قليل من الشر ..هذا أول الطريق..
الشر الذي يعي بأنه شر ويمضي قدما لا يبالي بشئ ..الشر المبيت ، الذي لا يخالطه شئ كالماء
الزلال..الخطوة الأولى ، ثم تمتد الطريق أمامك فاتحة ذراعيها في
نشوة عارمة ، معبدة ، آهلة ومشرعة على الآفاق
.
ابدأ بصفع ابنك حتى تبرق أمام عينيه نجوم في عز الظهر ،
ولا تفه بكلمة أو تقدم تبريرا ..ليس
لك ابن؟ ارم قمامتك على عتبة الجيران ولطخ جدرانهم بالبذاءات...أعط
لأحد الأصحاب موعدا « في الساعة العاشرة تماما ، أوكي؟» ثم انس الموعد ودعه هناك ينتظر حتى تدمع عيناه ، ولا تقدم تبريرا لأحد .. الضعفاء
وحدهم يحتاجون إلى تبرير .
إسماعيل بلفقيه عمك ، كان يكتب شعرا رقيقا ويعشق الأزهار..
في قصيدته المسماة «أحلام» تواشج عميق بين أشكال الحياة
، فيها عاطفة مشبوبة ودفء ..فراشة تحلم
بأنها طائر كركي ، وطائر يحلم بأراجيح معلقة في الفضاء وأعشاش استراحة ، ورجل يحلم بامرأة هي أم الكون تحضن تحت
إزارها الرجال والفراشات وطيور الكركي والأراجيح ، وامرأة تحلم بشئ
رائع وحيد : زهرة.
لكن عمك لم يعش في الزمن المناسب ..كان الجو العام السائد للصراخ والهتاف والأبواق الشادخة، فانتهى به الأمر
إلى عزلة قاتلة.. كنت حدثا آنذاك
، لكنك ما زلت تذكر نظراته القلقة وتلك العادة التي درج
عليها بالبقاء واقفا حتى تكل رجلاه من الوقوف ، بعدها فقط ، يقول مخاطبا نفسه
: «حق لك أن تجلس الآن يا إسماعيل» ويرضخ لرغبة الجسد.
قال له أبوك :
. لا إله إلا الله
-
فأجاب :
. لكن الله لم ينهنا عن حب الأزهار -
تعيشه الأزهار : مسافة صبح
وكزهرة عاشت ما
كزهرة عاش عمك : حياة قصيرة
أنت في الحديقة مرة أخرى .
تتطلع إلى الأشجار والأطفال والإوز والممرات ، لكنك مروع
، كمن شرب زجاجة كاملة من
دواء المفروض أن يأخذه على جرعات.. تحس بأن أحشاءك مقلوبة داخل كرشك ، بأن الدم قد اختلط بالبراز وعصارات المعدة والأملاح الأنزيمية وكركرات المصران
الغليظ ، بأن ذهنك محفل لطرقعات تشبه قلي الذرة أو تفجر
ألعاب نارية في سماء بعيدة ، وبأنك على حافة الموت أو انقلاب
خطير سحيلك إلى وحش دموي .
تبحث عيناك عن المرأة التي كانت هنا ذات يوم ، وأعطتك الكتاب مثلما يسلم القادة المحتضرون لواء الجيش
لمن يلونهم في الرتبة والكفاءة ، في حرب ضروس لن تنتهي
في أمد قريب ..هي لم تسلمه لك بشكل مباشر ، وتوشوش في ذهنك
بوصاياها الأخيرة ، لكن تتملكك قناعة تامة بأنك كنت المستهدف
الوحيد بذلك المشهد
التمثيلي الذي جرى أمامك :
،
تجلس المرأة على الطرف الآخر للمقعد ،امراة لا تعرفها،تأتي مطرقة و تنهمك في قراءة الكتاب هي معك لكنها في عالم آخر..
..ثم تهب فجأة ، تقذف بالكتاب
أرضا وتصرخ بأنه فظيع ، قبل أن تغيب.. عن نظرك في هرولة مجنونة
مشهد تمثيلي متقن للتحايل عليك واستدراجك لأخذ الكتاب ، كخطوة أولى غير محسوبة تجد نفسك بعدها
أسير متاهة بدون مخرج.. مشهد متقن ، معد بدقة وفقا لمخطط رهيب
تحدس الآن فداحته دون أن تلم بمجموع أبعاده .
لكن الصدفة هي
التي جعلتك تعثر ذات يوم على أوراق عمك : ديوان شعر لم ينشر أبدا وبضع مقالات جلها مبتور عن أحداث وقضايا فنية ، ثم جرد لمجموعة من الأزهار مرتب
وفق المميزات والخصائص السلوكية لكل منها على النحو
التالي : الزهرة الظريفة ، الزهرة الماكرة ، الزهرة العاقلة ،
الزهرة القاسية ، الزهرة السادية..
كانت الأوراق في ظرف ، والظرف في قعر صندوق خشبي داكن يحوي كتب أبيك القديمة و المخطوطات
المنسوخة بخط عثماني مائل يقرأ بصعوبة
.
تنقل نظراتك جهة الأزهار التي تحف الممرات «هذه الكائنات الجميلة الصامتة ، لو تدري كم كان عمي
يحبها» ، جهة البحيرة المائية حيث الإوزات تتطاول بأعناقها نحو
أطفال يرمون إليها بفتات الخبز أمام أعين آبائهم الحانية
، تلاميذ وطلبة يتمشون بأعين مزروعة في الدفاتر والكراسات ، مراهقون يتفقون على كيفية اصطياد الحمائم الجالسة على المقعد المقابل ، طيور تتقافز في
الهواء ، لكن لا أثر للمرأة .
كنت تخمن أنها لن تأتي .. ولماذا تأتي وقد تخلصت من
الكتاب وهو الآن في عهدتك يملأ ذهنك
بقفائر نحل متوحش ، ويوحي إليك بشتى الأفكار الصاخبة ؟ اصفع
ابنك حتى تبرق أمام عينيه نجوم في عز الظهر ، ارم قمامتك على عتبة الجيران
..في السادسة، أوكي ؟ قليل من الشر ..هذا ما تحتاجه في البدء ، ثم تتمرس وتتدرج إلى مقام رفيع بتوجيه من فقهاء الظلام : إبليس ، لوسيفر ، أهريمان .. تتذكر
ذلك العتل ، صاحب الكشك الذي يحترس منك كلما دخلت تشتري منه
الجريدة ، ينوشك بنظرات مرتابة، ويتوجه إلى غلامه المساعد
بخطاب مبهم تتراكض فيه الحروف كقطعان الكنغر المذعورة ..تود أن تصفي حسابك معه بضربة فأس « اشعل فيه النار ، في جرائده ومجلاته ،
في الآلة الناسخة وعلب التبغ
لتصعد الأدخنة إلى عنان السماء تستنشقها
الأبالسة في غبطة وتعمي
أعين الناس ، فيما تقف أنت صالبا عودك منتشيا كما لو أنك أحرقت للتو مكتبة الإسكندرية.
تود أن تفعل شيئا ..
أن تخطو خطوتك الأولى وتفك طوق العزلة وسنين الإمتثال ..
عمك غنى خارج السرب ..
غنى لهمسات الروح في زمن الحناجر العالية ، فعاش سجين رؤاه ، دون أن يعيره أحد أذنه ..وأنت سجين قيم باتت
بائدة في زمن العولمة وتحرير الإقتصاد واللهاث المسعور خلف
الربح ، زمن الأحقاد والقتل من أجل لفافة تبغ أو إضمامة
نعناع ..
كنت مسافرا فقطعت التذكرة ، لكن الرجل القابع خلف الشباك وهو يرد لك الصرف ، أعطاك أكثر من
المستحق ..لم تدرك ذلك إلا والحافلة تشق طريقها..قضيت ثلاثة أيام
في تلك المدينة البعيدة ، وحين عدت قصدت توا شباك التذاكر
لترد النقود الزائدة إلى صاحبها.
- أعطيتنيها خطأ قبل ثلاثة أيام لكنه قذفك بنظرة زعزعت أركانك ، نظرة لن تنساها أبدا ،
كاللطمة هوت على الوجه وطالت الدواخل « أيها المغفل الصفيق
الأرذل ، عد إلى أمك وتدثر بإزارها كي لا تدوسك الحوافر
والأظلاف» قالت النظرة اللطمة الصمت الثقيل .
حواليك كان العالم يتقلب ، وطناجر الآخرين تستبدل التوابل القديمة بأخرى لاذعة، فيما تغلق عليك بيتك
، تصنع عجة بيض تأكلها على مهل مع كوب حليب دافئ وتفكر في
بذاءة العالم ..حتى الأطفال لم يعودوا أبرياء ، أطفال
كالجعران ، كرؤوس الدبابيس بألسنة كالمجاري تطفح بالبذاءة وتطال
الهدف على بعد خرافي كألسنة الحرباوات .
ينبغي أن تستبدل بجلدك جلد صل ، وتدرب قلبك على وتيرة أخرى للنبض ..لقد زرع الكتاب معناه فيك وعلى الجراح
فتيلة بارود.. لوسيفر لا يهدل كالحمام ، إنه يروغ كالثعلب
ويهصر كالأسد ..عر سوءات الأطفال ، دس أعناق الأزهار ،
اقطع حبال الود وانثر على قفا العالم الخراب ..قل لهم إن
الشمس أكذوبة كبرى ، وإن الصبح لا يطلع إلا لكي يكمل اليوم دورته
..
في البدء كان الليل ،
العماء الشواش والظلال المعتمة ..
كانت دمدمة الرياح ..
ثم إقليمياء
وقابيل ودم ..ووصية عمك حين أنهكته الغربة «بألا تعشقوا الأزهار ، بل اعشقوا الشر الذي لم تستطع الأزهار إخفاءه ، وعيشوا أشرارا حاقدين أو
موتوا» ثم تدلى من حبل بالسقف صامتا ووحيدا كما كان خلال
حياته القصيرة..
قليل من الشر ، هذا ما تحتاجه ، ثم..
من رواية ماء الأعماق

Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire