jeudi 7 janvier 2016

                                 جمالية التجريب القصصي
                  في"سبعة أجراس لزمن البرتقال"[1]  لحسن البقالي
                                                       الطيب هلو

تقديم
    يكشف التأمل في حصاد القصة القصيرة بالمغرب عن وفرة في الإنتاج وحركية في التأليف؛ إذ تجاوزت المجموعات القصصية المائة الرابعة، وهو عدد لا يستهان به إذا قيس بعمر هذا الجنس الأدبي. لكن الملاحظ أيضا أن القراءات النقدية لم تتناول من هذا المنجز إلا مجموعات قليلة، كما أن الذاكرة الثقافية لا تحتفظ إلا بمجموعات أقل، بفضل ما تمتلكه هذه المجموعات من بصمات تجعلها عالقة بالذهن. فلا أحد يمكن أن ينسى مجموعات ك"الممكن من المستحيل" لعبد الجبار السحيمي أو"سلخ الجلد" لمحمد برادة أو "طارق الذي لم يفتح الأندلس" لمصطفى المسناوي أو "النظر في الوجه العزيز" لأحمد بوزفور أو " اشتباكات" لأمين الخمليشي أو"رائحة الورس" لعبد النبي دشين تمثيلا لا حصرا.
    ومن هذه المجموعات التي لا تنسى، والتي ما تزال تحتفظ ببريقها رغم مرور أكثر من عقدين على صدورها، ويمكن عدها محطة ضرورية في تتبع مسار القصة القصيرة بالمغرب و لبنة  أساسية في صرحها الشامخ، مجموعة "سبعة أجراس لزمن البرتقال " للقاص و الروائي حسن البقالي. فهي مجموعة قصصية جديرة بالقراءة المتجددة لكشف بعض أسرار حضورها الدائم في ذاكرة السرد المغربي.
 جمالية العنوان:
    عندما يختار حسن البقالي " سبعة أجراس لزمن البرتقال " عنوانا لمجموعته الأولى فإنه يعلن في الآن ذاته امتطاءه للتجريب، بوصفه مخالفة للسائد و إقلاقا للمألوف من جهة، ورؤية فنية وفكرية ضرورية لتطوير القصة المغربية و إخراجها من وضع ظلت حبيسة أركانه الفنية وموضوعاته الواقعية ورؤيته الإيديولوجية من جهة ثانية. فهذا العنوان إيذان بالقدوم وإنذار بخطر ما، تحمله لفظة الأجراس. فالجرس استئذان، وقرع الأجراس إخبار بخطر محدق، كما في التعبير المتداول "دق ناقوس الخطر"، وفي تحديد العدد (سبعة) ما يكشف عن الإصرار ـ إذا كان العدد مقصودا لذاته ـ وعن المبالغة، إذا نظرنا إليه في دلالته الرمزية الدالة على الكثرة. ومهما كانت دلالة العنوان فإنه كان إعلانا مبكرا عن ميلاد قاص حقيقي يجيب عن سؤال " إرنست همنغواي": لمن تقرع الأجراس؟
 إنها تقرع " لزمن البرتقال".
     وبالعودة للقصة التي تحمل هذا العنوان ندرك أحد أسرار جعلها عنوانا للمجموعة القصصية. فهذه القصة تقف وحدها دليلا كافيا على فرادة تجربة القاص، وامتلاكه لرؤية خاصة عن التجريب، يبعده عن الفوضى والتدمير.
    إن التجريب عند حسن البقالي كسر للسائد والمألوف، لكن بوعي وحذر شديدين. فتحديث القصة عنده ليس مجرد لعب أو تخريب، والقصة ليست هذيانا وفوضى. إنما النص الجيد عنده هو من يملك القدرة على الإبهار وتسريب الدهشة والإمتاع إلى المتلقي من خلال الحرص على التواصل معه. فحسن البقالي في هذه المجموعة يكشف عن تبصر بالشرط التاريخي والجمالي الذي يكتب ضمنه. إنه يكتب لقارئ يعيش زمنه، ويشترك معه في المعيش اليومي وفي الذوق، وليس لقارئ افتراضي لا يعيش إلا في خيال المبدع.     
      إن قراءة نصوص حسن البقالي تقنع القارئ أن التجريب ليس ضد النظام، وإنما هو نقل للنص القصصي من نظام بسيط وعادي إلى نظام أكثر تعقيدا وتعددا، نظام يوازي ما يعرفه العالم الحقيقي من تعقيد وتعدد، وما تحسه الذات داخل هذا العالم من تشظ وخواء وقلق.
   فكلما انطوى الدال على قدر كبير من التباين والمغايرة والاختلاف، وكلما كان أكثر قوة في إنتاج معناه وإظهاره، كان أكثر فاعلية في إطار مشروع تفكيك وتذويب البنى القائمة. فكل نص جديد حريص على تقويض المقومات الفنية التي تسم النصوص السابقة، يعمل في الآن ذاته (بوعي أو بلاوعي) على تفكيك البنية الذهنية والسياسية التي أنتجتها، والأساس الفكري والاجتماعي الذي ارتهنت إليه. فرفض الخطية والتتابع في القصة التي تحمل عنوان المجموعة، مثلا، تقويض لمبدأ السببية والارتباط الفكري، وهدم لمفهوم المهادنة والسيرورة السلبية اجتماعيا وسياسيا.كما أنه يمنح القارئ إمكانية النظر الطموح إلى وضع اجتماعي ترتسم على ملامحه التعددية والمغايرة وقبول الاختلاف بوصفها مطالب راهنة وملحة. ففي كثرة عدد "الأجراس" ما يمنح التعدد معناه.
معمار النص القصصي:      
   شكل تكسير البنية التقليدية للقصة القصيرة النقطة الأولى في مسلسل التحديث القصصي؛ لأن صرامة البناء الكلاسيكي تمنع تحقيق حداثة المضمون أو الكشف عن رؤيا جديدة للعالم والإنسان. وهذا ما يمكن كشفه من خلال الاطلاع على المحاولات التجديدية السابقة لعقد الثمانينيات، والتي اتسمت بالجزئية؛ وبذلك لم يتبلور التجديد عند كتابها بوصفه رؤية جذرية وشاملة.
إن الرغبة القوية في تحديث القصة القصيرة، عند قصاصي الثمانينيات ومن بعدهم، جعل التجريب على مستوى معمار النص رهانهم الأول، ليمكّن بقية المكونات والعناصر من التحرر؛ وأعني تجديد الرؤيا ونقلها من الهم الجماعي إلى الهم الفردي والإغراق في التذويت، ثم تجديد اللغة وجعلها لغة شعرية من خلال منحها طاقة موسيقية وكثافة تعبيرية قوية جعلت بعض النصوص القصصية قريبة من الشعر، ثم تشظية العناصر القصصية الأساس، كالحدث والشخصية واللعب بالفضاء وغيرها.
لكن الذي وجبت إليه الإشارة أن كتاب هذه المرحلة تتفاوت درجة كسرهم للبناء الخطي للقصة القصيرة، فمنهم من جرب بحذر شديد خاصة من تتلمذ بشكل أساس على كتابات السبعينيين، ومنهم من وصل بالتجريب إلى تشظية البناء وتفجيره، وتمزيق خطية السرد باستخدام تقنيات جديدة كالقطع والانتقال والحذف، أوبالانفتاح على الأجناس الأدبية والفنية الأخرى كالمسرح والسينما والشعر والتشكيل، خاصة المتأخرين من هذا الجيل، والذين قرؤوا بانتقائية ووعي محاولات التجريب الأولى عند جيل السبعينيات، أو من تأثروا بالقصة الجديدة في المشرق، أو بالكتابات الغربية المترجمة.
إن كتاب الثمانينيات لم يركنوا إلى بناء فني قار وجاهز ، فقد استطاعوا أن يقدموا منذ بواكير أعمالهم قوالب متعددة للنص القصصي، متضادة أحيانا، وغير منضبطة لشكل جاهز، مما جعلها تشي بالإمكانات والتقنيات القوية والعديدة للكاتب. وهو الأمر الذي تأكد لاحقا في مجموعاتهم القصصية المتوالية. فأشكال الكتابة القصصية عندهم مفتوحة، قائمة على الاحتمال والانهيار، في خلخلة واضحة لأركان القصة المتعارف عليها. 
وبقراءة مجموعة حسن البقالي "سبعة أجراس لزمن البرتقال" نجد حضور قصص منضبطة للشكل الكلاسيكي، من حيث احترام الحدث والزمان والمكان والشخصيات، وهي سمة واضحة في أغلب نصوص هذه المجموعة. ونمثل لذلك بنماذج دالة منها قصة "الشحاذون"[2]لحسن البقالي التي يبدأها القاص بوصف حالة الجو التي سار فيها الشحاذ، يقول:" على صفحة السماء غمامة محشوة بالقطن.. وتحتها كان يمشي بطيئا يتكئ على عكازه ويغالب الطريق.. كان يعرج قليلا وكان وحده تحت الغمامة البيضاء ذات صباح جميل" وهكذا تسير القصة محترمة تسلسل الأحداث إلى أن تصل إلى نهايتها المفاجئة " نقر الرجل العكاز على الإسفلت فتعالى نشيد وهديل.. أخذ العكاز، فككه، أعاد تركيبه .. قال:
ـ نريد ... رأسك !
صوب العكاز نحوه وكان بندقيته." 
  وعلى هذا المنوال تسير مجموعة من قصص حسن البقالي: بقعة زرقاء في شارع طويل ـ حبيب الصخرة ـ الرجل الذي رحل إلى الشمال ...
وهو ما يكشف أن هذه النصوص محكومة بالأسلم. وهو أمر طبيعي في المجموعة الأولى لأي كاتب. لكن، مع ذلك، تجاور هذه النصوصَ نصوصٌ أخرى بدأت تظهر فيها بوادر الخصوصية والتفرد، والتي ستبرز بشكل أقوى في المجموعات اللاحقة، وهو ما يعكس أن القاص كان على وعي بضرورة تحديث البناء القصصي، فقام بمحاولات للتجديد منها:
أ ـ تكسير سيرورة السرد باستثمار العناوين الفرعية: ويمكن أن نمثل لذلك بقصة "سبعة أجراس لزمن البرتقال" [3]والتي جعل الكاتب عنوانها ميسما للمجموعة، وكأنه بذلك يشير إلى تجديده من خلال استثمار مؤشر العنوان. وقد وزع القاص حسن البقالي هذا النص إلى سبعة مقاطع يحمل كل منها عنوانا، وهي: موت البرتقالة أو ابتداء النهار ـ الرحلة إلى زمن البرتقال ـ الدخول في زمن البرتقال ـ ما قلته للعامل الآخر ـ ما قاله لي العامل ـ موت النهار أو ابتداء الحكاية ـ حوار أخير برتقالي الطعم. كما استثمر تقنية التوزيع إلى عناوين في قصة أخرى هي" محرار"[4]، والتي وظف فيها مقاطع معنونة بضمائر منفصلة: هو ـ هي ـ هما. أما في قصة "مواويل لزهرة تستيقظ بعد قليل" [5] فقد فضل استعمال الأرقام من 1 إلى 17. ولعل في تكرار هذه التقنية وتنويع توزيع المقاطع بين الجمل والضمائر والترقيم ما ينفي عن هذا الفعل الاعتباطية ويدخله دائرة القصد، وهو ما ستعمقه المجموعات القصصية اللاحقة.
شعرية اللغة:
تمتطي نصوص " سبعة أجراس لزمن البرتقال" لغة شعرية قوية لكن دون تفريط في الجوهر السردي للقصص. ويمكن كشف هذا الحضور الشعري من خلال الاستعارات العديدة التي وظفها القاص لوصف المكان أو الشخصية أو لنقل إحساس ما. وقد وزع القاص هذه الاستعارات بمهارة وحذق على كافة نصوص المجموعة درءا لأي تفاوت فني قد يشوبها. ويمكن أن نقتنص بعضا من هذه الصور الجميلة العاكسة لإحساس الشخصيات تجاه الزمن والمكان والأشياء. وقد ساهمت هذه الاستعارات في شحن النص بطاقة خاصة قوامها الأنسنة. فقد أضفى القاص صفات إنسانية على الأزمنة والأمكنة والأشياء. ف"خيوط الغبش تنسج للصبح الرداء" والليل "يتحسس عباءته يريد أن يغطينا" و"الليل ما يزال يلم بقاياه ويتوجع" و"الصباح  يتمطى، يبتسم ابتسامة ملغزة" ... والأمثلة كثيرة يتعذر إيرادها كلها.
وإلى جانب الاستعارات التي أوردنا نلاحظ استعمالا خاصا للتشبيه. فإذا كانت أغراض التشبيه تدور في مجملها حول تقريب المشبه وبيانه، أو بيان حاله أو مقداره وغيرها مما هو متداول في كتب البلاغة، فإن حسن البقالي ينفرد بعكس هذه الأغراض إذ يميل التشبيه عنده إلى الإغراب والتباعد. ولعل في ما سنورده من أمثلة دلالة على ذلك:( صمت مثل ذئب ـ عواء كئيب يعلو في الفضاء ثم ينقذف داخل الرجل مثل سبة لا تحتمل ـ الشارع خال ومرعب كأنه قطعة هاربة من زمن آخر ـ كان الفصل صيفا والشمس حمراء كالجريمة...) ولعل الغرض من التشبيه ليس تقريب المعنى بقدر ما يهدف إلى نقل الإحساس بالفداحة والخراب الإنساني من جهة واستفزاز القارئ للتوقف عند كل عبارة للتأمل بدل القراءة السريعة الاستهلاكية.
إن في استخدام القاص حسن البقالي هذه التقنيات البلاغية بصورة جديدة غير مألوفة وبهذه الكثافة العارمة يجعل بعض المقاطع قصائد حقيقية كقوله: " آه أيها المدى ما لون الردى" 15
" ماعاد للطفولة لون، وما عاد الفرح يغني على الوجوه."ص9 أو في قوله: " هل كان بريقهما شمسا متوهجة بالأحلام والأحزان أم كان قارة غارقة في الخط الفاصل بين الوجود والعدم؟" 10
في الختام نؤكد أن قارئ هذه المجموعة سيدرك، ومن خلال كل نصوصها، أن النص الإبداعي التجريبي الناجح هو النص الذي يسمح داخله بالتقارب بين الأشياء المختلفة، ويمكِّنُ القارئ من النظر إلى العالم، ليس بوصفه سيرورة خطية تتابعية للأحداث، وإنما باعتباره عالما خاصا يموج في حالة من الحركة المستمرة والدوران الدائم. فالتجريب ليس بالضرورة تدميرا كليا للمعنى، وليس إصرارا على الخواء والغياب واللاجدوى. وإنما هو في عمقه تفكيك للبنى الداخلية للنص، تمهيدا لانفتاح المعنى وتعدده.
 بهذا المعنى ندرك أن التجريب القصصي عنده يتحقق من خلال قدرته على إنتاج منظومة من التفاعلات، تمكنه من إبداع اللاممكن من الممكن والمتحرك من الثابت، وذلك عبر إقامة التوافق بين النظام واللانظام، والمراوحة بين مبدإ الهيمنة وسلطة المعيار ومبدإِ المغايرة والاختلاف داخل النص القصصي الواحد.

الهوامش:






[1]  ـ حسن البقالي، سبعة أجراس لزمن البرتقال/ منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى. الرباط 1991 
[2]  ـ نفسه ص 9
[3]  ـ نفسه ص 17
[4]  ـ نفسه ص 63
[5]  ـ نفسه ص 55

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire