الرجل الذي رحل إلى الشمال
في يوم من
أيام الخريف..
في القطار
المتوجه نحو الشمال:
رجل..و امرأة عجوز..
.
العجوز تحدق
في الرجل..و الرجل ينظر عبر النافذة إلى الأشياء التي تلوح ثم تختفي سريعا و الجسد
الثعباني يبتلع المسافات و يشق في بطن الرياح طريقه يعوي القطار..تتأوه
الريح..وبشكل فجائي تنبت في الخلاء قرية صغيرة:أطفال يتجارون و يلوحون بأيديهم و
يقفزون..نساء يتصايحن حول سقاية ماء..رجل يتغوط..و من فوق تسقط غمامة دافئة تقع في
جفن الرجل و تستحيل إلى دمعة ( هل يبكي الرجل؟) تساءلت المرأة و جعلت تحدق في
عينيه.."آه لولا نظري الضعيف لعرفت إن كان يبكي أم لا.."و تنهدت..لم تعد
شابة و العينان – البئران الغائران في صحراء الوجه- لم تعودا تسعفانها في التطلع
الى الأشياء...حدقت كثيرا في الوجه..بحثت في العينين.."لعله يبكي"
رددت..و كان ينظر عبر النافذة..يهرب من نظرات المرأة..من الصخب الذي بداخل الرأس و
يود لو ينام قليلا..
المرأة: يبدو مهموما و مهدودا..يا للرجل المسكين
الرجل: بلهاء..وعيناها جارحتان مثل شظيتين.
و كان اليوم خريفا...
باردا و قاتما..
و القطار مثل سر كئيب يجرح الأرض و يصرخ في وجه الريح..
و داخل العربات: رجل...و امرأة عجوز..
و شعر الرجل
بأنه يكتشف اللحظة أشياء كثيرة غفت داخل صدره زمنا و القلب يهتز الآن أقوى ما يكون،
لارتعاش الهواء خارج القطار، لتحليق عصفور يتجه أيضا إلى الشمال أو لنظرات امراة عجوز لا تفارقه بعينيها.. " ترى ما
الذي يدفعها إلى الرحيل؟ " تساءل الرجل وأغمض عينيه..و لبرهة اعتقدت المرأة
أنه أغفى" مسكين يبدو متعبا ووحيدا.. و ليلي الشمال كما يحكون باردة و طويلة و تحتاج إلى مؤنس..أليس له زوجة أو أبناء
؟آه..كم هو متعب ووحيد." و أطلت عل أحراش ذهنها ذكرى قديمة من أيام الشباب،
ايام العين الحلوة و القد المياس و النار الموقدة في حنايا الرجال..تنهدت و انكمشت
في مجلسها.. و تململ الرجل.. فتح عينيه و رأى العصفور المهاجـر إلى الشمال.. كان
يفرد جناحيه و حـيدا و يجاهد الرياح..و
تذكر العش و..عيشة..
لماذا كانت تريد أبناء. و
الأبناء يريدون خبزا. و الخبز يتطلب عملا أو قلبا من حديد ؟ خمسة..توافدوا تباعا و
لم يغلقوا أفواههم مند صرخة الولادة..نظر الى يده..الى الأصابع
الخمسة..تمتم:"تركت يدي هناك و أتيت..آه.." وسقطت غيمة ثانية صارت ظلالا
كثيفة من الحزن و بدت العربة مظلمة..انتبه الرجل..كان القطار داخل نفق و كان مظلما
فعلا..كأن الليل حط فجأة، حط اللحظة مثل قدر ثخين و غطى مل شيئ: العشب و الاشجار و
الطائر المهاجرو القرى الفقيرة و الأطفال..لكن بقي شيئ واحد وسط العتمة مومظا و
براقا..عينا المرأة العجوز..صغيرتان و متقدتان تحدقان به ولا تزيغان..و أصيب الرجل
بالذعر.. انتفض قلبه بقوة و قال بصوت
خفيض: سأخنق هذه المرأة إن لم تفارقني..
و كان اليوم خريفا..
غائما و موحشا
و بإحدى عربات القطار المتوجه نحو الشمال:
رجل و امراة عجوز..
و أعولت
الرياح بشدة ترنح لها العصفور المهاجر.. غتجه اليه الرجل بقلبه و قال: لا تسقط و
تدعني وحيدا ..و تنهد ..وحيدا سأمضي و
أضرب في اصبار الارض.وداعا يا عيشة و الأبناء وصيتي الأخيرة.. نظر إلى يده..إلى
الأصابع الخمسة..كانت باردة صفراء..غمغم: ترى كيف سيكونون ؟ و تنهد من جديد..وود
لو يبكي و كانت تحدق فيه وود لو يخنقها و أخيرا أغمض عينيه و استرخى لئلا يستجيب
للرغبة في القفز من القطار و العودة الى
عيشة و الاولاد..
و القطار يزمجر و ينهب
الأرض..نهر يحفر مجراه في صخب و يمضي " إلى أين؟ " قال الرجل..و بدا
أماما جبل يسد الطريق.." لاأريد أن يدخل القطار في نفق آخر " قالت
المرأة :" أخاف الأنفاق..توحي بالموت و كل الدلالات الحزينة و وحدي مع هذا الرجل الذي يبعث على الوحشة و
يشيح بوجهه جانبا كلما نظرت اليه.
وخطر لها خاطر ذعرت له
" لعله مهرب..فكل المهربين يتجهون إلى الشمال.." و مدت عنقها تحدق
فيه..عيناه مغمضتان لكنه احس بلهيب النظرات يلفح وجهه..آه ايتها العجوز اني خانقك
لا محالة..ذاك ثمن الرحيل الى الشمال و تذكر العصفور..لم جناحيه و هوى على شجرة
ليستريح..آنذاك صفرالقطار و توقف في إحدى المحطات..
المرأة : أية محطة هذه ؟
الرجل : إنها المحطة ما قبل الأخيرة .
و انشغل بالنظر إلى الناس الطالعين و النازلين
و تلويحات الأيدي و الأفكار المضطربة على الوجوه.." آه الرحيل صعيب..يقلب
فينا تربة الأعماق و يزرع بذورا لها طعم البحر و الملح ..الرحيل ولادة و لم يبق
إلا محطة واحدة ثم أتخبط بين فكي كماشة
اسمها الشمال..أذهب..فالعمل متوفر..صحيح
أن الايام صعبة و الضغط على الزناد صار أمرا سهلا لكن العمل متوفر و ذو
مردود.." اذهب تعد غنيا..كل الذين سبقوا صاروا كذلك..اشتروا الدور و الأراضي و السيارات..ارحل إلى الشمال و
لم يبق إلا محطة واحدة.. آه. . كم اشتقت الى ابنائي.
وتحرك القطارإلى الشمال..
في يوم من أيام الخريف..
غائم و عاصف..
و بإحدى العربات:
رجل وحيد .
ينظر اتجاه المرأة و ينتفض
مذعورا..رحلت..و لا أثر لعينيها داخل العربة..يبحث عنها و لا يصدق..أية غيمة
أخذتها بعيدا أو أي سيل جارف أهوج..كانت عيناها حانيتين دافئتين و عاتبتين..هل قلت
إنهما جارحتان؟ أو فكرت في خنقها ؟.آه..كم أحببتها..و كانت أمامي..لا..لا يمكن أن
تغيب هكذا و تتركني وحيدا..وهب الرجل يجري داخل العربات لكن..لاإمرأة هناك و لا
أحد..كان الرجل الوحيد المتجه الى الشمال..غابت المرأة، و العصفور حط على الشجرة و
لم يستأنف الطيران..حضنته الأغصان و قالت : هنا وكرك ، فاستراح. ايها العصفور الذي
نام خبرني كيف حال الأولاد؟
أولاد خمسة..
يصرخون و ينتظرون إطلالة الأب
في المساء..
لكن الأب رحل بعيدا..رحل و
حيدا..
في القطار المتوجه نحو الشمال..
خبر غير مهم:
في أسفل ركن بالصفحة الخامسة
لإحدى الجرائد..تحت العنوان أعلاه..جاء ما يلي :
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire