رانيا
كنا في
المقهى حين مرت "لاراف". ثانية واحدة كانت
كافية كي تظهر وتغيب عن الأنظار, بيد أن أ شياء عديدة حدثت خلال تلك الثانية.. لقد
تقلصت عضلات وزمت أفواه, تخلصت أيد من بضاعة ممنوعة, وانسكنت العيون بظلال مريبة
لأقبية تحت الأرض ومسارب سرية . ولو رغبنا في مواصلة أحاديثنا السابقة لتعذر علينا
ذلك , فكلنا يعرف جيدا أن لا شئ يبقى
مثلما كان, بعد مرور لاراف.
ران علينا
صمت ثقيل, ظل يحدجنا بضراوة مربكة أفقدت جلستنا حميميتها المعهودة. كنا نستشعر
وجود لاراف بيننا, تدورحوالينا متربصة, تقرأ الفناجين وتفتش الجيوب الداخلية.. ثم
حصل ذلك الشئ الغريب: امتلأت المقهى بالضحك .. ضحكة موحدة صاخبة, تعالت من الأفواه
في نفس اللحظة , كأن الأمر تتويج لعشرات التمرينات السابقة.. ضحكة متفق عليها
وضرورية, انفرجت بعدها الأسارير وتمكنا من النظر الى بعضنا البعض.
هكذا تخلصنا من لاراف كحالة نفسية , لكنها بالمقابل ,
ظلت حاضرة كموضوع للتداعيات والحكايات . كان ذلك عندما سأل أحدنا "ابا
علال":
- لم لا تقص علينا حكاية عن
لاراف؟
" كنا
على أهبة تناول الغذاء حين طرق الباب وسأل: هل عندكم رانيا؟
ورانيا
صبية دون الرابعة..بقُصة سوداء وجسد مكور وصغير كحبة مشمش, تنسل من المنزل في غفلة
عن الآخرين, وتقصد إحدى دور الجيران حيث تغرق طيلة ساعات دون أن يسأل عنها أحد ..
في أوقات الأكل فقط, يخرجون للبحث عنها ويطرقون الأبواب: هل عندكم رانيا, هل عندكم
رانيا؟
الأم لا وقت لديها لتفقد الأولاد (تشتغل
طوال الوقت على ماكنة لصنع التريكو)
والأب لا
وقت لديه لتفقد الأم ( سكير عربيد لا يهتم سوى بما يوفر له زجاجة خمر)
أما
الأولاد فلم يجدوا فسحة كي يتعلموا الحب..وتظل رانيا وحيدة, تدور في زوايا البيت
بحثا عن تسلية, وتخشى ردود الفعل..تشد طرف ثوب أمها,تجذبه إليها فتنهرها الأم:
دعيني.. ترى الملعقة أما والكأس أبا , تحادثهما طويلا, تشكو إليهما وحدتها وتطلب
"بيمو" . أخيرا تتوجه نحو الباب , تمد كفها الصغيرة الى المقبض, وترمي
بجسدها إلى العالم الفسيح الذي يهب نفسه لخطواتها.
تزورنا
أحيانا للعب مع ابنتي ..أحذرها من الطريق فتهز كتفيها , وأسألها عن أبيها فتهزهما
أيضا , ثم تسابق ابنتي الى دراجتها ذات العجلات الثلاث , أو تخطف دميتها : لرانيا
نزوع استحواذي , مع سادية جنينية تربض خلف الستار البرئ لعينيها السوداوين.
في تلك
الأيام ظهر الوحش على رأس عصابته الإجرامية .
اعترضوا
سبيل فتاة تشتغل في معمل بالضواحي, سحبوها الى الخلاء تحت تهديد السلاح, وهناك زرعوا نطفهم فيها , واحدا إثر الآخر ,
قبل أن يرموها كما لو أنها قطعة كلينيكس مسحوا بها مخاطهم .
هاجموا رجلا,
وبعد أن نزعوا منه كل ما يملك , علقوه عاريا في شجرة.
وتفشت أخبار
العصابة , ما بين اغتصاب وسرقة وقتل , فعم الذعر المدينة ..صار الناس يتلافون
الأماكن المعزولة , يأوون الى دورهم باكرا ويمنعون الأطفال من الخروج..لكن رانيا
لم تتخل عن عادتها , رانيا الطفلة الوحيدة التي ظلت تسرح – مثل بزاقة متهورة- في
الطرقات والدروب, غير هيابة من الوحش, من السيارات والغرباء , ثم تقصد إحدى الدور,
تدخلها وتستحوذ على لعبها.
وكان من
الطبيعي أن تنشط حملات الشرطة.
تظل لاراف تذرع الشوارع , تنكش المقاهي والأماكن
المشبوهة: اعتقالات بالجملة, تحقيقات عسيرة.. لكن الوحش يتبخر في الهواء , كلما
اقتربوا منه ابتعد, وكلما حاصروه نجا بأعجوبة.. هكذا صارت أخباره تكتسي مسحة
بطولية وتنسب الى جرائمه غايات
نبيلة..الوحش الذي صار حديث المجالس , في الدور المقاهي الحمامات والمدارس..الذي
دوّخ البوليس ويخوَّف به الصبيان..
الوحش ذو
السبعة رؤوس.."
تهدج
صوت" ابا علال" .. توقف عن الحكي , وتلافى نظراتنا المتسائلة ..استل من
علبة كازا لفافة , أشعلها وأرسل الدخان يطرقع فوق رؤوسنا.
قال:
-على كل
حال, حكاية الوحش تعرفونها ..تعرفون أن الدائرة ضاقت عليه في النهاية , في ذلك
اليوم الرمادي من نوفمبر, حيث ألقوا عليه القبض وكبلوه بالحديد مع أفراد العصابة.
قلت:
- نعم نعرف
ذلك,لكننا نود أن نعرف ما دخل رانيا في
الحكاية, ثم لا تنس أننا سألناك حكاية عن لاراف.
"كانت
المقهى ممتلئة عن آخرها بالزبائن والدخان, وصوت أم كلثوم ينبعث من ثقب في الجدار ,
دافئا كليالي الصيف, , وفجأة, توقفت لاراف.. نزل منها ثلاثة من رجال الشرطة ودلفوا
الى المقهى يجوسون بأعينهم سحنات الزبائن ويستفسرون كل من ارتابوا في أمره.. من
الباب الخلفي للسيارة,تبين أن الحملة ليست في مستهلها: كان هناك الكثير من الشبان
المكدسين بشكل بشع , سرعان ما انضاف اليهم آخرون من المقهى , أغلقت الباب عليهم,
وتحركت السيارة من جديد.
بدا رجال الشرطة راضين عن حصيلة الحملة , ولم يكن هناك داع
للعجلة ..جاست السيارة الشارع بسرعة محدودة , ثم انحرفت الى شارع جانبي معتم ..كان
الجو خانقا بالداخل , حيث داس البعض على طرف البعض, وفجأة..رأى أحدهم عينين
سوداوين شديدتي الغور, تتفرسان فيه.. لم يميز شيئا في البداية فأصيب بالذعر
..عينين سوداوين فقط.. تتطلعان اليه من تحت , دون أن يرف لهما جفن.. ثم تعرف على
الملامح , والجسدالصغير المكور المألوف , فأطلق صيحة دهشة واستنكار:
- رانيااا
خرجت رانيا
كعادتها ..رأت الشارع والمقهى والظلال , ثم رأت الباب المفتوحة فاندست تحت
الركب..علت ضحكة ما,تلاها ضجيج ..عندها فقط أحست رانيا بغربة المكان, فعَلا صوتها
بالبكاء ..توقفت السيارة , وانفتحت الباب الخلفية ..وإزاء ارتباك رجال الشرطة
وانشغالهم بأمر الصبية الباكية التي اصطادتها شباكهم, جعل الشبان المحبوسون
يتقافزون كالجداء , ثم يذوبون في الأزقة الجانبية."
الإقامة في العلبة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire