التطواس
أو تطويس النص القصصي عند إدريس خالي
هل للقاص عينا بومة تربض فوق الدار، وتتابع الماجريات والأحداث بالشغف ذاته الذي يلهو به الأطفال؟
وكيف للبومة أن تصنع لنا طاووسا؟
سؤالان من ضمن أسئلة عديدة استثارها لدي الرجوع، في الآونة الأخيرة، إلى مجموعة إدريس خالي القصصية التي تحمل عنوان "فوق دارنا بومة"، بما يجعل منها مجموعة حية، متنامية، وجارية مثل غدير على كف قرية.. تنسل فيها الموتيفات الحكائية بسلاسة، وتتقد جذوات النص بفعل التداعيات، مع كل جملة قصصية أو وحدة سردية، بشكل يجعل النص بضا ساخنا حتى الآخر، ويجعل من الكتابة تطويسا.
"أنا لن أتطوس لأحد، ولن أطوس غير هذا النص. لكل واحد منا حايط يطوسه. يشذبه. ينقحه" ص 15
إن التطواس بهذا المعنى تشذيب وتنقيح.. هو "إزالة أشجار ونباتات الغابة لجعلها صالحة للزراعة والتشجير المثمر" ص 15. وإذا كان أمبرتو إيكو يعتبر النص السردي غابة يتنزه فيها القارئ، حين يجترح فعل القراءة، ويبحث عن الممرات التي تقود إلى المعنى، فإن النص عند إدريس خالي غابة في طور التحول، حيث تصير كل كتابة اشتغالا على الواقع والمعطى من أجل الارتقاء به وتحويره.. فكل نص مجال لتجميع الأصوات والتصاديات، لكن، كل نص هو بالمقابل، مجال للحذف والإزالة والتشطيب.. حذف الما كان من أجل الذي سيكون.. محو للقديم لتدبيج الجديد.. قتل للغصن من أجل إحياء العكاز. "هذا النص عكازي.. أريد أن أكمله" ص 29.
كما أن التطواس لا يمكن أن يستقيم معنى دون الإحالة إلى الطاووس، بما يجعل من النص افتتانا واستعراضا للمفاتن.. أي افتتانا وفتنة.. فكل نص وهو يتخلق، يتوجب عليه أن يخلق أدواته الجمالية القمينة بإثارة وفتح شهية/شهوة القارئ. "سلطانة تطوست وجاءتني والقمر يتبعها" ص 15.
والتطواس بمعنى آخر (الأقرب إلى الذهن والإستعمال اليومي) هو "ضريب الطاسة" أي مقارعة الكأس وانتباذ الزجاجة والعربدة وإراحة العقل. أي أن على النص بهذا المعنى ألا يلتحف بالعقلاني فقط، والواقعي و"الحرفي".. بل عليه الاغتراف من اللاوعي الفردي والجمعي، ومن الحلمي واللعبي والفانطاسي الخارق للمألوف ومنطق الأشياء كما هو متعارف عليه مجتمعيا.
صحيح أن المجموعة تنهض بمحاذاة هذه العوالم الفانطاسية، إذ هي مجموعة لالتقاط اليومي (البدوي أساسي) والإغتراف من الذاكرة، لكن النصوص المؤثثة هي نصوص سكرى تبوح بسهولة وتتمادى في البوح، تماما مثل مرتادي الحانات.
التطواس في الأخير هو الاستعاضة عن الحياة بالكتابة.. التطواس عزلة الكاتب وغربته، في مجتمع لا يدرك جدوى الكتابة، ولا يقبل على القراءة.."أنا لا أفهم لمن يكتب الكتاب ولا لماذا يكتبون.... اعذرني يا يوسف إن قلت لك إنني لا أطيق قراءة صفحة واحدة. أنا أحب المرح والأكل واللباس." ص 63.
---------------------------------
- الإحالات من المجموعة: فوق دارنا بومة.. منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة- 2011
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire