lundi 19 septembre 2016



                                 لحم التيوس المر              


ثم يقبل الرجل عليك..
يقبل باسما ويقول لك : اقتله.لم يكررها ثانية ولم يزد عليها حرفا آخر ..كلمة  واحدة انخلعت من أعطافه كبناء منهار وأوقعتك تحت الردم ..لكنك لم تفاجأ كلية
ولم تتسمر مكانك مذهولا مشلول الحركة ، كأن الأمر طبيعي ، كأنك توقعت في لحظة صفاء واستبصار نادرين ما يحدث الآن : رجل زئبقي بملامح مطاطية يقبل عليك باسما مثل زلزال باذخ ، وتعرف أنك ملزم بهذه الخطوة الضرورية  والأخيرة كي تجتاز روحك العتبة الفاصلة بين الخير والشر بشكل نهائي ، كي تتحرر ..
اقتله.
قال في نبرة آمرة غير قابلة لأي استئناف ..
« أقتل من ؟»  أردت أن تسأله لكنه اختفىمثلما لاح  -  فجأة ..استحال إلى ذرات غير مرئية وبقيت بسمته في عينيك ، ماكرة واثقة وحبلى بالفخاخ ، وكلمته في حلقك كأنها كلمتك التي صعدت أخيرا إلى النور بعد أن ظلت تصطفق زمنا في غياهب  الأعماق .
كنت قد قطعت شوطا في هذا الدرب الجديد باذلا نفسك لقنافذ بحر بلا ضفاف ومؤمنا بألا سبيل إلى عودة غير ممكنة ، ولم يكن ينقص اللوحة إلا دم القتل .
حلمت كثيرا خلال  ليالي موجعة بمشاهد دامية تكون فيها تارة قاتلا وأخرى قتيلا ، تفيق بعدها،في كلتا الحالتين،  مخضبا بدم لامرئي، مفزوعا راجفا، تتمثل لون الحياة الأحمر وهو ينسل من الجسد الفوار بعد الطعنة، والصيحة المصاحبة  لذلك، والمنكرة أن تكون ساعة الحقيقة قد دقت ..هل يقتنع الإنسان فعلا بشكل راسخ وعميق بأنه سيموت في يوم ما ، أم يظل طول حياته يمني النفس بأن الموت هي ذلك الشيء الذي يحدث للآخرين فقط ، يزوغ عنه مثلما كانت تزوغ الشمس عن الكهف خلال تلك الرقدة الطويلة الخارقة  للمألوف ؟
نجمة ما ستهوي ..
ويد ستضرب دون رحمة .
فهل تقوى على ذلك يدك التي لم تألف لحد الآن غير الأقلام ، يد محرر في السلم الثامن من الوظيفة العمومية؟
بضع اجتماعات تنجز عنها تقارير مقلمة الأظافر ترفع إلى الرؤساء بالعاصمة ، وتطمئنهم إلى أن كل شئ على ما يرام ، وتنتهي مهمتك ..سنة كاملة للفراغ  لكنك موظف ، للإحساس بالعبث واللاجدوى  لكنك تتقاضى راتبا وتلبس بذلة وربطة عنق ، تقول لهناء وفضيلة : صباح الخير فتردان صباح الخير ، وتسألهما عن حال العمل وأنت أدرى به ، ثم تجلس خلف المكتب تفكر في منعطف يغير مسار حياة بليدة .
كنت تفكر في جلساتك الطويلة خلف المكتب ، في السطو على أحد الأبناك ..ترثي لحال اللصوص الحقيرين الذي يعترضون طريق رجل كادح يهددونه بالسلاح  الأبيض من أجل بضعة دراهم ، أو يتربصون بركاب الحافلات «ذباب يقع على ذباب»  كنت تغمغم في قرف ، تأمل أن تصادف بعضهم في منعطف معتم وتقودهم في عمليات كبيرة وناجحة ، لكنك كنت تنام في العراء وحيدا معزولا ، لم تتح لأحد أن يطل على برقوق استيهاماتك الذي لم ينضج بعد ..تدخل في آخر كل شهر إلى الوكالة البنكية لاستلام راتبك الهزيل ، ومع كل فطفطة لفرخ صدرك الموجع دعاء صادق بألا تجد أمامك واحدا من أولئك الذين يتصرفون في أرصدة خيالية ( لا تجرؤ على امتلاكها حتى في الأحلام
ويشعرونك بغبن دون حدود ، تهرب براتبك الهزيل ، تهرب بأفكارك ، ثم تقعي خلف المكتب  تخطط  لغزوات ظافرة جديدة  ، تنتهي في الغالب - وبشكل غير منسجم مع مسارها الناجح - بدم مراق على رصيف بارد.
استيهامات تفيق منها لتصطدم بعربات حياتك التي تراوح نفس المكان ، بمدارات الفراغ وأزيز أرض لن تلبث أن تقذف بأحمالها باتجاه ظلام الأزمنة .
قلت : سأعود إلى أكل اللحم .
تلك الخطوة الأولى  والزاد الضروري لرحلتك المضنية ، رحلة الإنزلاق على قشور الموز ..تعود إلى أكل اللحم بعد أن امتنعت عنه طوعا لمدة سنوات ..
منذ أن تحول أخوك محمد إلى تيس.
غاب عنكم أربعة أيام ، عاد بعدها في حالة إنهاك جسدي ومعنوي قصوى ، ولم يتح له أن يحكي لكم ما حدث ..دخلتم عليه الحجرة فوجدتم مكانه تيسا بنيا صقيل الفرو ، بعينين ذاهلتين وقرنين عموديين كعلامتي تعجب ، غمغمت أمك التي لا تصدق عينيها :
محمد ..هل أنت إبني محمد؟ فرد التيس :
مااع .
حك قرنيه بالدولاب وسالت من عينيه الذاهلتين كرتان بلوريتان، خطفت أمك رجلها إلى فقيه بالحي، ثم عادت برقية وماء مطلسم ، وجدت الصغيرين عبد العظيم وأنس يلفان حول التيس في حركات راقصة وهما يرددان :
أخونا محمد صار تيسا
أخونا محمد صار تيسا.
نهرتهما وعلقت الرقية  بعنق التيس ، ثم دارت على أركان البيت والأبواب ترشها بالماء المطلسم عسى أن يعود محمد إلى صورته الأولى ويفك الله تلك الغمة ...وستزور بعد ذلك عدة فقهاء وعرافين وتأخذ معها التيس الباكي إلى «بويا عمر»  تقيم هناك ثلاثة أيام لتستعطف الأولياء والصالحين وتنتظر الإشارة ..دون جدوى.
أخلت لمحمد قبوا تحت الدرج  كان معدا للمهملات، تكنسه يوميا من الفضلات وبقايا النخالة أو الشعير، ثم تضع الأكل الجديد، تشيع التيس بنظرات قتيلة وتنسل إلى غرفتها تستر عنا نزيف الجرح .
لم يكن عبد العظيم وأنس يريان من الأمر سوى مظهره  المسلي  ، ذلك التجسيد المرئي لحكاية متخيلة من زمن غابر ولو أن بطلها التراجيديوبفعل إضمارات زمنية خالقة للإلتباس -  يعتبر أخا لهما بشكل من الأشكال ..ولم يكن يجعلني أعي فداحة المصاب سوى نظرات أمي القتيلة وذلك الذبول الذي صار مثل نبات شيطاني في حقل مهمل، يغزو قسماتها وحركاتها ..أصدق أن التيس هو أخي الذي حلت به لعنة سماوية لخطيئة لا تغتفر، اجترحها هو أو أحد الأجداد، لكني أعود إلى الإعتقاد بأن الفرو مجرد قناع، وخلف المظهر الحزين للتيس يختفي وجه أخي بملامحه
المعروفة، يضحك من سذاجتنا ويصر على إطالة عذابنا .
لكنه  فر من حياتنا إلى حيث لا ندري .
خرجت أمي إلى تجارتها ، وبقيت مع الصغيرين في البيت ..ألحا على ان أتركهما يلمسانه ، ثم تطور اللمس إلى شد من القرنين وجر من الذيل مع سؤال لا يفتر : هل أنت أخونا أيها التيس ؟ انطق إذا كنت أخانا..كان باب البيت مشرعا ، وضوء أبيض يتسرب من الخارج كنداء لا يرد..ضرب التيس بقائمتيه جدار القبو ثم قفز فوق أجسادنا باتجاه الباب .
سقطت أمي طريحة الفراش ، وغنت في هذيانها المحموم لطفل في المهد لا يكبر أبدا ولا يفارق ثديها..غنت في شجى وبكت في  لوعة، هي التي رزئت في ابنها بذلك الشكل بعد أن فقدت زوجها بزمن يسير.
كان أبي قليل الأكل ، يردد بأن ليس هناك أفظع من «بطن ملئت من حلال» ، بأن الأكل يستدعي الشرب ، والشرب يجلب الكسل والحاجة إلى النوم ، ولم يكن أبي ينام كثيرا .
آه..أبي..«اليوم فقط ستموت بشكل نهائي ، سأدفنك في هامش منسي تحت قحف الجمجمة ، وأشق طريقي بالشكل الذي أرتضيه
قلت وأنت تومئ إلى حمروش بأن يأتيك ببيرة أخرى ..وحمروش الذي يدرك بأنك لم تعد شارلي الذي يعرفه أتى بالبيرة في صمت ثم جال بنظراته -  في تحليقة طائرعلى الطاولات المؤثثة للحانة ، والمؤثثة بدورها  بالزجاجات وعلب السجائر والكلمات المتقافزة من الأفواه كفئران اصطناعية سريعة العطب ، يدرك بأنك تمر بمحنة لا يفقه عمقها ، تجعلك  تخلع قشرتك الملساء المعهودة ، وتستبدل بها جدارا متوجا بقطع زجاج جارح..عاد أدراجه باتجاه  الكونتوار، فيما شيعته بنظرة مشبعة بحقد لا تدري منبعه .
عدت إلى المنزل، وفتحت النافذة تطل منها على الشارع الساكن ، وإذ شعرت بامتلاء المتانة ، صعدت على كرسي يحيث يصبح نصفك السفلي في مستوى النافذة ، وبلت ..بلت على الشارع والآخرين، على المكتب الذي تشتغل فيه والعيون المشدودة إلى التلفزيون ، على الشريفة الحمقاء التي تطرد الريح عن الزقاق لكنها تجلب الكلاب إليه، وماضيك الذي تريد الإنسلاخ من إساره ..كنت تبول وتشعر كما لو أن رذاذا يغسل روحك بسعادة غامرة
قالت أمك :
لهفي على تيسي الذي هرب ، لن يكون مصيره سوى الذبح، ومن يدري ، قد يكون لحمه من نصيبي ونصيب إخوته، ويلي .
ولعلها جعلت تتخيل أنها تأكل لحم ابنها الذي قطعه الجزارون إربا إربا ووزعوه على  الدور..كل الدور تأكل لحم التيس الذي كان ابنها تستمرئه ،أما هي فقلبها سيخبرها ومعدتها لن تقبله ، ستلفظه في الحين مثل عضو مزروع يستنكره  الجسد  ...لكنها ستكون قد قضمته بأضراسها ، قد بلعته ، أكلت إبنها، يا ويلها .
لن آكل اللحم أبدا .
قالت في نبرة حاسمة .
وكنت تتصور الجثث المسلوخة المعلقة في دكاكين الجزارة تتبين من بينها جثة أخيك ...ثم وجدت نفسك تتوه بخيالك بعيدا وتعطي للقضية حجما أكبر «من يدري ، لعل أناسا آخرين حدث لهم نفس الشئ، وهم الآن -  مثل أخي -  معروضون في دكاكين الجزارة على انهم تيوس أو خرفان، أوووه»  عنت لك وجوه تعرفها ، مدلاة من خواطيف الجزارين وباكية بدمع سري ..
أنا أيضا لن أكل اللحم أبدا .
صحت مؤازرا أمك  التي رنت إليك في امتنان ، ومؤكدا لنفسك أنك أصبحت قادرا على اتخاذ القرارات..
«لكن إلى أي مدى يتسع هذا المنفى الذي اخترته في لحظة  اندفاع ، وأي بند قانوني مكتوب بماء الذهب يفرض علي الإلتزام بحلف أخرق ؟»  قصدت الشواء توا ، ودخلت مجال القرار المعاكس.
ثم أقبل الرجل عليك .
كانت مياه كثيرة قد مرت تحت الجسر ..قلت  لنفسك :«هذه لحظة كنت أترقبها ، لكن من يكون القتيل ؟» أردت أن تسأله قبل أن تدرك اختفاءه ..كنت تفكر في سلام الغالي حين بزغ  الرجل أمامك وقال :
اقتله .
« ذاك هو القتيل إذن»
غمغمت ..وجعلت تتخيل المشهد الدامي.




                                                           ماء الأعماق                                     

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire