خبز الوظيفة
الطابق الثاني للعمارة.
صالة واسعة مستطيلة الشكل ، وحجرتان ضيقتان من نفس الحجم تقريبا ..في الحجرة الأولى ينيخ
مكتبي مثل جمل كسول وعجوز ، وبالحجرة الثانية مكتبان لزميلتي في العمل ، متقابلان
في وضع تأهب أبدي للحظة عناق لن تسمح قوانين المادة لها بالحصول ، بينما الصالة
الفسيحة التي تنفتح على الخارج عبر نافذتين متجاورتين وشرفة ، هي مكتب الرئيس ، والرئيس
لم يأت بعد.
أنا في مقر العمل الآن ..
أمتلئ بنفس الإحساس الذي ينفخ بالونه داخلي كلما اقتعدت هذا الكرسي بأن العبث هو الحقيقة الوحيدة التي تعربد بين ظهرانينا في فجور ، تشدنا بملاقطها وتجرنا في غفلة إلى محافلها المعتمة.
حين فشلت في اجتياز السد العالي للبكالوريا ، و أنكرت كتبي وأوراقي ، كنت أعتزم أن أبيع زجاجات الطيب والعطور كما فعلت في صباي ، لكن أمي كانت تحلم بأن تراني موظفا حكوميا يشعرها بالأمان « وإلا ما جدوى كل هاتيك السنوات التي قضيتها في الدراسة والطلوع والهبوط وانتظار النتيجة بقلب واجف ، تناول الغذاء على عجل ،ثم إعداد العدة لسفر جديد» سفر حقيقي ، محنة سيزيفية يومية من أقصى أطراف المدينة شمالا إلى أقصى أطرافها جهة الجنوب ..الآن ، حين أتذكر ذلك ، أعجب كيف ظللت أقطع تلك المسافات الخرافية طول مدة الدراسة بصبر لا يثلم ..أقبع خلف المكتب موظفا حكوميا لا يشعر بالأمان ، الجريدة أمامي ، والكلمات المتقاطعة تنتظر مني الندهة الأولى كي تطلق في وجهي أطيارها الملغزة ..من المكتب الآخر تصلني أصداء لغط لا يفتر تحتمي به هناء وفضيلة من النبال اللامرئية لعساكر الوقت ..الرئيس لم يأت بعد.
خلف ظهري نافذة تشرف على إعدادية وموقف للسيارات ، لكنها تظل مغلقة اتقاء لتيار الهواء ، وعبر الباب التي تواجهني ، باب الصالة المؤدية إلى الشرفة والمفتوحة على الدوام ، تنهض عمارة من أربعة طوابق أغلب شققها عيادات لأطباء في مختلف الإختصاصات ، ومن هذا البعد ( تفصلنا عنها حديقة صغيرة وشارع ) تبدو ظلال زوارها مجرد أشكال هلامية بلا ملامح أو قسمات ..من الغرفة الأخرى تعلو ضحكة فضيلة المتقطعة والشبيهة بحنحنة فرس تتوق للوصال ..« عنوان مؤلف من ثلاث كلمات لإبن الجوزي » بداية مقرفة لشبكة أكثر قرفا ..يعلو رنين التلفون ، ثم صوت هناء يرد على الهاتف « ألو، السي محمد ؟ اشكون اللي ابغاه آسيدي ؟
اللا ، ما زال ما جا في هاد الساعة » تضع السماعة ، ويبدأ اللغط من جديد ..«حيوان أليف» لست أدري من الذي قال ساخرا إن المرأة أيضا حيوان أليف ، من الذي رد بأن الأنثى هي الأصل ..أنا أسمع فقط لأني لا أحب الكتب ، لكني أعتقد أن المرأة أكثر تحملا من الرجل ، وبالتالي أكثر دهاء لأنها أكثر قدرة على التكيف مع الأوضاع المستجدة ..فضيلة مثلا ، أستاذة فلسفة ، لكنها - عوض الالتحاق بالقسم - عينت هنا، دون مهمة محددة تبذل ذاتها للآخرين من خلالها ..تحل بالمكتب كل يوم ، تعد عناكب الفراغ التي تبني بيوتها في اطمئنان ، تتلهى عنها باللغط واللبان ، راضية مرضية كأنها لم تخلق إلا لتشغل هذا المنصب بالذات ، تؤنس هناء في وحدتها وتنتظر الساعة الخامسة كي تروح إلى البيت ، وعلى الأرض السلام .
وهناء سكرتيرة المكتب .
تضحك في إشراق ، وترسل الكلمات في وجهك تباعا بلكنتها الفاسية، ثم تنثني باتجاه مكتبها بخطوات موقعة شبيهة بهدهدة طفل مقبل على النوم .
- الحاجة أتت متأخرة هذا اليوم ، وتركتني أنتظر خمس دقائق أمام الباب .
كدت أقول لها : ما الفرق بيم أن تنتظري بالداخل أو الخارج.. لاحت لي الحاجة منظفة المكتب بجسمها المترهل وأوجاع السنين، قلت :
- أنت تعرفين ، إنها امرأة متقدمة في السن ، وينبغي أن تعذريها .
- أنا لا أشكوها ، لكن الإنتظار في الطابق الثاني ، بين بابين مغلقين قد يعرض آنسة مثلي للمكاره .
قالت في غمز ملثم ، وطلعت من أعطافها ضحكة عارمة.. بدت بأسنانها البيضاء وجسدها المكتنز الراقص على ثبج الضحك مثل طفلة نضجت قبل الأوان على إيقاع الحب الأول
..« أعرف أنك آنسة وأنك تحفظين كل شئ عن حفلات الزفاف ، طقوسه مراسيمه ومقالبه، وتحلمين باليوم السعيد ، لكن...
- لا شئ يحدث ، لا داعي للقلق ..
غمغمت وكأني أحدث نفسي ..
تتحرك الظلال في الواجهة البعيدة ، ظلال صامتة ينخبها المرض ، أطباء عيون ، أمراض نساء ، الجهاز الهضمي والكبد والمرارة ، أطباء أسنان ، جراحون ، محلفون ، مختبر للتحليلات الطبية ..كلهم تابعوا دراساتهم بالخارج ثم عادوا لطفاء هيابين، ما تزال ترفرف على أرواحهم الطرية الحمائم البيضاء لشرف المهنة ، قسم أبيقراط والرغبة في التخفيف من أوجاع البشرية ، لينتهي بهم الأمر إلى نوع من اللامبالاة بمكابدات المرضى ، ولهاث لا يفتر وراء حياة رغدة ملساء .
لم يهدأ لأمي بال حتى استلمت تعييني كمحرر في السلم الثامن.. ما الذي دفعته مقابل ذلك ؟ لم تخبر أحدا ، كانت تكتفي بمشية ظافرة ، هزة كتف ، ضحكة تنفلت دون قيود حتى إذا أتعبتها الأسئلة ونظرات العيون ، لمحت في كلمات مقتضبة إلى قريب لها بعيد في سلم القرابة يحتل منصبا مهما في الوزارة «والمهم أنك حصلت على شغل»
بضعة اجتماعات في السنة ، أحرر عنها تقارير ، ثم لا شئ ، غير العناكب والأنسجة الواهية والفراغ واللغط ، الكلمات المتقاطعة العبث ، و « ألو ..السي محمد ؟
اللا ، ما زال ما جا في هاد الساعة.. ألو ، اشكون اللي بغاه آ سيدي ؟» ثم هناء وفضيلة ، وجها لوجه.. ينقطع حبل الكلام أحيانا ، ليمتد حبل آخر للصمت ، لحظات موجعة ، توهان في براري الذات أو خلف صور هاربة كالفراشات.. هناء العزباء وفضيلة المتزوجة ، هل يأخذهما الصمت إلى نفس المناطق الحلمية ، تشربان من نفس النبع وتظللهما نفس الأفنان حتى إذا عادتا على أفراس الهواء إلى الحجرة الضيقة التي تأكل أيامهما ، تبادلتا نفس النظرة المتواطئة التي تحمل نفس الخطاب :« هكذا ، كنت هناك أيضا أيتها اللئيمة » ثم ارتمتا في ضحكتين متناغمتين ؟
أنهيت الكلمات المتقاطعة فتصاغرت الجريدة وغفت على المكتب ..هناء قالت إنها تلقت رسالة من المدعو سلام الغالي وإن إخي طلبني وسيكلمني ثانية ..أترقب رنين التلفون ..تزدحم بذهني صور كثيرة من أزمنة متعددة ..فجأة وجدتني أصيح بفضيلة :
- هل تعرفين جورجيوس الأبيض؟
- جورجيوس الأبيض؟ لا..هل هو سؤال في الكلمات المتقاطعة؟
- لا..
دخلت قوقعتي من جديد ، وعادت هناء وفضيلة إلى اللغط ..لا شئ يحدث ..التلفون لا يرن ، والرئيس لم يأت بعد.
أنا في مقر العمل الآن ..
أمتلئ بنفس الإحساس الذي ينفخ بالونه داخلي كلما اقتعدت هذا الكرسي بأن العبث هو الحقيقة الوحيدة التي تعربد بين ظهرانينا في فجور ، تشدنا بملاقطها وتجرنا في غفلة إلى محافلها المعتمة.
حين فشلت في اجتياز السد العالي للبكالوريا ، و أنكرت كتبي وأوراقي ، كنت أعتزم أن أبيع زجاجات الطيب والعطور كما فعلت في صباي ، لكن أمي كانت تحلم بأن تراني موظفا حكوميا يشعرها بالأمان « وإلا ما جدوى كل هاتيك السنوات التي قضيتها في الدراسة والطلوع والهبوط وانتظار النتيجة بقلب واجف ، تناول الغذاء على عجل ،ثم إعداد العدة لسفر جديد» سفر حقيقي ، محنة سيزيفية يومية من أقصى أطراف المدينة شمالا إلى أقصى أطرافها جهة الجنوب ..الآن ، حين أتذكر ذلك ، أعجب كيف ظللت أقطع تلك المسافات الخرافية طول مدة الدراسة بصبر لا يثلم ..أقبع خلف المكتب موظفا حكوميا لا يشعر بالأمان ، الجريدة أمامي ، والكلمات المتقاطعة تنتظر مني الندهة الأولى كي تطلق في وجهي أطيارها الملغزة ..من المكتب الآخر تصلني أصداء لغط لا يفتر تحتمي به هناء وفضيلة من النبال اللامرئية لعساكر الوقت ..الرئيس لم يأت بعد.
خلف ظهري نافذة تشرف على إعدادية وموقف للسيارات ، لكنها تظل مغلقة اتقاء لتيار الهواء ، وعبر الباب التي تواجهني ، باب الصالة المؤدية إلى الشرفة والمفتوحة على الدوام ، تنهض عمارة من أربعة طوابق أغلب شققها عيادات لأطباء في مختلف الإختصاصات ، ومن هذا البعد ( تفصلنا عنها حديقة صغيرة وشارع ) تبدو ظلال زوارها مجرد أشكال هلامية بلا ملامح أو قسمات ..من الغرفة الأخرى تعلو ضحكة فضيلة المتقطعة والشبيهة بحنحنة فرس تتوق للوصال ..« عنوان مؤلف من ثلاث كلمات لإبن الجوزي » بداية مقرفة لشبكة أكثر قرفا ..يعلو رنين التلفون ، ثم صوت هناء يرد على الهاتف « ألو، السي محمد ؟ اشكون اللي ابغاه آسيدي ؟
اللا ، ما زال ما جا في هاد الساعة » تضع السماعة ، ويبدأ اللغط من جديد ..«حيوان أليف» لست أدري من الذي قال ساخرا إن المرأة أيضا حيوان أليف ، من الذي رد بأن الأنثى هي الأصل ..أنا أسمع فقط لأني لا أحب الكتب ، لكني أعتقد أن المرأة أكثر تحملا من الرجل ، وبالتالي أكثر دهاء لأنها أكثر قدرة على التكيف مع الأوضاع المستجدة ..فضيلة مثلا ، أستاذة فلسفة ، لكنها - عوض الالتحاق بالقسم - عينت هنا، دون مهمة محددة تبذل ذاتها للآخرين من خلالها ..تحل بالمكتب كل يوم ، تعد عناكب الفراغ التي تبني بيوتها في اطمئنان ، تتلهى عنها باللغط واللبان ، راضية مرضية كأنها لم تخلق إلا لتشغل هذا المنصب بالذات ، تؤنس هناء في وحدتها وتنتظر الساعة الخامسة كي تروح إلى البيت ، وعلى الأرض السلام .
وهناء سكرتيرة المكتب .
تضحك في إشراق ، وترسل الكلمات في وجهك تباعا بلكنتها الفاسية، ثم تنثني باتجاه مكتبها بخطوات موقعة شبيهة بهدهدة طفل مقبل على النوم .
- الحاجة أتت متأخرة هذا اليوم ، وتركتني أنتظر خمس دقائق أمام الباب .
كدت أقول لها : ما الفرق بيم أن تنتظري بالداخل أو الخارج.. لاحت لي الحاجة منظفة المكتب بجسمها المترهل وأوجاع السنين، قلت :
- أنت تعرفين ، إنها امرأة متقدمة في السن ، وينبغي أن تعذريها .
- أنا لا أشكوها ، لكن الإنتظار في الطابق الثاني ، بين بابين مغلقين قد يعرض آنسة مثلي للمكاره .
قالت في غمز ملثم ، وطلعت من أعطافها ضحكة عارمة.. بدت بأسنانها البيضاء وجسدها المكتنز الراقص على ثبج الضحك مثل طفلة نضجت قبل الأوان على إيقاع الحب الأول
..« أعرف أنك آنسة وأنك تحفظين كل شئ عن حفلات الزفاف ، طقوسه مراسيمه ومقالبه، وتحلمين باليوم السعيد ، لكن...
- لا شئ يحدث ، لا داعي للقلق ..
غمغمت وكأني أحدث نفسي ..
تتحرك الظلال في الواجهة البعيدة ، ظلال صامتة ينخبها المرض ، أطباء عيون ، أمراض نساء ، الجهاز الهضمي والكبد والمرارة ، أطباء أسنان ، جراحون ، محلفون ، مختبر للتحليلات الطبية ..كلهم تابعوا دراساتهم بالخارج ثم عادوا لطفاء هيابين، ما تزال ترفرف على أرواحهم الطرية الحمائم البيضاء لشرف المهنة ، قسم أبيقراط والرغبة في التخفيف من أوجاع البشرية ، لينتهي بهم الأمر إلى نوع من اللامبالاة بمكابدات المرضى ، ولهاث لا يفتر وراء حياة رغدة ملساء .
لم يهدأ لأمي بال حتى استلمت تعييني كمحرر في السلم الثامن.. ما الذي دفعته مقابل ذلك ؟ لم تخبر أحدا ، كانت تكتفي بمشية ظافرة ، هزة كتف ، ضحكة تنفلت دون قيود حتى إذا أتعبتها الأسئلة ونظرات العيون ، لمحت في كلمات مقتضبة إلى قريب لها بعيد في سلم القرابة يحتل منصبا مهما في الوزارة «والمهم أنك حصلت على شغل»
بضعة اجتماعات في السنة ، أحرر عنها تقارير ، ثم لا شئ ، غير العناكب والأنسجة الواهية والفراغ واللغط ، الكلمات المتقاطعة العبث ، و « ألو ..السي محمد ؟
اللا ، ما زال ما جا في هاد الساعة.. ألو ، اشكون اللي بغاه آ سيدي ؟» ثم هناء وفضيلة ، وجها لوجه.. ينقطع حبل الكلام أحيانا ، ليمتد حبل آخر للصمت ، لحظات موجعة ، توهان في براري الذات أو خلف صور هاربة كالفراشات.. هناء العزباء وفضيلة المتزوجة ، هل يأخذهما الصمت إلى نفس المناطق الحلمية ، تشربان من نفس النبع وتظللهما نفس الأفنان حتى إذا عادتا على أفراس الهواء إلى الحجرة الضيقة التي تأكل أيامهما ، تبادلتا نفس النظرة المتواطئة التي تحمل نفس الخطاب :« هكذا ، كنت هناك أيضا أيتها اللئيمة » ثم ارتمتا في ضحكتين متناغمتين ؟
أنهيت الكلمات المتقاطعة فتصاغرت الجريدة وغفت على المكتب ..هناء قالت إنها تلقت رسالة من المدعو سلام الغالي وإن إخي طلبني وسيكلمني ثانية ..أترقب رنين التلفون ..تزدحم بذهني صور كثيرة من أزمنة متعددة ..فجأة وجدتني أصيح بفضيلة :
- هل تعرفين جورجيوس الأبيض؟
- جورجيوس الأبيض؟ لا..هل هو سؤال في الكلمات المتقاطعة؟
- لا..
دخلت قوقعتي من جديد ، وعادت هناء وفضيلة إلى اللغط ..لا شئ يحدث ..التلفون لا يرن ، والرئيس لم يأت بعد.
رواية ماء الاعماق
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire