dimanche 24 janvier 2016

مثل فيل يبدو عن بعد(*) تأملات سردية للقاص المغربي حسن البقالي




                                                                الكاتب: عبد الجبار خمران   
أول قصة في مجموعة القاص المغربي حسن البقالي “الرقص تحت المطر” (**) تناول فيها موضوع كتابة القصة القصيرة جدا.. فعوض الخمسمائة صفحة التي وعد بها السارد ناشرا في لحظة حماسة زائدة، سيكتفي برواية من مائة صفحة، بل بقصة قصيرة من ثلاث صفحات، وفي النهاية سينحصر اهتمامه في قصة قصيرة جدا من سطر واحد، تكون كالتالي : “أخيرا كتبت قصة قصيرة”.
يشبه القاص، هنا، عملية الوصول إلى الإضمار والكثافة بما يحيل عليه عنوان القصة "دمى روسية". تلك الدمى التي تضمر كل واحدة منها أخرى. و ليس الأمر محض توظيف شكلاني داخل لعبة كتابية أو ترف تقني أو انحياز مجاني للتكثيف والتركيز والإضمار، بقدر ما هو تمثيل إبداعي دقيق لما يتحتم أنه جوهر العملية الإبداعية، و التي يرسم بورخيس جانبا من ميسمها في واحدة من مقولاته التي يعتبر فيها مسألة تأليف كتاب ضخم أو تفصيل فكرة في خمسمائة صفحة ضرب من الجنون، إن هو أمكن شرح مضمون هذا الكتاب أو هذه الفكرة في خمس دقائق. أو لا شك أن الأمر سيتعلق بانتهاك فادح لروح الإبداع - كما عبر البقالي على لسان السارد في القصة ذاتها - أن أسَود الصفحات، لا لشيء، إلا لأن الناشر ينتظر مني العمل الجديد الذي وعدت به في لحظة حماسة زائدة.
مناسبة هذا التقديم هو التدليل على أنه ليس صدفة أن تكون، أيضا، أول قصة في مجموعة البقالي القصصية "مثل فيل يبدو عن بعد" الصادرة مؤخرا في القاهرة عن مؤسسة سندباد للنشر والإعلام في 90 صفحة من القطع المتوسط، قصيرة جدا؛ مكثفة و يطمح فيها السارد إلى كتابة قصة مضغوطة إلى أقصاها.. نقطة شبيهة بفيل يبدو عن بعد. فبعد لعبة الدمى الروسية وجد الكاتب، كما المرة السابقة، قصته المشتهاة : تلك القصيرة جدا.                                           
تتميز المجموعة هذه، بانتصارها لجنس أدبي وليد.. الجنس/الطفل الذي يخطو خطواته الأولى تحت أنظار آباء متشككين، ويثغثغ في وجه العالم.. كما يعبر البقالي في مقدمة المجموعة. صاحب "الإقامة في العلبة" يعمل بجدية على تكريس إقامة "تلك القصيرة جدا" في قائمة الأجناس الأدبية. جدية مشبعة بحب أدبي و مشروع قصصي محدد وواضح المعاني والمعالم انطلاقا من اختيارات وقناعات محددة. فالكتاب يحرج أوصياء الأدب المتشككين، ويزف للقارئ القصة القصيرة جدا بمحياها الجميل وقدها الفاتن، ويفوت الفرصة على متصيدي النماذج الهزيلة والنصوص العجاف والقصص المحتضرة تحت عنوان القصيرة جدا، لتبرير رصاصة الرحمة الشامتة والكامنة في مسدسات نقدية مهترئة. المجموعة لا تترك للقارئ إلا حيزا للمسرة و الانتشاء والتأمل، والإقرار باختلاف هذا القاص واختلاف كتابته القصصية. يقول د.عبد الغفار مكاوي في كلمته على ظهر غلاف المجموعة : "وهذه المجموعة القصصية الرائعة للكاتب حسن البقالي تختلف اختلافا جوهريا عن عشرات المجموعات التي تنهمر فوق رؤوسنا كل يوم، فالواقع أنها قصص (بعدية) أي تأملات سردية في معنى القص نفسه وماهيته ووظيفته وقيمة التجارب أو اللحظات الجمالية الكامنة فيه".
وإذا كان هذا البعد التأملي في جوهر السرد وماهيته يتضح جليا في النصوص الإبداعية، فرؤية القاص نظريا تشع قسماتها من مقالته العميقة التي سطر فيها أجوبته/المرجعية على سؤال :
- ما الذي يجعل من القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا مغريا، ونصا قصصيا جميلا ؟
و قد أدرجها كمقدمة لأضمومته القصصية "مثل فيل يبدو عن بعد" تحت عنوان "تلك القصيرة جدا" (صفحة 5) والتي يستهلها بقصة المدرس الذي طلب من التلاميذ أن يرسموا فيلا. فما كان من أحدهم إلا أن رسم نقطة على السبورة، وعندما سأله المدرس عن سر النقطة.
قال التلميذ :
                                                                                               
- إنها الفيل الذي طلبت رسمه.
                                      
- لكنني لا أرى سوى نقطة ضئيلة في امتداد السواد.
                                                    
- طبعا.. لأن الفيل بعيد جدا.”
                                      
إذن هي القصيرة جدا ما شبه القاص بالفيل الذي يبدو عن بعد. يقول البقالي في مقدمته : تلك النقطة الضئيلة على السبورة هي القصة القصيرة جدا.. التي تبشر بعالم له شكل فيل أو غابة.. أو درج إلى العمق الإنساني.. شكل يتعاون كل من الكاتب والقارئ على رسم ملامحه والنفاذ إلى بواطنه وتتبع إيحاءاته".
وإلى جانب التأمل السردي في ماهية القصة، عبر نصوص قصصية تفكك عملية الكتابة ذاتها جنح حسن البقالي، كعادته في إصداراته القصصية إلى تنوع في الموضوعات وتشعب في الأساليب.. ففي قصة "قراءة نوعية" تبدو سخرية البقالي طافحة، فالسارد في قراءته النوعية هذه لا يحتاج فتح الكتاب حتى : "الكتاب بين يدي. وصورة الكاتبة جذابة على صدر الغلاف. ما الفائدة من تقليب الصفحات......؟؟” (قراءة نوعية - صفحة18) هنا نلمس نقدا لاذعا لأولئك الذين يستمرئون الوقوف عند المظهر دون الجوهر أو القشرة دون اللب.. وفضحا لدوافع بعض القراءات التي تغرق الصحف والمواقع والكتب والتي يصفها أصحابها بالنوعية، فتبدو المفردة فارغة من محتواها.
وغير بعيد عن روح السخرية والوخز اللاذع ينتقد القاص زمن البطولة المشوهة والمعارك المهينة في قصة (البطل ص34) يقول السارد “خاض حروبا عديدة انتصر فيها جميعا.. وحين أفاق.. كانت آثار معركته الأخيرة بادية في شكل بلل على السروال”
                
في نفس المناخ يندرج نص (قائد محنك ص35) ”التفت على جبل سامق وبضعة تلال، وقاد جيشه عبر وهاد مكتملة، وصل إلى فرجة من الأرض اختارها مكانا للموقعة. وقف خطيبا.. استثار الغرائز والمشاعر البدائية الدفينة.. حتى إذا جاشت الأنفس بالرغبة في اجتراح الفظاعات، قسم الجيش نصفين وقال : اقتتلا.”
                                                 
عند الكلمة الأخيرة "اقتتلا" تتضح الفكرة التي من أجلها كتبت القصة.. وطريقة "التجلي" هذه أو الكشف عن المغزى عند خط نهاية النص، تجعل المسار السردي للقصة يخدع القارئ الذي ينتظر ما الذي سيفعله هذا "القائد المحنك" بعد أن جيش المشاعر واستثار الغرائز.. هنا نقد للحروب المجانية والفارغة، وللحرب الطائفية أو الأهلية.. و كذا قصر نظر القائد والزعيم الذي يستغل المشاعر البدائية لأجل مصلحة مخفية..
                                
يلاحظ أن عناوين النصوص الثلاث مفارقة للمتن السردي، فلا القراءة النوعية كانت كذلك ولا البطل بطل بالمعنى المتداول ولا القائد قائد محنك بحيث يقود جيشه إلى انتصار ما، أو على الأقل إلى معركة حقيقية.
وعن معارك صغرى أخرى، هذه المرة، يقترف القاص تعرية تصدع العلاقات الإنسانية والروابط الحميمة وانكسار جسور التواصل. فنجد من النصوص ما يلقي الضوء على الحقد الدفين المتبادل بين رجل وامرأة أو بين الأفراد عامة. يقول السارد : "نظر إليها... نظرت إليه... كانا يعرفان بعضهما... ويعرفان ألا شيء يجمع بينهما... غير نظرات مثقلة بازدراء متبادل وحقد مكين." (شعور متبادل صفحة22) في نفس الاتجاه مع زيادة تخمين الدوافع والأسباب الغير واضحة تماما لهذا الكره الدفين وهذه النظرات المتوعدة بالجحيم. تتناهى إلى ذهننا حيرة السارد في نص (ربما صفحة 24) : "ربما بدر مني فعل ما... في يوم لا أذكره أو حياة سابقة... أغاظ الشخص الذي يجلس قبالتي... هذا ما استنتجته على الأقل من نظراته التي تتوعدني بالجحيم." وعبر خط سردي خفي تصاعدي يشد النصوص إلى بعضها، نمر على نص (قطرة صفحة42) والذي تصل فيه حدة الصراع إلى القتل بجدارة. يقول السارد: "لقد قتله... كانت هناك قطرة وحيدة في صحراء التيه... أحدهما فقط يستحقها... بجدارة قاتل حقيقي." و عملية القتل لعبة كتابية أثيرة عند البقالي، يوظفها بمهارة سردية لا تخفى على قارئه، فهاهو السارد في نص (جريمة كاملة صفحة55) يخبرنا بأن القاتل يفخر بأنه صار قاتلا، دون أن يتمكن أحد من إثبات وقائع الجريمة. لكن هل الجريمة كاملة هنا فعلا، كما يدل على ذلك العنوان، أم أنها لم تحدث أصلا؟ وأي من الجرائم هي؟ لنعد إلى النص كاملا: "عندما ثارت الزوبعة الرملية... استل خنجرا ورشقه في قلبها. يقسم على أنه لمح قطرات دم آزرتها صرخة مكتومة.. ويفخر بأنه صار قاتلا، دون أن يتمكن أحد من إثبات وقائع الجريمة."
كل ذلك وغيره من الموضوعات كالعلاقة الملتبسة بين الرجل والمرأة، الموت، الفن، هموم المواطن البسيط وصراعه مع الضرائب ووطأة الإحالة على المعاش، التاريخ وحتميته، الحرب وقذارتها والتي يترسخ اعتقاد شخصية أحد نصوص المجموعة (استيهام صفحة36) بأنها غائط البشرية وبأنه كملازم أول؛ مجرد دودة ضئيلة تستوطن الغائط.. قلت كل ذلك وغيره يصبه القاص في وعاء لغوي له من الشعرية والبهاء والرشاقة ومن الجاذبية وجمالية الخطاب -والتعبير للقاص نفسه- ما يغري حاملي الأقلام بخطب ود "القصة القصيرة جدا"، ضدا على الامتعاض الذي تخلفه لدى البعض ممن استمرؤوا المعاطف القديمة.
عبد الجبار خمران                                                                   
كاتب مغربي مقيم بباريس
-----------------------------
(*) مثل فيل يبدو عن بعد "قصص قصيرة جداً" حسن البقالي - الطبعة الأولى 2010 عن سندباد للنشر والإعلام بالقاهرة.
(**) الرقص تحت المطر"قصص قصيرة جداً" حسن البقالي - الطبعة الأولى 2009عن سندباد للنشر والإعلام بالقاهرة.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire