في غياب الأب
يصبح الأبناء تيوسا
يتوفى الأب
..
وتبقى الأم شجرة وارفة تغطي بحدبها الأطفال ، لكن قبضة الأم رخوة ،
تستطيع أن تعرك العجين لتصنع منه خبزا أو ثريدا ، بينما الأطفال - الذين كبروا فجأة قبل الأوان -
يستعصون على الإمساك ، ينفلتون عبر
الإنفراجات الضيقة وطرقعات الأصابع ليصبحوا في النهاية تيوسا تلوذ
بأشجار البراري العارية .
هكذا تحول محمد ذات صباح إلى تيس .
أكبر الإخوة ، وأقربهم إلى سن الشباب و الحلم بعالم أبيض مفروش
بندف القطن ، يثغو في وجهه بحب ويبيحه نفسه دون شروط ، لولا أن العالم ليس حملا ولا هو يسلم مفاتيح
كنوزه للناس البسطاء .
. أمي
-
صاح أحمد
..
. نعم يا ولدي -
. أود أن أرافقك-
.هكذا.. تريد أن تزوغ من المدرسة ايها الثعلب-
. كلا يا أمي ، العطلة على الأبواب-
أحست بوخز في صدرها ..شكة إبرة أخطأت الطريق إلى القماش
وانغرزت في القلب بعدوانية تعطل حركة
النبض وتنكأ جرحا لما يندمل بعد ..في عطلة سابقة ما تزال ظلالها
القاتمة تخيم على البيت ، لقي زوجها محمد بلفقيه ربه في سلام .« لمن تركتني يا سيدي محمد
بلفقيه ، والدنيا
غابة والحمل شاق ؟» صاحت بقلب مكلوم ، ولمت اليتامى حولها « لمن تركتني ؟».
كان يعرف أن الأوان أزف ..ساعة آذان المغرب
بالتحديد..يسأل بين الفينة والأخرى عن حركة الشمس في السماء وعن صوت المؤذن
،ثم يغيب خلف نظرات بيضاء لم تعد
تنتمي إلى هذا العالم..اجتمع حوله بعض رجال الحي والأحباب ممتلئين
خشوعا ورهبة، حول جارهم الذي يعبر الآن جسرا لن يلبثوا أن يعبروه بدورهم ..مستلقيا على ظهره
باتجاه القبلة ،
يستعجل ساعة الرحيل « لا إله إلا الله » يهمهمون «انتقال من دار العمل إلى دار الجزاء» وبغتة أشرقت شمس
على شفتيه والتمع في العينين بريق ...كان الوقت قد قارب المغرب، وبرتقالة الشمس تستعد للهوي إلى سلة
العالم السفلي، حين لمح سيدي محمد
بلفقيه طيفا من نور يتسلل إلى الحجرة يشعلها بهاء .
. أهلا ، أهلا بسيدي محمدالحبيب
غمغم في صوت خفيض يرحب بالإشراقة البهية ، لكنهم سمعوا
اسم محمد فقط فاعتقدوا أنه يطلب ابنه للحظة وداع أخير ..خف أحدهم إلى الحجرة الأخرى ،
وأتاه به ، بيد
أنه لم يلتفت إليه ، وبقيت عيناه نصف المغمضتين ترنوان في شوق إلى الأرواح المضيئة التي تفد تباعا وتنضم
إلى الطيف الأول الأبهى وتحيل الغرفة إلى فضاء شفاف
أهلا بسيدي أحمد التيجاني ، سيدي عبد القادر الجيلاني،
أبي الحسن الشاذلي
لحظة فريدة ، لتقاطع عالمين ومصالحة استثنائية بين قطبين
متضادين .
رفرفة أجنحة ملائكية ..رفرفة من نور وعبق ، وفرحة عارمة
لاستقبال ضيف عزيز..كانوا فوق ،
قريبين بعيدين ، ينتظرون الأمانة ليبشروا بها السماء ،
ويودعوها مكانها المستحق في عليين ..أطبق عينيه في إغماضة
أخيرة ، وكان صوت المؤذن ينادي لصلاة المغرب ، وظلال الشفق تطلق زغرودتها في الأعالي ، فيما استمر
الآخرون في التكبير.
ويقسم بعض أهل الحي أنهم شاهدوا وقت آذان المغرب عمود نور
وهاج يصعد من بيت سيدي محمد بلفقيه إلى عنان السماء.
وبكت في حرقة
.
بكت في صمت حارق موجع..ورأت الدنيا مثل حبة مشمش مسلوخة القشرة ،
مهترئة ولا علاج لها، رأت أنهارا ووديانا وأوراق خشخاش طاعنة في السن وضروع أبقار تجف كل دقيقة
وجسرا معلقا في الفضاء ودون حدود ..رأت حياتها السابقة تخب أمام عينيها
كفرس سباق سابحة باتجاه الغروب ..ثم أعقب ذلك لحظة صفاء صقيلة ..«ما في القلب
لا يعلمه إلا الله ، لكن الإنزواء في قعر الدار بيدين مكتوفتين لن يؤكل الأولاد خبزا» وهبت واقفة
متحفزة .
تمكنت بمساعدة أحد أحباء زوجها من الحصول على حيز في
مدخل إحدى القيساريات ، أرست فيه فترينة أثثتها بمجموعة من السلع الخفيفة : قلائد ، أساور ، خواتم
، زجاجات طيب ، أقلام أحمر شفاه،
طلاءات ومراهم أخرى للتجميل ، ثم بدأت - هي التي أنفقت حياتها داخل
البيت - رحلة التجديف
في هذا الخضم المتقلب الذي لا بر له.
قالت لأحمد
:
. غدا سآخذك معي-
تهلل فرحا والتفت إلى إخوته :
.سأرافق أمي غدا -
لكن محمدا لا يعجبه العجب.
صار يسهر حتى وقت متأخر ، وحين يعود ، ينزوي في أحد
الأركان منقبضا صامتا
، ينتهز أية إيماءة كي
يفجر سخطه على العالم.
- بماذا أفادنا ورع أبي وتقواه ؟خبريني أيتها الأم التي شبت تحت جناحيه يسمعها قصص
الأنبياء وأخبار الصالحين ي رياض التسبيح وتزكية النفس
. استغفر ربك يا بني ، ولا تكن جاهلا -
. استغفر ربك يا بني ، ولا تكن جاهلا -
. الدنيا يملكها
الجاهلون -
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم-
تذكر الزوج الذي رحل « سيدي محمد بلفقيه ، لو أنك ما تزال
على قيد الحياة ، هل كان ابنك يفوه بهذه الأضاليل ؟ أستغفر الله العظيم»
الزوج الغالي تركها لإمتحان لم تهيأ له بما يكفي ..حمل لا يطاق وحياة بطعم العرق المالح .
وسيعجب أحمد بتلك الحركة الدائبة التي لا تفتر ،
وذلك العالم من الأصوات والروائح التي بدت في الأول متداخلة ملتبسة ، لكنه سرعان ما صار يتبينها
بوضوح، يعرف أن الصوت الجهوري الزاعق هو لصاحب محل القماش ، الرجل ذي الأصل البدوي على يمين القيسارية
، وأن الرائحة التي تشق الآن طريقها إلى دمه مهيمنة على الروائح الأخرى مصدرها زجاجة العطر المستوردة
التي يتطيب بها
الحاج في هذا الوقت ، تضوع رائحتها النفاذة ، تثير الجوارح ، تحقن النفوس برغبات بدائية غامضة وتستدرج
الزبائن الذين يبيعهم الحاج في النهاية زجاجات مشابهة لكن أقل جودة.
وقد تمكن في الأيام الماضية من أن يعرف قيمة البضائع
التي تبيعها أمه وصار بمستطاعه أن يضطلع بمهمة البيع وحده حين تضطر إلى الغياب .ولعل
ما يغبطه أكثر،
هو أن يبيع إحدى زجاجات العطر المسمىشارلي، يؤثرها على السلع الأخرى وكلما رأى بارقة سانحة تتيحها زبونة
مترددة مدفوعة بحمى الأستهلاك دون تعيين لما تود اقتناءه ، إلا وأغراها بشارلي :
خذي شارلي ، لن تجديها بثمن أقل ..عندنا زجاجا
ت متفاوتة الحجم ، لتري بنفسك
ا
وبقدر افتتان أحمد بهذا العطر (ربما أكثر من افتتانه بزجاجة العطر النفاذ التي عند
الحاج ) بقدر ما يجد متعة لا تحد في ترديد ا
سمه على مسامع الزبائن : شارلي
،
شارلي ، شارلي ..هل كان يجد في ذلك مجرد تسلية بر
يئة يحتمي بها من صخب
القيسارية ، أم أن زجاجة شارلي صارت موضوع حب لا يفقه كنهه
يظل يغازل اسمها نهارا
وتسكن أحلامه بالليل ؟
لكنه - ومهما كان الأمر - وجد نفسه يفقد اسمه الشخصي شيئا فشيئا
ليصبح معروفا لدى الزبائن، ثم لدى الجميع باسم عطره المفضل : شارلي .
محمد وحده كان يشذ عن هذه القاعدة « شارلي اسم مترف لا تستحقه يا
ابن أمك »
يقول في مرارة، يحك سبابته بإبهامه في تلميح إلى المال ، ثم يضيف :
هذا وحده يعطيك كامل الحقوق وكل الألقاب ، لكنك لا تملكه يا بائع
لأمشاط والقلائد الرخيصة ، يا ابن أمك-
تحاول الأم أن تلمس شيئا مما يحدث لإبنها البكر ويشقلب كيانه بهذا
العنف الصاخب، لكن طرقاتها تجعله أكثر انغلاقا وحيطة وتشق للمسافات أمداء إضافية .
وفي المساء
.
ذات مساء ، حين عودتها من القيسارية ، أدركت أن المبلغ
النقدي الذي ادخرته لوقت شدة ، قد اختفى.
وفي ذلك المساء ، لم يعد محمد إلى البيت .
بكت لأن ابنها ، ابن سيدي محمد بلفقيه لم يتورع عن
السرقة ، ثم بكت لأنه غاب عن ظلها ، وأين يكون الآن ، وما الذي يكون قد حل به ، يا إلهي ؟
قال شارلي الذي أحس بأن تجربة القيسارية قد أنضجته :
. سيعود يا أمي حين يصرف ما معه-
وعاد فعلا
.
بعد أربعة أيام من الخوف والقلق ، من الركض خلف
صورة الإبن الغائب على ظهر أسئلة متوثبة ترجو ضوء الجواب وتخشاه.
أين كنت خلال هذه المدة ؟ وماذا جرى لك ؟ وهل هذا ما يصنعه الأولاد البارون
بأمهاتهم ؟
لكنه عاد متعبا ..لو أنه حجر أصم وجامد ، لو أنه يسافر
بعيدا أو يصاب
بمس يفقده ملكة التمييز، لو أنه يستريح ، ينام .
توسل إليهم أن يتركوه ينام.
على الأقل ، هو معهم في البيت ، ابنها البكر ، متعب أو
مريض ، محبط ومكسور
الجناح ، لكنه في البيت ..ستدثره بعباءة الأم، وتغمره برعايتها
ودفئها حتى تتوهج الحياة داخله من جديد متوثبة وضاجة .
. عبد العظيم ، أنس ، اخفضا من صوتيكما -
على الصغار ألا يزعجوه ، وعلى القارب أن يستمر في ركوب
الموج ..ربما تسأله
فيما بعد عن الأيام الأربعة فيم قضاها ، دون تلميح إلى النقود
المسروقة ، وربما بادرها هو بالحديث ، وستصغي إليه وستضمه إلى صدرها بحب غامر كي يوقن أن ما
بينهما أكبر من
أموال العالم ، أكبر من العالم نفسه.
هل نام خمس عشرة ساعة ؟ عشرين ساعة ؟ وها هو يفيق الآن ..لقد سمعوا صوت اصطدامه بالدولاب، طقطقة الخشب
وما يشبه السقوط ..هرع شارلي إليه ، هرعت الأم والأولاد
..
الوقع لا يحتمل .
كان يملأ الغرفة مكان محمد ، تيس بني صقيل الفرو ينطح بقرنيه
الدولاب ويتطلع حواليه في ذهول.
" من رواية "ماء الأعماق
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire