mercredi 3 février 2016

أحمد بركات *
                                 

                                       

المكتب الصغير, الدولاب, السريران والستارة الحمراء(التي سقط لونها كالعادة تحت سنابك ليل قدري, وهي تفاوض الآن الظلال المتبقية بشأن استرجاعه)..المظروف الأصفر الذي تركته على المكتب ليلة البارحة يرقد قرب رواية إيطالية (هو الآخر سيكون قد وضع هناك مظروفا مشابها )ومفتاح الكهرباء (الذي فكرت لحظة أن أستعمله) ثم الباب المؤدية الى الشرفة تطل على حانة وشارع ومحطة قطار.
نظرت باتجاهه وانا أرتدي ملابسي , الى ظله الذي
صار جزءا من ظلال الغرفة والذي لا يتميز عنها الا بتنفسه البطئ والمُوقّع كبحر شعري.." إنه ينام مثل طفل" قلت واستبعدت فكرة إيقاظه ..سيسألني: "ما الأمر؟" فأجيبه في شئ من الحرج: "لا شئ, فقط لم أشأ أن أرحل دون توديعك" ثم سيعود الى النوم بنفس السهولة التي يعود بها الأطفال (لابد أنه منهك للغاية) ولن يلحظ يدي المرفوعة للتحية وأنا واقف عند الباب أدير أكرتها, ثم أتسلل مغادرا الغرفة .
 هي مثل أية غرفة في أي فندق آخر..فضاء للعتبة ومكمن للتربص بالأسئلة الشائكة, إحساس بالإنفلات ((من قبضة لم ندرك وطأتها إلا الآن)) إحساس مركب وفادح, حدّاه شكل للغربة وآخر للرغبة ..ثم تلك الرائحة التي تشترك فيها غرف كل فنادق العالم, التي كانت هناك قبلنا وستظل..رائحة الذين مروا, الذين استلموا نفس المفتاح , قلبوا نفس الأغطية وأطلوا من نفس الشرفة يحلمون بامتداد المسافات وإغراءات السفر المقبل ..رائحة عرقهم وسجائرهم, والأجساد التي أرهقها قلق ممض أو ضمير متعب ..رائحة النوايا المتضاربة والنداءات التي ما تزال عالقة بفضاء الغرفة, ثم..الإنشغال بضبط الساعة على توقيت قطار سينسل مع الهمسات الأولى لصبح يتنفس دون أن يعبأ بالمتأخرين.
أفقت مبكرا على غير العادة (أو حسب تلك العادة الإستثنائية التي تحشو دماغي بالأجراس والمنبهات كلما بت في سرير غريب) وحين أدركت (بعد البرهة الضرورية)أنه على السرير الآخر يحلم بدفاتر للنسيان أو الخسران, انهمر داخلي دفعة واحدة صخب ليلة أمس : حفل الإعتراف ببلوغنا سن الرشد الإبداعي, دفء الأوجه, الجلسة الحميمية وتبادل الأنخاب..كان هناك كتاب من جهات مختلفة وأجيال متفاوتة, فيما أعضاء المكتب المركزي يديرون دفة اللقاء ويوشحون الزمن الثقافي بإضمامات النعناع ..أحاديث, وفخاخ لاستدراج ذكرى مشتركة ومراهم لتدليك الروح,ثم..مثلما تندلق بسمة رضيع على رصيف معدني لتسكره, وجدته بجانبي جميلا وشفافا ومترعا بالصبح , يوزع على الآخرين بسمة مختلسة من تاريخ سري منذور لفداحات العالم, ويحمل في كفه وردة صفراء (متقدة من الغيظ)..عب كأسه دفعة واحدة وغمغم بشكل حزين: "هذه هي الوردة التي ستوبخ العالم".
سيحل منتصف الليل سريعا, وسأكون دون شك الكائن الوحيد, ضمن المجموعة الذي ما يزال مرتبطا بالزمن الموضوعي: زمن الدورات المتعاقبة والعقارب والمؤسسات ..كنت متعبا من السفر وشحنات الإنفعال وأزمة معدية (قد تكون مجرد التهاب عابر أو تلويحات أولية لمزقة سوداء), لذلك اعتذرت حين دعاني بعض الأصدقاء الى أن نكمل السهرة في مشتل آخر (لأشجارالكلام )..قلت إنه منتصف الليل ومعدتي لا تسمح لي بالمزيد من السهر, فضحكوا مني : " كاتب ابن قحبة, يشكو من المعدة ولا يقوى على السهر"..تذكرت أنه يشاركني الغرفة فسألتهم عنه..كان قد انسل قبل قليل يبحث في ليل العاصمة عن تجسيد ما لحلم غامض, أو ربما تصور جديد لمشهد التأنيب : تقف الوردة على منصتها الشوكية , وأمامها في الخلاء الممتد, صندوق قمامة (هو صورة العالم) ملئ بالجرذان والجعلان والغربان , تتوارى خلف بعضها البعض وتترقب ساعة هدنة.
فكرت أن لاداعي لإيقاظه, وأشحت بوجهي عن مفتاح النور..تذكرت أني قبل أن انام, وضعت أصبعين في فمي وأفرغت بطني المقروحة في الحنفية, ثم رأيت أني لحقت به في مكان ما , هو المدينة والقرية, الصحراء والبحر , وكان يصيح: "لا" في وجه تحريض مدمر ولاإنساني.أحس بمقدمي فالتفت الي وآثار امتقاع تمسح وجهه: "هل تعرف من كان يحدثني؟ إنه الزلزال" "الزلزال؟" أعدت مستفهما , وجعلت أتصور الأبنية المنهارة وجثث الموتى والجرافات والعويل, العويل.."طلب مني الزلزال أن أساعده فرفضت".. ثم رأيت أني في غرفة الفندق لكن في مكان آخر هو جزيرة كابري , وأنّي "لوسيو" بطل الرواية الإيطالية** , أفكر في أن أرفض أيضا دعوة "بيت" أقول لها : " ولماذا الإقتداء بهذا الشاعر اليائس "فون كلايست" حتى النهاية, وتدبير انتحار مزدوج على طريقته؟" لكنها تنظر إلي في ازدراء , وأسألها : لكن أخبريني هل أنت "بيت" أم "ترود"؟ فترد : "لا يهم ما دمت لا تريد أن تكون بالنسبة لي ما كانته "هنريت فوجل" بالنسبة لكلايست" ثم أحدق فيها , في عينيها الواسعتين اليائستين حد الموت , فأصيح فيها: "لست بيت و لا ترود , انت الزلزال الذي رفض أحمد بركات أن أساعده ".
أفقت..أعدت رواية مورافيا و"أبدا لن أساعد الزلزال" الى مكانهما بالحقيبة ..تحسست المظروف الذي تركه على المكتب وخططت عليه في ظل الإلتباسات المعتمة للغرفة ما يمكن أن يكون: "مع أجمل التحيات, الى اللقاء"..أدرت أكرة الباب باحتراس, ألقيت عليه نظرة أخيرة, وغادرت.

********

*أحمد بركات شاعر مغربي توفي في ريعان الشباب, حائز على جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشبا
ب في الشعر, (الدورة الأولى) عن ديوانه "أبدا لن أساعد الزلزال".
** الرواية هي "1939" لألبرتو مورافيا .






Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire