النار.. النار
"يا روح قوة النار
اسمعي صوتي:
ثمة إنسان يحرضك
دون خوف "
من أغنية لشعب البانتو
لست مكتئبا
عدت للتو من المكتبة حيث تركت قبل شهر، عشر نسخ من
ديواني الأخير..
كانت المقاهي غاصة بالأجساد.. الأعين معلقة إلى الشاشات
بحيث لا تفلت أية ركلة أو مراوغة أو هدف، والحناجر تتقصف بالآهات والهتاف
والشتيمة.
وخارج المقاهي
في الشوارع والحقول والبيوت والحانات والمعامل والقطارات
والشركات... نفس السحنات المشدودة إلى رائحة الخبز والإسمنت والأرداف والفلوس
والغد الذي لا يطمئن إليه أحد.
لا كتاب في الأفق
وليس ما بي اكتئابا..
بل سخط لا يحتمل.
عدت للتو من المكتبة بالنسخ العشر التي تركت قبل شهر..
لم يعد الشعر ضرورة (يا ارنست فيشر).. لم يعد لوجودي معنى، فدعوني أيها
المتلصصون.. دعوني أخطو سريعا نحو الموت.
**********
الحزام مشدود إلى الخصر.. القنينة تحت الجاكيت، وعلبة
السجائر والولاعة في الجيب..
جهز نفسه جيدا.. وخرج.
صادف متسولا وعاهرة وماسح أحذية ومقدم حي ومجموعة شبان
ساخطين وزوجين ينتميان إلى القرن الأول.. ولم يجد في كل ذلك ما يغريه بالبقاء.
لم يقبّل ابنه
ولم يخبر زوجته بشيئ..
أوصى بهما نجمة هاربة ليلة أمس، ودبج قصيدة أخيرة بدت له
(ضدا على أي توقع) أنشودة للفرح ( فرح غير مبرر طبعا كما لو أنه نازح من زمن مضى
أو زمن سيأتي)
كانت قصيدة عن الموت
جدارية للقاء الشاعر بالمواطن العادي.. خليل حاوي
بالبوعزيزي.. لقاء اللحظة الأخيرة قبل القفز إلى نهر الأبدية.
أسمى القصيدة "حياة"
علقها على الحائط كوعد شعري وملغوم للعالم..
وجهز نفسه جيدا للخروج..
لم يقبل ابنه
ولم يربت على كتف زوجته أو يغرق في عينيها عينيه خشية أن
تتدلى إلى الداخل العميق وتنكش السخط المتفاقم كريش أزرق.
الآن..
وهو يرى المتسول والعاهرة وماسح الأحذية ومقدم الحي
والشبان الساخطين والزوجين المنتميين إلى القرن الأول والظلال الأخرى للمواطنين
المهدودين، تحسس القنينة الهاجعة تحت الجاكيت، وداخله اعتقاد بأن هؤلاء جميعا
يحملون –مثله- قنينة تحت الثياب وولاعة مخبوءة.
( لو نتفق على لحظة واحدة
لحظة واحدة للاشتعال، فتصّاعد النيران ورائحة اللحم
الآدمي إلى السماء السابعة كسيمفونية حمراء جميلة وملهمة.)
توسط الساحة الصغيرة بمحاذاة النافورة (التي جفت منذ زمن
ولم تعد نافورة إلا عرفا).. خلع الجاكيت، فبدا الحزام الذي يشد الوسط مزدانا بدواوينه
الشعرية.. طبطب عليها فيما يشبه الإعتذار وقال:
-
علي وعلى شعري.
سكب البنزين وقدح الولاعة..
وفيما كان يجهش بالموت الأليم وسط الفزع والذهول
والصيحات مقصومة الظهر، استحضر بعضا من قصيدة الأمس:
( ما الذي حكاه البوعزيزي للنار حين شبت في الجسد؟
ما الذي حكته له
قبل أن ينأى بنفسه بعيدا
كي يتوسد ملح البلد؟)
اضطجع بعدها على الأرض، وتكوم في وضع الجنين، حتى لم يعد
يعرف إن
كان يولد أو يموت.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire