lundi 13 juin 2016

                             جاذبية ابن رشد




نحن الآن في 16 أبريل 2014، أطل من شرفة بالطابق الثاني في نزل ابن رشد بأصيلة.. أشرف على حديقة عمومية، فبنايات تعلو بين الأشجار، فالبحر الهاجع عند قدم المدينة مثل أي حيوان صغير لم يشبّ عن الطوق.
إن بعض الوقائع المرتبطة بحياتي الشخصية هي بمثابة أساطير صغيرة تكتنفها الظلال، بحيث لم أعد أوقن تماما من أنها حدثت بالفعل، أو أنها اختلقت من قبلي أو قبل أحد أفراد الأسرة للتغطية على عجز ما، أو خلق إثارة مفترضة. ولعل ما سأتحدث به الآن، عن هذا اليوم الربيعي البارد، لن يخرج عن السياق المذكور.
- هل من غرفة؟
سألت مستخدم الاستقبال، فأجاب بنبرة حياد تشي بألا شيء بات يعنيه في هذا العالم:
- الغرفة رقم 5، الطابق الثاني، هي الوحيدة التي ما زالت فارغة.
لاحظ بأني أنتظر أن يسلمني المفتاح، فأردف:
- إنها مفتوحة.
بدت الغرفة في غاية النظافة والأناقة: صالون مؤثث بمجموعة أرائك، وطاولات زجاجية، واحدة كبرى تحتل الوسط، وأخريان أصغر، تركنان إلى جانبي الأرائك.. فوق إحداهما جهاز تحكم عن بعد، وعلى الحائط المقابل جهاز تلفزة بلازما، وضع تحته على طاولة خشبية صغيرة جهاز التقاط للبث الفضائي.
على يمين الصالون مطبخ صغير مجهز بلوازم الطبخ وثلاجة صغيرة، يحاذيه حمام. وأماما، الشرفة المفتوحة على المدينة والبحر، ومن نافذة جانبية، على غرفة النوم حيث يضطجع سريران فرديان وضعت بينهما طاولة خشبية بلون غامق وسجاد، بينما يحتل نصف الجدار دولاب به مشاجب وأغطية إضافية.
أخبرت مستخدم الاستقبال بأني سآخذ الغرفة، فطلب مني البطاقة، وانشغل بالنقر على ملامس هاتفه الذكي.
كانت الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال. وبدا بهو الفندق ساكنا وخاليا من الحركة وأوجه الزبائن، لولا امرأة بملامح قوقازية، منهمكة في مقارعة حاسوب محمول. هيئ لي أنها منهمكة في عالمها الافتراضي حدّ نسيان واقع أنها في بهو فندق بمدينة مغربية صغيرة على الأطلسي.. لكني ما إن هممت بالتحرك حتى بادرتني بعربية مكسورة:
- أخبرني يا سيد.. هل تنوي الخروج الآن؟
- أجل
- طيب.. إذا قابلته بلغه سلامي..من ؟
- من غيره؟ ابن رشد.

*****************

تناولت الغذاء، وتمشيت قليلا في الأزقة الضيقة بين جدارن بيضاء موشاة بالرسوم والزرقة، إلى أن بلغت باب البحر.. هناك صادفت طفلا في حوالي الثانية عشرة من العمر.. كان يحدق في الأفق الواسع أمامه، وما إن أحس بمقدمي حتى التفت إلي بنظرات شديدة الغور، وقال:
- أيها المحترم، ماذا تعرف عن الروح، أخالدة هي أم فانية؟
في سياق آخر، كان من شأن أي سؤال مماثل صادر عن طفل، أن يمر خفيفا كدعابة، لكني، وبشيئ غير قليل من الاستغراب، وجدتني أرد عليه بجدية بالغة:
- مرحبا أيها العلامة ابن رشد.. ما دمت لقيتك في هذا المقام، فمؤكد أن الروح خالدة.
هل كان لي أن أقول ذلك لطفل في الثانية عشرة حسبته ابن رشد؟
ستقول لي المرأة قوقازية الملامح، بعد أن ترفع يديها عن الحاسوب إنه أثر الفندق على الزبائن، وأنها بدورها ما تزال تحت أسر جاذبية ابن رشد، منذ نزلت بالفندق قبل عشرة أيام. فهي لا تستطيع أن تفارق الحاسوب (الذي يفيدها في البحث عن ابن رشد) إلا للتحدث عنه (عن ابن رشد طبعا) لمن يهمه الأمر. ثم أضافت وهي ترنو إلي بعينين خضراوين إنها بمثابة جرم ضئيل في دائرة جاذبية جرم أكبر.. (هل كانت تقصد ابن رشد أو تقصدني؟) هممت بأن أقول لها إني مجرد عابر سبيل لا يعرف ابن رشد إلا بالإسم، دلف أول فندق يصادفه ليقضي ليلة واحدة ، ويواصل رحلته إلى الجنوب..
- إلى مراكش بالطبع
- لماذا مراكش تحديدا؟
- حيث ابن رشد، وأبو يوسف يعقوب، و..
كانت تنطق بذلك، فيما هي تدنو مني، بالعينين الخضراوين الواسعتين والبسمة المتوهجة، والكف التي مدت إلى كتفي تحط عليه كطائر للرغبة.
ما أذكره بعد ذلك أني صعدت الأدراج إلى الطابق الثاني والغرفة رقم 5، وبي حاجة إلى الاستناد على كتف، أو الارتماء على أول سرير تصادفه قدماي..
فهل كنت نائما حين رأيت ما رأيت؟
كأن غيمة سقطت في الغرفة قبل أن تنضو ثيابها.. سقطت كملحفة من قطن، بيضاء ومصمتة.. غامت معها الأرائك والتلفزيون والثلاجة والطاولات الزجاجية والجدران ولوازم الطبخ وسخان الحمام...
الغيمة فقط
والبياض الذي يخفي الوجوه والنوايا والأحلام.. البياض الذي يحضنك بحرارة ويشعرك بالامتلاء: كنت ممتلئا بالمعرفة، وموقنا بأن الغيمة هي نفسها ابن رشد، يود أن يبث إلى العالم رسالة أخيرة قبل حلول المحرقة.
*************
نحن الآن في 16 أبريل 2014، أطل من شرفة بالطابق الثاني في نزل ابن رشد بأصيلة.. أشرف على حديقة عمومية، فبنايات تعلو بين الأشجار، فالبحر الهاجع عند قدم المدينة مثل أي حيوان صغير لم يشبّ عن الطوق.
كنت أفكر في أني شخص على العتبة، سيلج بابا لم يألفه. زمجر البحر لحظة وصمت، وفي الحديقة، تحت، لمحت جسدين يتهاديان برفق: كانت المرأة قوقازية الملامح تطوق طفل باب البحر بذراع حانية، وإذ صارا تحت الشرفة مباشرة، رفعت رأسها نحوي، وقالت بصوت مسموع:
- فأية باب اختار العرب، هم الذين بحاجة دائمة إلى من يحرضهم على النوم؟
************
سأعرف حين أفقت كلية من دوخة المعرفة أن جاذبية ابن رشد لم تكن بالنسبة للمرأة وطفل باب البحر غير وسيلة أنيقة للنصب.
كيف تم الأمر؟
وما الذي حدث ذلك اليوم بالتحديد؟
الشيئ الوحيد المؤكد أنني تعرضت للسرقة، وأن جيوبي المفرغة لم تكن تحتوي سوى قصاصة ورق بيضاء صغيرة مكتوبا عليها جملة واحدة مصوغة على شكل استفهام استنكاري:
كيف لشعوب يسكنها الغزالي أن تعرف ابن رشد؟


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire