vendredi 2 septembre 2016

الإقامة داخل العلبة







(الركض في العتمات):

قيل لي: "عليك بشهادة الحياة كي يكتمل ملفك وتحسب على الأحياء", فشمرت عن ساقي وقصدت الإدارة.
وإذا بي فأر في متاهة !.
أدراج كثيرة وممرات وحيطان و.. لا أحد.
أدراج صاعدة نازلة لولبية ودون نهاية..صعدتها, خدشت حياءها وركضت ركضت ركضت..لكن الأدراج لم تكن تؤدي إلا إلى أدراج مثلها أو قدم جدار سادر في الصلف..حتى شعرت بقواي تخرج من جسدي مثلما يخرج المعنى من رسم الكلمات, وفكرت في أن شهادة الممات هي ما سأحوزه إذا استمر الوضع على ذاك الشكل.
ثم انفتح الباب أخيرا في وجهي..
كنت على باب اليأس حين انفتح الباب, وقال:
- آه..أنت أيضا.
ثم أحنى رأسه وعكف على ملف أمامه..
وجه شبيه بقطعة صابون اهليلجية الشكل ووردية, بملامح راحلة نحو الداخل كحبر موغل في السرية..قلت :
- نعم..أنا أيضا.
فضحك دون فم, ثم أحنى رأسه من جديد, وقد نسي وجودي كلية, لفترة كافية كي أضع حياتي السابقة كلها في كفي ويترسخ لدي اعتقاد قديم جدا بأني كائن دون شأن: عشت على الدوام بين الأودية, أتغذى على وعود الساسة ودعوات الوالدة وأشعار رديئة في كتب المقرر الدراسي, وأطمح إلى اليوم الذي أصير فيه كامل المواطنة..وها أحتاج الآن إلى ورقة إدارية تثبت أني حي, ووجه الصابونة يقول:
- لسنا المكتب الذي يحيي ويميت..ابحث عن المكتب الخامس على اليمين.
- لكن مكتبك غير مرقم, فكيف أعثر على المكتب الخامس على اليمين؟
ضحك مرة أخرى  دون فم, ثم أفصح:
- هل تعتقد أن الأمور في الإدارة كما هي في الحياة؟ كل شئ هنا يخضع في تناميه واستطالاته لمتوالية هندسية, فأفق واعرف أين تكون.
أيقنت أن علي مواجهة المزيد من الأدراج والممرات والتيه والهواجس واختبار الذات..وفكرت في أن المتوالية الهندسية التي تحدث عنها, إنما هي في الحقيقة الحركات اللولبية لتاريخ لا يكتب أبدا, والشبيهة بحركة الأدراج التي تسلمني الآن إلى مبتدإ رعب يفتك بما تبقى لدي من جأش.
قلت: أنا لست فأرا في متاهة.
بل مجرد فكرة غائمة في ذهن شخص ذي ميولات سادية, يقلبني دون هوادة, ودون رغبة في إخراجي إلى الضوء..لست أدري كيف لاح في ذهني "كتاب الرمل" بصفحاته التي تختفي كي لا تظهر أبدا, بما يمنحه عتاقة متاهة ورقية تضاهي كل المتاهات.
ركضت في كل اتجاه..
ركضت حتى فرغت من كل الأشياء الجميلة فيّ , وصرت مجرد كتلة من التعب والأنفاس المتقطعة والعجز..لم أكن أعرف بالتحديد أي وقت من النهار يربض بالخارج, لكن ليلي هناك  كان قد بدأ..استسلمت لظهر جدار,وتحلب ريق خلاياي اشتهاءً لشئ وحيد: إغفاءة حلوة رحيمة.
لم أسمع صرير باب يفتح ولا وقع خطى على أرضية الممر, لكنه حط فجأة في المجال الضيق للبصر, مثلما تحط رعدة على كتف شجرة وحيدة, وقال:
- اتبعني.
فسرت وراءه دون تردد..
بدا الفضاء غائرا وشديد العتمة مثل سرداب فرجته الوحيدة ذكرى بعيدة, والرجل يحث الخطى دون أن يلتفت وأنا أحث الخطى خلفه دون أن أسأل, قبل أن أنتبه إلى ذلك الشئ الطريف الذي كان يحدث لي (هل هو طريف حقا؟)..
كانت مساحة ذاكرتي تتقلص تدريجيا وكتلة جسمي تتحلل من آثارالسنين وتزداد خفة وضمورا..وأدركت أخيرا أني كلما تقدمت في خطاي خلف الرجل, كلما عدت في الزمن باتجاه الطفولة, حتى صرت ذلك الصبي الذي كنتُه دون سن العاشرة, بجسد ناحل وأسئلة تستيقظ كالبراعم في الباحة الخلفية للعالم.
عنذئد قال الرجل:
- ها قد وصلت يا ولدي.
- أهو المكتب الذي يسلم شهادات الحياة؟
لكنه كان قد اختفى..
وانفتح باب على حجرة بها مصطبة في العمق, وعلى المصطبة رجل شبيه بقطعة صابون اهليلجية الشكل ووردية, بملامح راحلة باتجاه الداخل كحبر موغل في السرية..لمحت قطعة قماش بين يديه وبكرات خيوط, رمى بها ناحيتي فتلقفتها بحركة تلقائية ونشيطة كما لو أنني فعلت ذلك آلاف المرات.
- هيا يا ولد, اضرب البرشمان.
قال دون فم, ثم أحنى رأسه وعكف على قطعة القماش, فيما انطلقت ذراعاي تدغدغان الخد اللامرئي للهواء وتمنحان الخيط معناه المتجدد.

(الإقامة داخل علبة):

في الطريق إلى المنزل فوجئت بزوجتي عاكفة على بضع علب من كارتون تتهجى أحرفها..
- ماذا تصنعين؟
بادرت بالسؤال وقد هالني أمرها
- اسكت فأنت لا تدري ما حدث: لقد أتى "التراكس" وهدم المنزل دون رحمة, وما تراه الآن مرافق البيت الجديد.
ثم استأنفت معاقرتها للعلب بخشوع من يصلي صلاة مودع:
- هذا هو المطبخ, وهنا المرحاض, وتلك غرفة النوم...
كانت جادة بشكل لا يحتمل..
فرأيتني أقيم في علبة كارتون مثل جزرة لا تفقه شيئا في البرشمان أو في سراديب الزمن المفضية إلى الطفولة و لا تحتاج إلى شهادة حياة.
قلت: ما سهت عنه الأدراج تجهز عليه علب الكارتون..
وقبل أن أنساق خلف أفكار تحقنني بما يكفي من ظلام, أدركت الذي لم أشأ إدراكه سابقا:
أني لست فأرا في متاهة..
ولا فكرة غائمة في ذهن شخص ذي ميولات سادية ..
بل أنا بكل بساطة, شخص في حالة هلوسة, وكل ما رأيته فراشات مائية تتصاعد كالأبخرة من قعر الذات.
أنا .. نص يحتاج إلى تحليل.

(باركنسون, الزهايمر والرهاب):

هكذا بات محتما أن أزوره..
أستلقي قربه على الأريكة وأفكك نفسي إلى أزمنة وخرائط وأحداث صادمة..
ويكون هو قد أشعل غليونه, وجعل يحدق في اللوحة المعلقة على الحائط, أو يتابع قلق يدي والعلامات المولدة للتأويل.
لكن الأمر بدا مختلفا للغاية.
كانت هناك مكتبة كبيرة, تتجشأ من فرط الكتب التي غطت الجدران.أما هو فكان شبيها بقطعة صابون تحمل نفس الملامح الراحلة باتجاه الداخل كحبر موغل في السرية..
لولا يداه المتضورتان ارتعاشا..
الضاربتان في النزق بشكل يدعو إلى السؤال العاجل:
- أهي حركات قهرية أم أنك مولع بضرب البرشمان؟
ضحك دون فم حتى كدت أرى ضرس عقله المفترضة, وأجاب:
- أيها الخبيث..إنه " باركنسون"..
حملقت في يديه المسافرتين في الرعشة قليلا وقلت:
- إن "باركنسون" يستدعي لدي بشكل آلي حد الفجاجة, ذلك المظهر الآخر للضعف البشري:"الزهايمر"..أفلا تكون بلا ذاكرة أو تكاد؟
قام من مقعده وجال في الصالة قليلا, ثم مد يده يتحسس كتابا على الجدار, وقد التمعت عيناه بوميض بلون الفجر..
- هل تدري أنك خامس حالة أستقبل هذا اليوم؟ حدثني عن يومك.
- عن أمي؟
- عن يومك..ولو أن أحد الأمرين يدعو الآخر, تماما مثل "باركنسون" و"الزهايمر" بالنسبة إليك.
كنت في الإدارة أبحث عن شئ ضائع..
ركضت كثيرا في ممرات بلا منافد فما وجدت إلا:
الأدراج والبرشمان والطفولة والتيه والعلب والرجل الذي يشبهك..الرجل الذي هو أنت والمضاعف بلا حدود..
قال:
- كفاك يا هذا, فأمرك بات واضحا: عندك رهاب.
- رهاب يا سيد؟
- رهاب علبة الباندورا الذي لا ريب فيه.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire