تشونغ تسو والفراشة
(قراءة في علبة الباندورا لأنيس الرافعي)
حسن البقالي
"ما يأتي إلى هذا العالم دون أن يعكر أي شيء ليس جديرا بأي اعتبار أو حلم."
رينيه شار
"يكفي الرافعي قصا أنه من "حمّل" التمثال ما لا يطيق".
حسن البقالي
نبض قصير:
علبة تحلق فوق البهو المعتق للميثولوجيا, كي تصنع من رقصة البرشمان حكايتها.
ريحها الدافعة التجريب.
ونوابضها لغة من حناء ونثار ملح وعصير ليمون دافئ.
أيها القارئ الذي ضل طريقه,ألم تجد غير هذه العلبة تفتحها؟ ألم تسمع عن الحيوان الأخضر آكل الحجر؟
آراء ملزمة لدخول العلبة:
"إنه قدر جديد للقصة يتشكل أمام أعيننا بمهابة "
لا أجد أفضل من "حفنة الضوء" هاته التي قذف بها الفنار الباهر للشاعر محمد الصابر في وجه أمواج القص المتدافعة في "علبة الباندورا"..فليس مصادفة أن تكون أول جملة سردية في العلبة, هي هذه الزخة من قصة "التراغم": (كل شئ ليس على ما يرام).فكل شئ في القصة القصيرة ليس على ما يرام بالنسبة لأنيس الرافعي , لذلك وجب هدم الهيكل القديم, وإعلاء هيكل آخر بناءً على تخطيطات هندسية ورياضية لا تترك مجالا للصدفة والإرتجال.
فالرافعي لا يتهور بالركض مطأطأ الرأس في مضمار لا يعرفه.. لقد قرأ التضاريس جيدا ودرس الأفق, وتحسس أضواء الكتّاب الذين يجدر به الإنتساب إلى مضاربهم. يقول ذات حوار:" بل أحيانا أحس بيقين صلب لاتساوره ذرة شك واحدة أنني أرجنتيني الأصل ومسقط الرأس، لكن عن طريق الخطأ المحض ولأسباب غامضة تقع في ذمة الغيظ سقطت عموديا في هذه الجغرافيا الحمقاء لأصبح من الجالية القصصية الأرجنتينية المقيمة في المغرب.."
فقد اكتشف ذات يوم كاتبا اسمه خوليو كورتزار, وجعل منه "خويا كورتزار" ..دون أن ينسى في الواقع أبناء عمومته الأقرب جغرافيا: أعضاء "الأوليبو" l’oulipo : l’ouvroir de litterature potentielle أي "مشغل الأدب الكامن" الجماعة الأدبية التي عملت على المزج بين الأدب والرياضيات, من أجل خلق أدب جديد, لا يني يضع لنفسه إكراهات على شكل قواعد جديدة يعمل على تخطيها , من خلال تمارين أسلوبية وعقد حفلات قران لأزواج من الجمل الشعرية ليس بينها سابق تعارف, ولعل أهم تعبير عنها ديوان "مائة ألف مليار قصيدة" les cent milles milliard de poemes ل"ريمون كينو" raymond quenneau أحد مؤسسي الأوليبو.
لذلك عندما يُنظّر الرافعي لمجموعته الثالثة ضمن العلبة, من خلال البرشمان كتقنية للخياطة التقليدية, فإن ذلك لن يمر دون التذكير بالأوليبو ما دام (l’ouvroir) يستدعي معنى "مشغل الطرز والخياطة", لكنه يصبح هنا مشغلا بملامح مغربية أصيلة وبمفاتيح تخييلية تحرث في أرض الفانطاسي والحلمي بما يشكل قطيعة مع "الميراث الثقيل للواقعية".
إن أنيس الرافعي وهو ينجز تمارينه التخييلية, لا ينطلق فقط من رؤية فنية جمالية للجنس الأدبي (أو ضد الجنس الأدبي على الأصح), بل هناك خيط ناظم لجماع تجربته السردية التجريبية, يستشف كموقف من العالم متأرجح ومتذبذب عاطفيا بين حدّيْ العزلة عن العالم والإنخراط فيه.على أن هذا الإنخراط يتم وفق آليات سيكولوجية وفلسفية تجعل منه تركيبا للأطروحة والنقيض, يحمل واقعه الجديد مثلما تحمل السلحفاة بيتها الصخري.حيث تبدو الصورة في المحصلة النهائية على الشكل التالي:
فضاء مغلق ------ تفقد الآخر ------ تفتيت اللغة
(عزلة الذات) ------ (عبر شطر الذات) ----- ( المعادل الآخر لإنشطار الذات)
الذات الساردة فى الفضاءات المغلقة:
إنها العلبة..
ذاك الفضاء التشكيلي القاسي والمغلق دون الجهات الأربع, الذي يجد بطل أنيس الرافعي نفسه داخله في الغالب الأعم: غرفة نوم, مقهى, قاعة عرض سينمائي, قاعة انتظار أو برميل "شبيه بكماشة او فخ".. ثم يبدأ السرد في الإنبلاج من أفق الكلمات كي يستوي سحرا وتصير العلبة الشكلَ التربيعي للأوفاق منجزا بسماق متبحر في شؤون السيميا..
"باكرا في آخر الليل وفيما يشبه مداهمة بوليسية محكمة أو خبطة مباغتة بمطرقة باردة على الصدغ, كان من المفروض أن يُنتزع السيد ريباخا من نومه السميك جدا على وقع الرنين الصاخب والفظ للمنبه.." يقول السارد في قصة( السيد ريباخا جزيرة عائمة ص:85)
(...كأني نَحّيت إلى أبعد مسافة ممكنة يقظتي التي أخفقت مسدسات القهوة السوداء في إطفاء أنفاسها الأخيرة وتدهورتُ صوب نوم مضمون فوق القميص الداخلي للسرير, إلا أنني في حقيقة" الوصف" كنت فحسب أغفو بعينين مفتوحتين داخل حجرة عيني المغلقتين) يقول في قصة أخرى: ملاحظات حول الصور الفوطوغرافية ص117)
فهل الفضاء المغلق للحجرة هو الذي يفرض نوعا من العزلة على بطل المجموعة, أم أن عزلته موقف من العالم (كما ورد سابقا) سابق على الحجرة وعلة لوجودها؟
مهما يكن من أمر فهو غالبا ما يطالعنا على نفس الوضع: مضطجع يطلب نوما عسير المنال, أو يفيق منه, أو غارق فيه ينسج من بنية الحلم او الكابوس "12 مترا مكعبا من الأدب" (باستعارة عنوان المجموعة القصصية التي تحمل نفس الإسم ) (12 métres cube de litterature للكاتب الفرنسي رولان فوينتيس.
على أن العزلة في العلبة ليست مصيرا نهائيا لا رجعة فيه, أحيانا يجرب البطل مغادرة الغرفة إلى العالم الفسيح لولا أن العاقبة غالبا ما تكون وخيمة: يجد رأسه المقطوع في قاع بحيرة, يتحول إلى خروف أو حمار أو شجرة..أو يتهشم كقطعة فخار. لذلك يفضل الكاتب إبقاءه في الداخل ضمانا لبقائه, مع اللجوء إلى آليات سيكولوجية للتعويض والحفاظ على شعرة معاوية مع "الخارج", من قبيل التعدد والإنشطار وخلق المضاعف..(الملاحظ أن صورة الكاتب نفسه على ظهر الغلاف ترسخ هذه الآليات حيث الصورة صورتان من زاويتين متقاربتين)
في قصة "الآخر" لبورخيس, يجلس السارد على مقعد بحديقة عمومية, فإذا الرجل الذي يجالسه على المقعد هو النسخة الأخرى منه, مع فارق الزمن..وهنا كان طبيعيا أن يتلون الحوار بين الإثنين بمجريات الزمن الذي يجد الشخصان/الشخص نفسهما في موقعين مغايرين منه.. بينما الوضع مختلف بالنسبة لأنيس الرافعي ..فالمضاعف في علبة الباندورا ينسل من داخل الذات في حركة شبيهة بانشطار الخلية, إذ هناك دائما "شخص مغرض يقطن بالداخل, وكلما خاصمتَه افترى عليك جيدا بالاستيهامات المدمرة" (من قصة التبرمل).
إن الإنشطار هنا وليد حاجة إلى قول شئ ما .لذلك فهو يلبي حاجة اجتماعية لدى الشخصية الموغلة في العزلة والرافضة في العمق لعزلتها..كما أنه محفز على السرد وذريعة لتناسل الاستيهامات المستشرية في جسد الحلم والفانطاستيك.
فلق رأس اللغة:
هل يمكن إنتاج نصوص ما "بعد سردية" دون لغة ترفع على أكفها بلاغتها الخاصة الواقعة في حدود ما بعد البلاغة؟
يقول السارد في قصة "الريباخا جزيرة عائمة":
" حتى يخيلَ لكم لوهلة أولى أنه يزعق برصيد صبر ضامر مثل معتوه حقيقي, ثم يخيلَ لكم كرة ثانية أنه يعيد الزعيق عن ظهر قلب مثل معتوه حقيقي آخر برصيد صبر أقل طالبا من كل حدب وصوب وبإصرار عير قابل للنقاش.."
إنه نموذج للكتابة السردية لدى أنيس الرافعي , بما تنسجه من علاقات جديدة للمجاورة أو المشابهة, ومن شهية المحكي لأن يعيد حكي ذاته, مما يجعلنا إزاء أسلوب خاص في الكتابة ينزاح باتجاه جزر غير مطروقة وصادمة لأفق انتظار القارئ.. فانشطار الشخصية طبيعي أن يوازيه انشطار في اللغة وفلق لرأسها حتى تدمع منها العيون ..وحتى يبدو الأمر أحيانا كما لو أننا إزاء طفل يمارس هواياته المفضلة في اللعب.. يقول في قصة التراتل : " شديد الإنزعاج من الوريد إلى الوريد, و بالغ التوجس جملة وتقسيطا وتفصيلا وخياطة" ..
يتذرع انيس الرافعي بهذا الجانب اللعبي لخلق توازناته السردية المحدثة , حيث تتناوب الضمائر الحكيَ دونما أدنى حرج, من المتكلم الى المخاطب والغائب, ومن المفرد الى الجمع.. كما تتناوب أزمنة الفعل (الماضي والمضارع) - وبشكل لا يقل فداحة- المواقع بينها , بينما تتناسل التوصيفات أحيانا اعتمادا على جناسات تصحيفية وتداعيات للأفكار.."..عرضة للصهد والعرق والضيق والظلام والعطش والعري والرائحة النتنة والأوكسجين الناقص والمثانة المحتبسة.." (قصة التبرمل).
"قطعة ثمينة مني تتقاطع وتتشابك وتتشارس وتتضارى وتتفاتك وتتناهش وتتهارش وتتقاتل وتتدامى بلا هوادة مع الآخرين.." (قصة التراتل).
يبدو الأمر في النهاية كما لو أن فضاءات السرد مساحات خضراء ممتدة ومنذورة لأن تمارس فيها مجموعة من الجراء لعبتها في التنطط واالركض والفرح, فيما هي تمارس وظيفتها الأساسية: النمو.
وإذا كانت المسارات الفانطاسية للتخييل في علبة الباندورا لا تتوقف عن إنتاج "سمكات الدهشة حتى لا تكف عن التنفس في أكواريوم" جسد المتلقي, فإن اللغة ليست أقل إدهاشا وإمتاعا ومؤانسة.
نبض ثان:
إن الرافعي ليس كاتبا فحسب, بل "مكتوب" (بالمعنى الدارج وبكل استطالاته في المخيال الجمعي)..مكتوب لا يمكن إلا أن يحيق بقارئ القصة, الذي عليه أن يلحد ذائقته التقليدية في دغل ما , كي يتمكن من لقاء الكائنات السردية التي تعمر العلبة, بالحب المفترض.
وإذا كان ريمون كينو قد بنى روايته "الورود الزرقاء" فوق رخامة حكائية, تحكي حيرة الصيني تشونغ تسو وهو يتساءل إن كان هو الذي يحلم بالفراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم بأنها تشونغ تسو, فهل أنيس الرافعي هو الذي حلم يوما بالقصة التجريبية أم أنها هي التي –وعبر تجلياتها المنفلتة- حلمت به ذات إنجاز لما بعد السرد وقالت له: أنت أنت.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire