وهل سليمان يحكم الريح؟
"بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على
أشرف المرسلين، أما بعد؛ نقول لكم إننا حاولنا الهروب من البلدة، ولكن للأسف
الشديد فالبحر هاج علينا بقوة صعبة، تبقون على خير.. أنا السيد درقواني لخضر.. أبي
الحبيب، أمي الحبيبة.. تهلاي في روحك وأبي كذلك وإخواني وأخواتي، اللهم إغفر لنا
وارحمنا يا ربّ العالمين.. آه.. اللي ما يديرش الراي.. والله ما راه رابح. إلى
اللقاء يا أمي وأبي.. أنتما أغلى ما في الدنيا.. وشكرا. ..أنا آسف " .
رسالة مهاجر سري جزائري ألقى بها لحظات قبل موته غرقا
الأرض قالت لي: ارحل من هنا ..فرحلت.
أنا الآن فوق الماء تحت السماء ولا شئ معي غير خوفي
والظلام.
صوت المحرك المتعب..همهمة او حشرجة أو بكاء مكتوم,
وسليمان لا أميز جسده بين الأجساد الفائضة عن سعة المركب.
هو الذي لبس جبة إبليس وأغواني بالرحيل ..ابن الدوّار ,
تِربي وزميل الدراسة الأولى التي لم تُفض إلى شئ, و الطعام المشترك, حتى إذا ضاقت
علينا الدنيا وصار الأمل مثل ثقب إبرة, قال:
- هيا "نحرق".
فأجفلت..
عضضت على ألمي وأشحت بوجهي إلى الجهة الأخرى أغمغم:
- الغرب سراب, وطريقه محفوف بالجثث.
- سراب؟ وابن الداودية..وكبور ..والحسيني, هؤلاء سراب؟
كانوا أترابنا أيضا.
يعيشون فقرنا , ويئنون من آثار النصل الموغل في
الحنايا..يأتون الآن بسيارات فارهة , يرطنون باللغة الإيطالية أو لغات أخرى لا
نفهمها وينظرون إلينا من فوق.
كنا نعرف أنهم أكلوا من فاكهة مّا محرمة, وما عادوا كما كانوا..كما نحن, بؤساء ومتخمين
باللاجدوى..
- لكن..
- لكن ماذا أيها التعس؟
- الآخرون الذين سقطوا في الطريق, أعني في البحر وساهموا
في رفاهية الحيتان
- دود أو حوت ما الفرق؟ وهل كانوا أحياء قبل ذلك؟ هل نحن
أحياء؟
في كنف دوار جف, دون شغل ودون أرض أو أفق..فقط تلك
القطرات التي تسقط في كأس الروح قطرة قطرة, حتى يفيض بجنون له ألف وجه..هل نحن
أحياء؟ابن اللعينة سليمانُ إبليسُ كم كان على صواب حينها.
أما الآن فلا شئ يبدو حقيقيا في هذا البرد, هذا الخوف,
هذا الظلام:
صوت المحرك القادم من قارة أخرى ..الأعين غير المرئية
اللائذة بالخواء والأفكار التي تشق جغرافية الذهن بلا رحمة..الأفكار المشوشة عن
الحلم والأمل الثراء المستقبل العائلة الغرب الموت والحياة..التي تنطفئ بسرعة قبل
أن تتشكل كاملة , ويبقى الخوف ..الخوف وحده.
أسمع حشرجة شخص يقئ ..يقذف برعبه في الماء , ويود لو أنه
لم يحلم أبدا بترك الأرض..ثم صوت قائد المركب يحدّث مساعده في خفوت لكن ليس دون
غضب:
- أَسكت هذا الكلب , امنعه من إصدار أي صوت, لعلهم
قريبون منا.
حرس السواحل الإسبان ..
الذين يطاردون أحلامنا بالرسو على الشاطئ , ينبغي ألا
نصادف دورياتهم..بعد كل العناء و الانتظار والآمال التي أزهرت ..ربما كان الشاطئ
على بعد أمتار قليلة, وأوربا المغسولة بالندى والحياة الكريمة..
أو ربما الموت.
تحملها الريح التي هبت قبل قليل, ضدا على التوقعات,
والفزع..هل هو الليل أو النهار.. قل يا سليمان أما لهذا الظلام من حدود؟
توصيه أمي:
- خذ بالك من ولدي, أخشى عليه البحر وزعراوات الغرب..
- سيأتيك ابنك محملا بالهدايا والأفق المضئ .
يرد ضاحكا فيما يشبه المونولوج ..فكيف تمددت المسافة بين
الضفتين؟ كيف صارت لانهائية والزمن المقتطع للرحلة, خارج الزمن؟ أنكون تهنا أم هي
مناورات القائد كي يتحاشى دوريات المراقبة؟
مركب يشق الماء في احتراس..أجساد منهكة..ترقب ملتبس
وخوف, ثم صوت يعلو في الظلام ..يعلو فوق اهتزازات المركب ونحيب الريح والضجيج غير
الملموس لمئات الأفكار المتوثبة في كل الجهات مثل فلول جيش مندحر وغير واثق من
النجاة..
صوت كئيب أشد ما تكون الكآبة ..
يقطع نياط
القلب.
ابتدأ همهمة, ثم نشيجا بالبكاء,ثم ما لبث أن استحال ,
رغم التحذيرات والتهديد الكاوي, الى عواء
ذئب لبراري الوجع ..
- اصمت يا حيوان
عويل مرير يتقطعه كلام شبيه بالوصية الأخيرة :
- سامحيني يا أمي, سامحني أبي
- لماذا تركتماني آتي الى هنا.. لو قيدتماني الى شجرة
الدار..
- اسكت..اسكت ينعل...
يستمر العويل, مدثرا بالخوف والبرد والموج والريح
متنامية القوة..وكنا نتذاوب تحت وقعه الغامر لكل الضفاف والباعث على الأسئلة
الأولى, الحارقة.. عن النحن والآخر, الهنا والهناك, الحياة والموت.. حتى انطلقت
رصاصة من فم القائد:
- اقذف به في البحر
فهل سمعنا ما كان ينبغي سماعه,أم أن عطب الحواس صار يقدم
للذهن مواد منتهية الصلاحية ودون طعم؟
- اقذف به في البحر
و.....
ما الذي حصل؟
لماذا علا فجأة صوت الماء , فغر فاه الخرافي وابتلع
الجسد؟
كان هنا شخص مَا وسط الجمع المذعور , وما عاد.
- سامحيني يا أمي سامحني أبي..
فغر الماء فاه وابتلع الكلام..ابتلع العويل والخوف
والماضي والمستقبل وحلم الثراء ودفء العائلة والندم..وابتلع الوصية الأخيرة.
هل رأينا الذي ينبغي أن يُرى: دفعة اليد الآثمة وسقوط
الجسد ثم هرولة الحيتان الى وجبتها؟
اهتز المركب
بفعل هبوب أعنف للريح, وغليان الدم في العروق المستنكرة ,وعلت موجة..
وتلك الرائحة ..التي هي مزيج من روائح البابونج وماء
الزهر والتين المجفف وظلال أعشاب نامية في فوضى فوق القبور.. ناديت:
- يا سليمان أين أنت؟
ابن الدوار..تربي وشيطاني الذي أغواني بالرحيل..هل الشاطئ
ما يزال بعيدا؟ والنهار؟
غالبت أعضاء تخشبها وتعالت أصوات متوعدة وأسراب ذعر..ومر
شريط مسرع أمام العين, لحظات للبهجة العابرة وأخرى للرماد..أرض وماء ..أرض ثابتة
وموج هادر وريح ومركب يترنح..وعينا أمي وصوتها الواشي بالقلق الثاوي بين خلجان
الروح:
- أخشى عليه البحر وزعراوات الغرب.
ووسط الفوضى التي حلت, وتصاديات الغضب والخوف واهتزازات
المركب, وفي لحظة خاطفة كالوميض , خلت أن صوتا يراودني من خلال الغيم :
-
وهل سليمان يحكم الريح؟
(قصص)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire