سأعيد الكتاب إلى صاحبته.
أذهب إلى الحديقة أتقصى أخبار المرأة التي اقتعدت الطرف الآخر للكرسي حيث كنت ، التي بدت في كامل الهدوء قبل أن يهتز كيانها فجأة وتهب مذعورة صائحة ، ثم تقذف بالكتاب أرضا وتولي..سأسألها أن تغفر لي تسرعي الذي جعلني أجير كتابا مغضوبا عليه ، أنثر أمامها أغراس حياتي الماضية بذرة بذرة ، وعوسجة عوسجة ، أدعوها إلى تمشيطها وغربلتها « لتتأكدي من نقاء سريرتي أيتها المرأة الفاضلة» ترمقني هي بطرف عينها وتتابع حكايتي ببرود واضح ، لكني أسترسل في تقليب تربة أيامي حتى تحين اللحظة المناسبة ، نرفزة فجائية في حركات يديها أو اتساع في حدقة العين، إذذاك أبتلع ما تبقى بين جدران اللهاة من ريق وأقدم لها التماسي :
- لقد أوقعني كتابك في ورطة ، أعينيني على الخروج منها باسترداده ، أرجوك .
يفتر ثغرها عن بسمة غير متوقعة تعود بها عشر سنين إلى الوراء ( أتساءل لحظتها من أين للبسمة كل ذلك السحر ، سحر تشبيك خيوط الزمن و الالتفاف عليها ) تطل بعينين متفرستين على دمي الصاخب ، ثم تقول :
- أوقعك في ورطة ؟ ذلك لأنه كنز ثمين .
- ولماذا رميته إذا كان كذلك ؟
- لأني لم أعد بحاجة إليه .
- لست أفهم .
- - لأن الكتاب ليس مجرد أوراق وحروف مخطوطة ، إنه معنى والصدر مأواه .
جعلت تضرب على صدرها بكف ذات أصابع رفيعة وهي تردد :« الصدر مأواه ، الصدر مأواه » وكلما رفعت يدها ، ارتجف نهداها موقعين وشوشات ناعمة لنداء جنيني يندغم في اللحن الطبيعي المؤطر للمشهد ، فيزداد أسرا وجاذبية .
لكنه غير مقتنع بمزاعمها ..لقد رمت الكتاب بشكل لا يدع مجالا للشك ..كانت مفزوعة، كأن تجسيدا ما للموت ، مروعا بشكل لا يطاق يمد خراطيمه كي يشفط دمها ويسر لها في لؤم نادر : «أنت لي، تعالي » لكن الجسد الذي لم يشبع بعد من الحياة ، المختلج في حركة أخيرة ويائسة ، يفلت من موته مصدقا بالكاد ، ويفر لا يلوي على شئ .
- إنه فظيع ، فظيع ..هكذا كنت تصرخين .
- لأن كل الأسرار فظيعة ..نزعم في البداية أننا نقوى على حملها ، لكن أقفاصنا الصدرية الهشة لا تلبث أن تضيق بها فنعيش في انتظار لحظة ضعف ، لحظة واحدة ، قصيرة كاللمحة كي نفتح كوة للسر يفرد عبرها جناحيه الناريين ويومض في سماء الآخرين .
فأي سر ينطوي عليه الكتاب ؟
ولماذا يغويني ويرهبني ؟ هل أعيده ، هل أحتفظ به ،أقرأه ، أحرقه أم أهمله هناك على الرف مثل زيت حائلة منسية ؟
لا..لن أذهب إلى الحديقة ..
لأني لم أألف زيارتها يوم الأحد ..
ولأن المرأة لن تكون هناك بالتأكيد ..
ولأني لا أريد أن أخذل الكتاب بعد أن أعطيته الأمان كتاب لبلبلة الأعماق ، الدوخان ، وقلب دفة السفينة باتجاه أمواه أخرى أكثر احتداما وعنفا وسوء طوية ..لم ير منه سوى الغلاف حيث اسم المؤلف جورجيوس الأبيض، والعنوان ، ثم لا شئ ، ومع ذلك بدأ منذ البارحة يفقد عاداته ، تلك القشرة السميكة من السلوكات الأليفة ، سلوكات رتيبة دون شك ، ومنومة ، لكنها تمنح الإحساس بالحميمية والدفء والأمان ، ولذلك لا يريد أن يفقدها ..البارحة ..شرب
كثيرا على غير العادة وثرثر كثيرا ..أنصت إليه الآخرون في البداية ، باستغراب كبير ، ثم بوازع من ذلك التواطؤ الضمني بين السكارى ، الذي يجعلهم متعاطفين متآزرين ..يستسمحهم أحيانا « أريد أن أبول حاشاكم» ثم يعود ليستأنف الحديث...ليلة البارحة ، كان قطارا يابانيا سريعا لا يكل ، وتوزعت محطات الكلام بلا نهاية .
- الخمر يساعدنا على سبر الداخل ، ومفتاح ذلك الصمت .
قال ذات مرة لسكير ثرثار ، ثم داخله العجب من كونه قادرا على التفوه بالحكمة ...لكنه تحدث البارحة دون توقف ..البارحة ، بعد إتيانه بالكتاب من الحديقة،
تحدث حتى لم يعد يقوى على الكلام..أسنده حمروش على كتفه وأقله تاكسيا باتجاه البيت .
وضع البراد الذي ما يزال به بعض شاي من الصبح على الفرن ، وأطل على الخارج بالنصف العلوي للجسد فيما بقي النصف الآخر حبيس المطبخ ..فكر في أن الحياة أكرة خيط هائلة وملفوفة بشكل ملغز ، وأنه الآن نصفان واحد في النور والآخر حبيس الظلمة وليس بينهما سلم ..الحياة هكذا ، قوامها جملة من الثنائيات : الطرف الأول للخيط ، ثم الطرف الثاني وبينهما تشابك والتفاف وضغائن وتراشق بالحجارة وشوارع مفتوحة وأخرى مغلقة ..
هو الآن في مفترق الطرق ، إزاء اتجاهات متشعبة وأزمنة ومصائر ، وفي الرأس غيم ...حبل للموت وآخر للنجاة ، وحبال أخرى خادعة وسرابية للتضليل ، وهو ما يزال صغيرا وأبوه ينهاه عن الفحش ، وما هو الفحش يا أبي ؟ هو كل ما يتنافى مع الذوق..وما هو الذوق يا أبي ؟ هو كل ما يعتبر أخلاقا فاضلة. وما هي الأخلاق الفاضلة يا أبي؟ هي كل ما يتفق مع تعاليم السماء .وأين هي السماء يا أبي ؟ هي في القلب أيها الغبي .
وهو يطل الآن من النافذة ، وفوقه سماء زرقاء وشمس مشرقة ..بالخارج أطفال يلعبون وسيارة تزمر كي يتنحوا عن الطريق ، رجل وابنته يغذان السير ، ومن النافذة المقابلة يبدو وجه امرأة ثم يغيب ..يلعب الأطفال غير آبهين ، تصيب الكرة وجه البنت ، يسب الرجل الأطفال ويهتم بابنته ، يسبهم سائق السيارة ، ثم يشق طريقه ويمضي ..يسب الأطفال الرجلين منهنهين بالضحك ، يسبونهما بأقذع السباب وأفحشه ..كيف تتحمل ألسنة الأطفال كل ذلك الفحش ؟ لم يعد أحد بريئا.
أزال البراد من على الفرن ، صب كأسا وتوجه نحو الغرفة ، فيما بقي البخار ينسج تشكيلاته الحلزونية ويتفسخ في صمت ..ألقى نظرة باتجاه الرف حيث الكتاب يستمرئ غفوته المؤقتة ريثما تمتد يد جديدة إلى بيضاته تنكشها وتتحسس حجم الفراخ ..هل يعرف الكتاب أنه لا يدفع إلى الحياة إلا ليلعب دور المشبوه الأبدي ، كل قارئ يستحيل إلى قاضي تحقيق يعريه ويبحث في تجاويف الجسد عن دليل إدانة تشرع صلبه في طريق عام .
فهل أتيت بهذا الكتاب لأصلبه ؟ لأصبح آكلا آخر للجيف ؟ أم أتيت به ليصلبني ، هذا الكتاب الذي لا يشبه الكتب ؟
لم يقرأ منذ زمن بعيد ..منذ أيام الدراسة ، الفصل ، الأساتذة ، التلاميذ والتهيئ للبكالوريا..المقررات الطويلة المكشرة مثل حقول ملغمة وشبح الإمتحان
...دبابيس غامضة تنتقل بين اللحم والعظم ، في العيون والمسام ..كم مضى من الوقت: سبع سنين ، عشر؟ جمع كل الأوراق والكتب ، نثر عليها مسحوق حلمه القديم بأن يكد في مفازات الدراسة حتى الواحة الأخيرة ..وضع الكل في علبة كارتون وصاح : من يخلصني من هذه الجثة قبل أن تفوح رائحتها ؟
وها هو الآن في قبضة كتاب ليس كالكتب ، اقتحم القلعة واستكان إلى الرف تحت قناع قط صغير مدلل ، الكتاب الذي روع المرأة واضطر عفاريتها إلى إعلان حالة طوارئ قصوى ..« علي أن أحب هذا الكتاب المجنون بقدر ما أكره الكتب العاقلة » همس لنفسه وأتى به إلى البيت دون أن يفطن إلى الإختلاجة التي اعتورته حينها .
- أنتم مجرد شرذمة من المحبطين يغرقون ذواتهم في الخمر تهربا من تحمل مسؤولياتهم .
قال البارحة للآخرين بعد أن أرغى في مواضيع مختلفة ..دنا منه حمروش الذي عهده وديعا مسالما ، لكنه ثار في وجهه :
- دعني يا حمروش ، أريد أن أسبهم الليلة ، أن أبول عليهم ليعودوا إلى زوجاتهم منتنين كالمراحيض.
- كلا ، تعقل يا شارلي .
لكنه لم يكن يريد أن يتعقل ، كان يحس كما لو أن خلاياه أوراش للحركة التي لا تفتر ، للهدم والبناء واحتدامات مروعة ، وود أن يصرخ ، أن يهب واقفا مثل إعصار تخلق للتو من دعابة بلهاء ، يكسر الطاولات حواليه ، يهشم الأنوف ، حين تلقى أنفه لكمة أتت من لا مكان ورصعت الفضاء بنجيمات ملونة ، قبل أن يلفه الظلام بغتة ، قبل أن يسقط .
تناول الكتاب من الرف ، فأحس بقبيلة نمل رحل تبني خيامها على سواحل الأوردة ، قلب الصفحات بأصبع حذرة : " الدركات الأبنوسية للنزول إلى بئر الشيطان" لمؤلفه: جورجيوس الأبيض.. ترى أية ألغام بثثتها أيها الأبيض بين الأوراق لتنفجر بذلك الشكل في وجه امرأة الحديقة ؟ قبيلة النمل أتمت بناء الخيام وشرعت في إعداد الشاي ، في الدم حرقة واصطخاب ، في الدم ملح وكبريت وتباشير القيامة .
لا.. لن أرد الكتاب إلى أحد ، لن أفرط فيه ، ستكون ضيفي وأكون ضيفك ..أرى نافذة الشقة المقابلة تنفرج ، دعني ألق نظرة على جميلة و أعود ..لن أفرط فيك.
أذهب إلى الحديقة أتقصى أخبار المرأة التي اقتعدت الطرف الآخر للكرسي حيث كنت ، التي بدت في كامل الهدوء قبل أن يهتز كيانها فجأة وتهب مذعورة صائحة ، ثم تقذف بالكتاب أرضا وتولي..سأسألها أن تغفر لي تسرعي الذي جعلني أجير كتابا مغضوبا عليه ، أنثر أمامها أغراس حياتي الماضية بذرة بذرة ، وعوسجة عوسجة ، أدعوها إلى تمشيطها وغربلتها « لتتأكدي من نقاء سريرتي أيتها المرأة الفاضلة» ترمقني هي بطرف عينها وتتابع حكايتي ببرود واضح ، لكني أسترسل في تقليب تربة أيامي حتى تحين اللحظة المناسبة ، نرفزة فجائية في حركات يديها أو اتساع في حدقة العين، إذذاك أبتلع ما تبقى بين جدران اللهاة من ريق وأقدم لها التماسي :
- لقد أوقعني كتابك في ورطة ، أعينيني على الخروج منها باسترداده ، أرجوك .
يفتر ثغرها عن بسمة غير متوقعة تعود بها عشر سنين إلى الوراء ( أتساءل لحظتها من أين للبسمة كل ذلك السحر ، سحر تشبيك خيوط الزمن و الالتفاف عليها ) تطل بعينين متفرستين على دمي الصاخب ، ثم تقول :
- أوقعك في ورطة ؟ ذلك لأنه كنز ثمين .
- ولماذا رميته إذا كان كذلك ؟
- لأني لم أعد بحاجة إليه .
- لست أفهم .
- - لأن الكتاب ليس مجرد أوراق وحروف مخطوطة ، إنه معنى والصدر مأواه .
جعلت تضرب على صدرها بكف ذات أصابع رفيعة وهي تردد :« الصدر مأواه ، الصدر مأواه » وكلما رفعت يدها ، ارتجف نهداها موقعين وشوشات ناعمة لنداء جنيني يندغم في اللحن الطبيعي المؤطر للمشهد ، فيزداد أسرا وجاذبية .
لكنه غير مقتنع بمزاعمها ..لقد رمت الكتاب بشكل لا يدع مجالا للشك ..كانت مفزوعة، كأن تجسيدا ما للموت ، مروعا بشكل لا يطاق يمد خراطيمه كي يشفط دمها ويسر لها في لؤم نادر : «أنت لي، تعالي » لكن الجسد الذي لم يشبع بعد من الحياة ، المختلج في حركة أخيرة ويائسة ، يفلت من موته مصدقا بالكاد ، ويفر لا يلوي على شئ .
- إنه فظيع ، فظيع ..هكذا كنت تصرخين .
- لأن كل الأسرار فظيعة ..نزعم في البداية أننا نقوى على حملها ، لكن أقفاصنا الصدرية الهشة لا تلبث أن تضيق بها فنعيش في انتظار لحظة ضعف ، لحظة واحدة ، قصيرة كاللمحة كي نفتح كوة للسر يفرد عبرها جناحيه الناريين ويومض في سماء الآخرين .
فأي سر ينطوي عليه الكتاب ؟
ولماذا يغويني ويرهبني ؟ هل أعيده ، هل أحتفظ به ،أقرأه ، أحرقه أم أهمله هناك على الرف مثل زيت حائلة منسية ؟
لا..لن أذهب إلى الحديقة ..
لأني لم أألف زيارتها يوم الأحد ..
ولأن المرأة لن تكون هناك بالتأكيد ..
ولأني لا أريد أن أخذل الكتاب بعد أن أعطيته الأمان كتاب لبلبلة الأعماق ، الدوخان ، وقلب دفة السفينة باتجاه أمواه أخرى أكثر احتداما وعنفا وسوء طوية ..لم ير منه سوى الغلاف حيث اسم المؤلف جورجيوس الأبيض، والعنوان ، ثم لا شئ ، ومع ذلك بدأ منذ البارحة يفقد عاداته ، تلك القشرة السميكة من السلوكات الأليفة ، سلوكات رتيبة دون شك ، ومنومة ، لكنها تمنح الإحساس بالحميمية والدفء والأمان ، ولذلك لا يريد أن يفقدها ..البارحة ..شرب
كثيرا على غير العادة وثرثر كثيرا ..أنصت إليه الآخرون في البداية ، باستغراب كبير ، ثم بوازع من ذلك التواطؤ الضمني بين السكارى ، الذي يجعلهم متعاطفين متآزرين ..يستسمحهم أحيانا « أريد أن أبول حاشاكم» ثم يعود ليستأنف الحديث...ليلة البارحة ، كان قطارا يابانيا سريعا لا يكل ، وتوزعت محطات الكلام بلا نهاية .
- الخمر يساعدنا على سبر الداخل ، ومفتاح ذلك الصمت .
قال ذات مرة لسكير ثرثار ، ثم داخله العجب من كونه قادرا على التفوه بالحكمة ...لكنه تحدث البارحة دون توقف ..البارحة ، بعد إتيانه بالكتاب من الحديقة،
تحدث حتى لم يعد يقوى على الكلام..أسنده حمروش على كتفه وأقله تاكسيا باتجاه البيت .
وضع البراد الذي ما يزال به بعض شاي من الصبح على الفرن ، وأطل على الخارج بالنصف العلوي للجسد فيما بقي النصف الآخر حبيس المطبخ ..فكر في أن الحياة أكرة خيط هائلة وملفوفة بشكل ملغز ، وأنه الآن نصفان واحد في النور والآخر حبيس الظلمة وليس بينهما سلم ..الحياة هكذا ، قوامها جملة من الثنائيات : الطرف الأول للخيط ، ثم الطرف الثاني وبينهما تشابك والتفاف وضغائن وتراشق بالحجارة وشوارع مفتوحة وأخرى مغلقة ..
هو الآن في مفترق الطرق ، إزاء اتجاهات متشعبة وأزمنة ومصائر ، وفي الرأس غيم ...حبل للموت وآخر للنجاة ، وحبال أخرى خادعة وسرابية للتضليل ، وهو ما يزال صغيرا وأبوه ينهاه عن الفحش ، وما هو الفحش يا أبي ؟ هو كل ما يتنافى مع الذوق..وما هو الذوق يا أبي ؟ هو كل ما يعتبر أخلاقا فاضلة. وما هي الأخلاق الفاضلة يا أبي؟ هي كل ما يتفق مع تعاليم السماء .وأين هي السماء يا أبي ؟ هي في القلب أيها الغبي .
وهو يطل الآن من النافذة ، وفوقه سماء زرقاء وشمس مشرقة ..بالخارج أطفال يلعبون وسيارة تزمر كي يتنحوا عن الطريق ، رجل وابنته يغذان السير ، ومن النافذة المقابلة يبدو وجه امرأة ثم يغيب ..يلعب الأطفال غير آبهين ، تصيب الكرة وجه البنت ، يسب الرجل الأطفال ويهتم بابنته ، يسبهم سائق السيارة ، ثم يشق طريقه ويمضي ..يسب الأطفال الرجلين منهنهين بالضحك ، يسبونهما بأقذع السباب وأفحشه ..كيف تتحمل ألسنة الأطفال كل ذلك الفحش ؟ لم يعد أحد بريئا.
أزال البراد من على الفرن ، صب كأسا وتوجه نحو الغرفة ، فيما بقي البخار ينسج تشكيلاته الحلزونية ويتفسخ في صمت ..ألقى نظرة باتجاه الرف حيث الكتاب يستمرئ غفوته المؤقتة ريثما تمتد يد جديدة إلى بيضاته تنكشها وتتحسس حجم الفراخ ..هل يعرف الكتاب أنه لا يدفع إلى الحياة إلا ليلعب دور المشبوه الأبدي ، كل قارئ يستحيل إلى قاضي تحقيق يعريه ويبحث في تجاويف الجسد عن دليل إدانة تشرع صلبه في طريق عام .
فهل أتيت بهذا الكتاب لأصلبه ؟ لأصبح آكلا آخر للجيف ؟ أم أتيت به ليصلبني ، هذا الكتاب الذي لا يشبه الكتب ؟
لم يقرأ منذ زمن بعيد ..منذ أيام الدراسة ، الفصل ، الأساتذة ، التلاميذ والتهيئ للبكالوريا..المقررات الطويلة المكشرة مثل حقول ملغمة وشبح الإمتحان
...دبابيس غامضة تنتقل بين اللحم والعظم ، في العيون والمسام ..كم مضى من الوقت: سبع سنين ، عشر؟ جمع كل الأوراق والكتب ، نثر عليها مسحوق حلمه القديم بأن يكد في مفازات الدراسة حتى الواحة الأخيرة ..وضع الكل في علبة كارتون وصاح : من يخلصني من هذه الجثة قبل أن تفوح رائحتها ؟
وها هو الآن في قبضة كتاب ليس كالكتب ، اقتحم القلعة واستكان إلى الرف تحت قناع قط صغير مدلل ، الكتاب الذي روع المرأة واضطر عفاريتها إلى إعلان حالة طوارئ قصوى ..« علي أن أحب هذا الكتاب المجنون بقدر ما أكره الكتب العاقلة » همس لنفسه وأتى به إلى البيت دون أن يفطن إلى الإختلاجة التي اعتورته حينها .
- أنتم مجرد شرذمة من المحبطين يغرقون ذواتهم في الخمر تهربا من تحمل مسؤولياتهم .
قال البارحة للآخرين بعد أن أرغى في مواضيع مختلفة ..دنا منه حمروش الذي عهده وديعا مسالما ، لكنه ثار في وجهه :
- دعني يا حمروش ، أريد أن أسبهم الليلة ، أن أبول عليهم ليعودوا إلى زوجاتهم منتنين كالمراحيض.
- كلا ، تعقل يا شارلي .
لكنه لم يكن يريد أن يتعقل ، كان يحس كما لو أن خلاياه أوراش للحركة التي لا تفتر ، للهدم والبناء واحتدامات مروعة ، وود أن يصرخ ، أن يهب واقفا مثل إعصار تخلق للتو من دعابة بلهاء ، يكسر الطاولات حواليه ، يهشم الأنوف ، حين تلقى أنفه لكمة أتت من لا مكان ورصعت الفضاء بنجيمات ملونة ، قبل أن يلفه الظلام بغتة ، قبل أن يسقط .
تناول الكتاب من الرف ، فأحس بقبيلة نمل رحل تبني خيامها على سواحل الأوردة ، قلب الصفحات بأصبع حذرة : " الدركات الأبنوسية للنزول إلى بئر الشيطان" لمؤلفه: جورجيوس الأبيض.. ترى أية ألغام بثثتها أيها الأبيض بين الأوراق لتنفجر بذلك الشكل في وجه امرأة الحديقة ؟ قبيلة النمل أتمت بناء الخيام وشرعت في إعداد الشاي ، في الدم حرقة واصطخاب ، في الدم ملح وكبريت وتباشير القيامة .
لا.. لن أرد الكتاب إلى أحد ، لن أفرط فيه ، ستكون ضيفي وأكون ضيفك ..أرى نافذة الشقة المقابلة تنفرج ، دعني ألق نظرة على جميلة و أعود ..لن أفرط فيك.
رواية ماء الأعماق
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire