mardi 9 février 2016


جميلة مرة ثانية                                   
                       أو جزيرة موحشة وطائرلقلاق                           


  

الحزن حصان وحشي ..
إما أن يسقط راكبه باحتداماته المجنونة ، يدق عنقه ويكسر الأضلاع ، وإما ان يصير وليا حميما ومطهرا لصهر الروح ..اسألوا جميلة ، اسألوا جميلة الحزينة.
جميلة التي تنتظر ..
كل صباح هي تنتظر ، وكل زوال ومساء ..الرجل الذي قال لها : « أحبك بجنون » وجعلها تولد تلك اللحظة ، وعدها بأنه سيعود فصدقته ..قال لها :
. انتظريني-
ردت :
 سأنتظر. -
السنوات تمر ، وجميلة امرأة وحيدة وحزينة ، لكنها لم تيأس أبدا .. كانت قد ترملت حديثا من زوج يكبرها بعمر ، وفد ذات يوم إلى قريتها الموغلة في
الفقر ..لم تعد تذكر جيدا ..رجل يحل في دارهم ، قأقأة دجاجات وعويل على مقربة من الدار وفاتحة تقرأ ، ثم تغيب وجوه الأحباب وتبدأ رحلة الألف غصة وآه من الأيام.
في الحادية عشرة كانت ، تحب أن تنط على الحبل ، تلعب «مالة» بالحجيرات الكروية الخمس وتتسلق أشجار التين مثل عنزة نزقة ..لكن الرجل أتى يقتلعها من دفء الأهل ويهربها نحو بلاد بعيدة ..رجل ينكر طفولتها ، يصر على أن ينام معها ، يخلع سروالها ويسفح دمها فوق شرشف من المخمل ، فهل هذا يليق أيها الإله الرحيم ؟
تهرب حين تحس بالخطر الوشيك ، حين تتسلل يده مثل حية دبقة وكريهة بين فخذيها ، وتنزوي في الركن الأقصى للبيت على مقربة من الميضة، تنشج بالبكاء وتسأل عن أبيها ..تأتي حماتها المغضبة وتصرخ فيها :
- لماذا لا تريدين أن تحرري الزغرودة المحتبسة في الحلق يا ابنة ألف جحش ؟
وهي التي لا تفهم ما الذي ترمي إليه الحماة ، تصاب برجفة ، تحس بأنها على وشك المرض أو الموت فتستسلم لبكاء مر .
لكنها ولدت يوم قال لها مصطفى : «أحبك بجنون» في تلك الحديقة الزاهية ..نسيت الرجل الآخر، القرية الموغلة في الفقر والدم المسفوح وانتهارات الحماة ..قالت :
« تلك نتف حكايات قديمة سمعتها من امرأة أخرى في لحظة حمى» جمعتها كرماد الموتى في جرة خزفية ودفنتها في أرض نائية بالذاكرة 
كان على وشك التخرج ..قال لها .
سأصبح أستاذا كبيرا وأخطفك من سجنك إلى الفضاء الرحب.. أضاف
قالت : يا ربي اللحظة أولد من جديد.
ثم شاهدا مسرحية هزلية وضحكا كثيرا ..( سمسار وخاطب ، فتاة ودار ورجل ماكر وآخر جشع وامرأة عبيطة ..ثم تنقلب الأدوار ليصبح السمسار خاطبا والخاطب سمسارا والفتاة دارا..)
: سوء تفاهم بسيط تغذيه لغة متآمرة -
قال لها .
وكم ضحكا تلك الليلة .
 هل ترين تلك الممثلة ؟ تؤدي دورها بإتقان ، انظري كيف تبدو عبيطة حقيقية -
 أو ليست عبيطة؟
. كلا يا حبيبتي ، إنها ممثلة تتقمص دور العبيطة-
. هكذا إذن -
سارعت إلى القول دون أن تستوعب كلية الفرق بين أن تكون عبيطة وأن تتقمص الدور .
لكن سحنته تتغير فجأة ، تتحرك عيناه الزئبقيتان في كل اتجاه ، ثم تستقران على شاشة التلفزيون ويقول لها في نبرة من يفوه بسر فادح :
. أ
ريد أن أصبح فنانا ،
 أشخص الأدوار المختلفة مثل هؤلاء ، وأدخل البهجة أو الرعب على القلوب
-
-  
ألن  تكو
ن أستاذا ؟
سألت في حيرة .
   
أستاذ ، نعم ، وفنان 
، أحدهما لا يلغي الآخر 
اسمعي، لقد فكرت في الأمر كثيرا ووصلت إلى قرار : سأرحل 
لتحقيق حلمي بأن أصبح
 فنانا ، ويوم تشاهدينني على الشاشة ، اعلمي أني سأعود
.
طوق عنقها بذراعيه وحاصر الثغر بشفتين نهمتين .
 هل تذكرين لقاءنا الأول ؟ قولي هل تذكرينه؟
طبعا ، طبعا أذكره -
 
كنت تطعمين الإوز بحب غامر ، وفكرت لحظتها في ذلك المحظوظ الذي
ولدته أمه في خرقة بيضاء والذي
 سيستحق حبك 
يضحك في سعادة ظاهرة ، ثم يضيف :
- لم أكن أعلم أني ذلك المحظوظ.
لكنك لم تعد تحبني ، وإلا ما كنت فكرت في 
هجري.
 .
تقول في عتاب .
عديني بأنك ستنتظرينني ، من أجلك أريد أن أحقق حلمي 
وسأعود
 . -
ومن يومها وجميلة الساذجة تترقب ظهوره على شاشة التلفزة ، جميلة العبيطة التي وهبته حليها وصدقت أنه سيعود.
تخلي نفسها من أي التزام ، وتبرك أمام الشاشة تتابع الأوجه بتمعن، فيما تزداد ضربات القلب في الإرتفاع ويطفح الوجه بالسخونة.. لن تذهب إلى المرحاض إذا أحست بالحاجة إلى ذلك ، لن تفتح الباب لأحد، ولن تتفقد المطبخ الذي سيكون الآن مستعمرة لبنات وردان تحرثه جيئة وذهابا ..الجسد قوس موتور ، اليدان مشدودتان، والعينان لا تتزحزحان عن المربع المضئ ..رأت مسرحيات ومسلسلات عديدة ، وحفظت أوجه ممثلين كثيرين ، لكن مصطفى لم يحقق حلمه بعد ، الحبيب الغالي ، أية عراقيل تقف في وجهه؟ وأي جهد يبذله لتخطيها ؟ اظهر يا مصطفى ، اظهر .
يحتد الحصان الأدهم الوحشي ..وتنبش القبر الذي في الذاكرة فتغطي مظلات سوداء سماءها..الحصان حصانان ، وهي مشدودة إلى حوافرهما ..شدتها الحماة إلى السرير بوثاق متين « حتى لا تهربي مرة أخرى ، يا ابنة ألف جحش» ..ترجت الزوج باكية واستنجدت بالأب الغائب والأولياء حتى أنكر الجسد حالة الصحو وارتمى في إغماءة منقذة ، إغماءة قصيرة من ضباب ، رأت خلالها حبلا تنط عليه بجسدها الطفلي ، ورأت أشجار تين ودجاجات ، ثم اقتحم نيزك ملتهب أحشاءها ..ألم حاد وتمزق وصرخة وزغرودة ، ثم إغماء تام ، ظلام مطبق .
كانت قد نسيت ذلك .
ظنت أن النسيان حليف أبدي ، وأن الغد أكثر إشراقا حين أتى مصطفى .. ثم رحل واعدا بالإياب .
. تنتظرين السراب -
قيل لها .
لكنها تؤمن بأنه سيعود ، وستظل تنتظر أعمارا أخرى.. ستدجن الحصان الوحشي أو..تموت
                                    
                                      من رواية  ماء الأعماق                                                  


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire