهادة . دمه الذي ساح، انثال مثل رشاش و عسل جذع الشجرة
أنا لا أذكر أبي و لقد رايته ذلك اليوم عندما رأيت العينين غمغمت: أمي ثم أدركت
أنهما عينا رجل، رجل جريح لن يكون سوى أبي. لحظتها بدت أجسامهم المقيتة و أزت
رصاصتهم و ضحكات و عصافير و رجل وموت.سقط
الرجل و سقطت عشرات العصافير المذبوحة اندغم الدم بالدم، الدم بالدمع ألدمع
بالضحكات. و كان ذلك فظيعا ،كان كريها كانوا حيوانات متوحشة كريهة ارتوت دما ثم
مضت تهرس العواد في طريقها و تخنق الأعشاب خضبت وجهي بدم العصافير و دم الرجل و
بكيت و قلت لن أقتل عصفورا بعد اليوم .سأقتل
قاتلي العصافير.
وقلت لهم هيا
نلعب
قالوا الكرة ؟
قلت : لا
قالوا نشاكس
العم محبوب ؟
قلت : لا نظروا إلى
بعضهم البعض و أصاخوا السمع.
و كانت الدورية
عند الجسر.
عند أقدام الأشجار التي اصطفت جنب الطريق و انحنت قليلا
في محاولة لتقبيل الساقية. هناك اغتيل ابو علي برصاصة في الظهر و هناك اشتبك معهم
عبد الرحمان بالسلاح الأبيض و استشهد بعد ان جندل منهم اثنين و جرح الثالث.
جسر للشهادة و
الانفتاح على الشمس.
و في هذه الصبيحة كانت الأرض تنصت لنبضها. وحده وقع
الأقدام الغليظة يكدر الصفو. سرب صغير لعصافير كانت تحلم تشتت موصوصا و حلق في كل
اتجاه و بدا ماء الساقية أكثر صخبا و اندفاعا. كنا وراء الأشجار نرقبهم و نرقب
اللحظة المناسبة ، تقترب الدورية و تنطلق النظرات المقيتة في اتجاهنا تتسلق الجذوع
مثل الأفاعي و تخدش الأرض.تتقلص أجسادنا الصغيرة خلف الجذوع و تتوتر مثل سهام
تستعد للإبحار. لن أقتل عصفورا بعد يا أمي، هم الذين يقتلونها، يرعبونها ويضحكون،
هم الذين ينشرون الظلام و يريقون الدماء،
لكنا هنا رجالا مذ ولدنا و للأعداء حجارتنا و انفتح الجسر دربا ابيض لأسراب
العصافير. اسمك : محمد قاسم الباز
سنك: خمسة عشر عاما
بلدتك: فلسطين
سلاحك: الحجارة
من أوحى لك به: الأرض
من يحرضك: الأرض
ماذا تريد الأرض
الأرض الأرض الأرض الأرض الأرض الأرض- قبلت الأرض و
عفرت وجهي بترابها و قلت للجارات : زغردن
أنا التي لم تخلف الخلاء.
سبعة أجراس
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire