samedi 27 février 2016

                                     حبيب الصخرة                               


   
يوما عن يوم كنت أزداد اقتناعا بأن هذا العالم مصوغ من زجاج سميك خشن و جارح. وعليه فكرت في أن علي أن أصير حجرا باردا و مقيتا دون قلب و دون حساسية زائدة،إن أردت أن أعيش بدون مشاكل لا تحدث حتما إلا لشخص مثلي.
أحيانا يمكن أن أصاب بالأرق ليلة كاملة أو ليلتين لمجرد أن أسمع أحدا يشبهني بالقرد أو الخنزير أو اي حيوان آخر يتسم بالصلافة و الدمامة. و حتى إذا كان ذلك مزاح قد يتبادله أي صديقين حميمين في أي وقت من الأوقات، فإن ذلك يؤرقني أولا لأنه ليس لدي صديق، ثانيا لأني فعلا إنسان دميم. و لطالما تمليت جسدي في المرآة حتى تعبت من الوجه البشع الذي يطل علي و الذي يشبه وجه خنزير أبصق عليه و أبكي.
و يحدث أحيانا أن تشعر أمي ببعض الرأفة فتهدئ من روعي لكن ذلك عادة ما ينتهي بأن تصرخ في وجهي و تقول :
- لقد أرهقتني يا ابن الكلبة ماذا فعلت للرب حتى يعاقبني بك؟
ثم تأخذ في النشيج و حينذاك نتبادل الدورين، ويكون علي أن أحاول ترضيتها.
و بعد تفكير طويل مضن وصلت إلى درجة كبيرة من الإقتناع بأنه يتوجب علي أن أصير حجرا.و لست أدري كيف بت أعتقد أن علي لكي أصير كذلك أن أحدق في الشمس.. أحدق في عينها طويلا دون أية عقدة نقص وأستمر في التحديق حتى يحط الظلام أو يحل الكسوف ما فتعلن بذلك عن انهزامها.
و هكذا صممت يوما فاعتليت صخرة في اللحظة الصفر تماما.. لحظة الإشراق الأبيض أو مثلما يدوزن الضارب على العود أوتاره قبل البدء، هيات أعضائي و حواسي التي كان عليها أن تتلافى الوقوع تحت أي تأثير خارجي و أن تتحلى بالكثير من الصبر بيد أن الأمر بدا صعبا للغاية. و  
 قبل  الزوال كنت قد نزلت من الصخرة و دفنت عيني في الأرض كانما أقدم – خجلا – تحية إكبار لعدو قوي و شريف. في البداية أحسست بأكلان في العين و ألم في عظام الرقبة قلت: صبرا و ما لبث جسدي أن تنمل و تكهرب صبرا صبرا قلت..غير أن عيني إحمرتا بعد ذلك و تحشرفتا ثم بدأتا تتدليان من محجريهما و فجأة انتفضت..كانت أمي قد دخلت الغرفة دون أن انتبه لذلك و رأتني أبلل عيني بالماء فزعقت كعادتها :
- أي مصيبة أخرى جررت على نفسك يا إبن الكلبة؟
و لم يكن ممكنا أن تفهم شيئا.. تلك الشمطاء العنيدة التي نزحت في فجر يوم غاضب من إحدى القرى الجبلية النائية.
قرية كل ما فيها حجر..صلد و قاس..يظل أهلها يتشاجرون حول أتفه الأمور و يكثر ظهور الخنازير البرية في جنباتها. ومن الأرجح.. و من المؤكد أن العجوز و هي حامل بيت وحمت على خنزير بشع داهم البيت ذات نهار رائق مشمس.
 كانت الشمس حارة و تعمدت  أن أذهب عند الزوال فبعد الفشل الذي منيت به في المرة الأولى، أدركت أن علي أن أمر بفترة تدريبية، فرسمت لذلك مخططا اعتزمت أن أسير عليه. و كان من المقرر أن أمكث ذلك اليوم على الصخرة منذ الزوال حتى الساعة الثالثة أي في الفترة الأكثر توقدا و اشتعالا.
هل كنت حية؟ أقصد حية بلعنبر التي تحدث عنها الجاحظ و التي تركز ذيلها في رمل الصحراء المتوقد و تقف مثل الرمح ساعات طويلة في انتظار طائر غر يحسبها عودا. و الآن هل كنت حية ؟ تصبب مني عرق كثير و سال دمعي و كنت أشعر أحيانا كأن جفني امتلأ بالرمل أو بتلك البثور الحمراء الصغيرة التي تحول دون أن يغمض الانسان عينيه مرتاحا. و في اللحظة التي أهم فيها بأن أسدل من عيني راية بيضاء، أرى على ثغر الشمس بسمة ساخرة قاتلة فأستمر في التحديق. ورغم أني لم أتمكن من الصمود حتى الثالثة إلا أن ما قضيته من وقت كان كافيا لكي يحفزني على الإستمرار  فيما عقدت عليه العزم . و لم يكن ليثنيني عن ذلك ما قاسيته يومذاك من ألم و أكلان شديد عدا أني قطعت الطريق من الصخرة الى المنزل مغمض العينين.
كانت أمي عند الباب فطوحت بصراخها في الهواء مثل شجرة منخورة مجتثة من الجذور :
- ستموت يوما مثل أبيك مذبوحا في الخلاء أو في إحدى الخرابات.
ثم جعلت تعوي و تندب حظها الذي ابتلاها بسلالة خنازير حمقاء.
هل كان أبي دميما أيضا ؟
المصدر الوحيد الذي يمكن أن  أستقي منه أية معلومات هو أمي و يبدو أنها لم تكن تحبه، فكثيرا ما ترد في معرض حدسثها عنه كلمات من قبل الخنزير، الكلب، الحقير..و تنعته أحيانا حتى بتلك الكلمة التي تبتدىء بالزاي. و إذا ما رأت على وجهي مسحة ما..قد تكون مسحة حزن أو تدمر فيه رثاء فإنها تضربني بجملتها البتارة التي تقصم ظهري و تقصفني:
- و إلا لما وجد مذبوحا في وكر تلك الباغية الكريهة.
كانت قد وفدت على القرية ذات صباح مثلما تهبط روح شريرة من السماء..امرأة  جميلة – و الحق يقال – ذات نظرة تجمع بين عهر الشيطان و عفة قديسة متبتلة. و منذ تلك اللحظة، اللحظة الأولى التي رأيتها فيها أدركت فيها أن خنزيرا ما سيموت يوما بين فخديها.
و قد حصل ذلك ذات يوم.
و ما يزال أحفاد زوربا الاغريقي يؤمنون بأن اللحم اللذيذ هو اللحم المسروق. يقع الرجل في أحابيل النساء و النساء في أشراك الرجال، لكن هذا لا يمنع أن تكره أمي أبي و أن أمرن نفسي على أن أصير حجرا.
و لقد مرت مدة طويلة على بداية التمرين عندما صار بإمكاني أن أجلس على الصخرة المقابلة للشمس و أحدق في الأشعة اللاهبة نصف نهار أو يزيد، غير أن ذلك لم يتم دون خسائر و إن أثر في ايجابيا أيضا. لقد صار بإمكاني أن أحدق في عيني أمي دون أن يرتعش لي هدب و أن أقول للأرق وداعا ، و باختصار بدأت أتحول إلى إنسان آخر. و هذا لم يفت الآخرين الذين باتوا يخشون نظراتي الزجاجية الباردة و يتحدثون عني باحترام أكبر في كثير من العجب و الاندهاش.
و نتيجة لذلك بدأت أشعر بأن عقدة النقص التي أمضتني فيما قبل ، قد أخلت مكانها لشعور بالزهو و الغرور.لقد هزني ما حققته من مكسب و لم أهتم كثيرا لأني صرت حسير البصر للا أتبين الأشياء بوضةح دون نظارة طبية و عندما يجرأ أحدهم و يسألني عن الإلتهابات الحمراء التي باتت تسيج جفني فإني أهز كتفي استعلاء و أقول:
- إنها الحالة  التي تحيط بقرص الشمس .أما أمي فقد حفرها الرعب عندما غلفت يوما جسدها المترهل بنظراتي الزجاجية..رعب بدائي معفر ببعر الحيوانات البرية..قالت:
- ما هذه النظرة المفزعة يا إبن...
لكن الكلمات انخطفت منها فتأتأت و شقشقت و ارتجفت شفتاها الغليظتان ثم أجهشت بالبكاء. و منذ ذلك اليوم لم أسمعها تناديني يا ابن الكلبة أو تشبهني بالخنزير. حتى أبي صارت – و هي تتحدث عنه – تتلافى قاموسها السابق المقيت و كنت ألاحظ انها تبذل في ذلك جهدا كبيرا . و رغبة في تعذيبها صرت أتعمد أن أحاصرها بالأسئلة و أجرجرها إلى التحدث عنه..
تلك الليلة كنت أعلم انه عندها. كانت ليلة قمراء متلألئة جعلت جسدي يبكي شوقا الى ذلك الذي لا تجده المرأة إلا في أنفاس رجل مهما بلغ من الدمامة و البشاعة.لكنه كان عندها. و كم بكيت و أنا ارقب النجوم و أتصوره في حضنها يشرب من زبدتها و مائها و تفاحها... كانت هناك نجمة أكثر إضاءة من الأخريات لكنها اختفت فجأة فداخلني إحساس قوي بأن أمرا قد وقع و شممت في أعطاف الليل رائحة الدم.و منذ ذلك، و أنا أخاف الليالي البيضاء المقمرة ، أتوقع ألا ينبلج عنها الصبح حتى تكون دماء كثيرة قد أسيلت.
كان أبوك مسجيا و عاريا.و كان وحده في البيت. أما هي فقد اختفت و لحد الآن لم  يعرف  أحد ما حدث تلك  الليلة  و كيف  اختفت تلك المرأة ، هل كانت حقا امرأة؟ و أنت قل لي كيف صارت عينك من زجاج.
و كان ذلك آخر سؤال لها ، فقد هوت فجأة مثل خربة.و لست أدري ما الذي قتلها :الأب أو الإبن. و كيفما كان الحال فالأمر لم يكن يعنيني إذ كففت منذ زمن عن اعتبارها أمي و كنت أعاملها كما لو كانت إمرأة أخرى ظلت طريقها إلى دار العجزة و فرضت علي وجودها باسم سلطة حمقاء و غير مدركة.
و مع ذلك فقد كنت حتى ذلك الوقت ما ازال أحس. و هذا ما كان يزعجني لأنه يعني بأني  لم أصر بعد حجرا.أحس بالبرد و ثقل النوم في الجفنين و أحيانا يخفت ذلك العضو البغيض الذي في الصدر من الفرح أو الألم. و كان علي أن أكثف من تماريني فانتهيت إلى وضع مخطط جديد لم يلبث أن أدى النتيجة المرجوة: لقد تمكنت أخيرا من أن أحدق في الشمس طيلة النهار.
تتبعت مسيرتها: صلفها و كبرياءها ثم توردها الأخير و هي تنكس الرأس ببطء و تهوي حزينة في مهوى معتم.
- لقد هوت.     
قلت .غير أن ذلك كان دون شعور أو طعم. قلتها ببرودة حجرية. فالانتصار الذي طالما حلمت به و صرفت لأجله عمرا لم يكن في تلك اللحظة يعنيني تماما مثل موت العجوز و مثل كل الأشياء التي حدثت فيما بعد.

في البداية لاحظت أن الجيران باتوا يتحاشون النظر الي و مبادلتي الحديث ثم صاروا يتحاشون لقائي كنت أرى ذلك في الحركات المشبوهة التي تعتمل في الدرب لدى دخولي أو خروجي و التي يصير على إثرها خاليا تماما مقفل الأبواب.و دون شك كانوا يحرصون على إغلاقها بالمزاليج..آنذاك أقطع الدرب بخطوات وئيدة مفرقعة  ثم أتجه إلى الصخرة حيث أقضي معظم النهار. كانت هي كل ما تبقى لي. حتى الشمس لم اعد أرفع إليها عيني إلا 
لماما ..أحضن بنظراتي الصخرة أمسح على جسدها و أحيانا أقبلها ..كانت كل ما تبقى لي و كنت أحبها ..ذلك 

الحب الصخري البارد المقيت.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire