samedi 6 février 2016


سرقات





حين أتم السجين رقم 1958 قراءة الجريدة , ندّت عنه ضحكة مجلجلة.. لقد قيض لمن فطن إليه أثناء القراءة أن يلحظ جملة من ردات الفعل انطبعت على وجهه بوضوح : شحوب وامتقاع, كزّ على الأسنان, بسمة مرة متسائلة , عرق نافر, ثم تلك الضحكة الممطوطة المدوية, المحملة بالرياح والنجوم الهاربة وظلال حقول مزروعة بنباتات غميسة وغير واضحة المعالم.
لم يفهموا شيئا..
ولم يجرؤوا على السؤال, فبعد أن وقّع السجين  1958على قراءته بتلك الضحكة المنفلتة , مسح زاويتي فمه من آثار الحروف , ألقى الجريدة على الأرض ثم ساخت روحه في بئر عميقة.
تبدت له حياته الماضية مثل حلم , وأوشك على الدخول ضمن دائرة يقين ما بان اللاواقع الذي تسرده الجريدة هو الواقع فعلا , وأنه – هو الرجل النكرة- لم يكن أبدا خارج هذه الأسوار أو أن تدبيرا ما , شيطانيا دون شك , سخر لياليه المسهدة لأجل هدف وحيد : تثبيت درجة أخرى في سلم المجد الذي يعتليه الرجل الآخر..ذاك الذي تفتك صورته  بالصفحة الأخيرة من الجريدة..
تدثر باللحاف ونام..
وظل الآخرون يتساءلون عن سر الضحكة.

********

تحسس علال الريفي الرواية مرة أخرى , ورأى أنها طائر نادر " ليس من اللائق تركه حبيس الرف  رهنا للتآكل والنسيان".. تذكر الحمزاوي , الروائي الذائع الصيت الذي اطلع على المخطوطة, وكرد فعل وحيد , اكتفى بغمغمة شبيهة بثغاء ماعز وملتبسة.."هؤلاء الروائيون ذائعو الصيت , إنهم يحبطون أكثر مما يشجعون ..ما كان علي أن أطلعه على الرواية".. وفكر في طبعها ..رآها تزق في باحات الآخرين, إيذانا بأزمنة آتية وفضاءات بكر.. لكن " من أين لي بتكاليف الطبع؟" وأحس بغصة في الحلق وألم.
قرأ كتبا في مختلف الفنون وفروع المعرفة , وأعاد قراءة نفس الكتب حتى عافت نفسه الأكل وأرقت لياليه انفعالات صاخبة وتأملات دون حد ..وفي ليلة أسيانة , اختفت فيها النجوم واعترى قلبه بعض الوهن, رأى أنه مجرد لطخة تافهة على الجدار الهائل للكون, تافهة ودون اسم , وأن الكتابة وحدها تمنح لطخته اسما مثلما تمنح وقائع التاريخ دليلا إضافيا على وجود الله.
لقد أدرك أن التاريخ يسرق بعض وقائعه من المستقبل .. يتبدى ذلك من خلال أحداث هي مجرد تصاديات لأخرى ستقع في أزمنة آتية , أو ألفاظ لن يسعف االدرس الفيلولوجي في إدراك معانيها ..هكذا تحكي روايته عن أحداث وقلاقل تقع في منطقة مقطوعة عن العالم, وعن لفظة "أوكابا" التي رفعها المتمردون كشعار للتمرد, وهي لفظة بدت غريبة, مجتثة عن السياق اللغوي والثقافي للمنطقة , وغير ذات معنى.
بعد سبعة قرون , ستشهد المنطقة ثورة جديدة على النظام القائم, قادها أشخاص ملتحون باسم الدين, ولعله من اليسير إدراك أن الشعار الذي رفعه الثائرون هو العبارة التي يرددها المسلمون في كل الأنحاء : "الله أكبر".
هكذا تتوزع الرواية على خطين متوازيين, يؤثثهما الحدثان القائمان في زمنين متباعدين , ومع التقدم في القراءة, يترسخ لدى القارئ أن بنية التوازي مجرد خدعة , إذ ليس هناك حدثان بل حدث واحد يقع إزاء مرآة ماكرة هي الزمن , لن يكون التمرد الأول من خلالها سوى مسودة للثورة التي ستحدث بعد قرون سبعة , ولفظة "أوكابا" التي بدت غريبة,  ليست سوى عبارة "الله أكبر" الممجدة لإله الكون.
إن تصورا كهذا ينهض أساسا على السرقة كمفهوم متعذر التجاوز, إذ أن تلك الومضات التاريخية المسروقة من القرون المقبلة إنما تدل على شئ وحيد : هناك فاعل أساسي في التاريخ هو الله الذي يدرك الزمن في ديمومته, هو علام الغيوب والمطلع على ما في الصدور.
أعاد شريط الرواية في ذهنه من جديد , وأشرقت عيناه بدمع الرغبة , وحين تخطى عتبة الباب, كان قد حسم الأمر بشكل نهائي: " سأفعلها وليكن ما يكون"
منذ أن اكتملت الرواية وهو يتوق الى طبعها , لكنه يعرف أن دور النشر تراهن على الأسماء المعروفة وليس له إمكانية طبعها على حسابه الخاص..وفي لحظة ما, فكر في السرقة "أسرق لطبع رواية عن السرقة" ..ركبت بسمة مرة وجهه, ثم انتابته حمى شديدة رأى فيها من جديد شذرات من حياته , مفرغة من آثار الزمن, كان فيها طفلا وامرأة, ومذررا في كتّاب ثم حفار قبور ..وحين أبل من حماه, غمغم بشكل لا رجعة فيه : " يفنى الجسد وتهرم الأشياء , لكن تبقى الكتب".
اشترى مدية من أحد باعة الرصيف , وتبدت له صيدلية  " الصيادلة يتاجرون في أمراض الناس , بينما أحوز مخطوطة تنتظر أن يفرج عنها".. شهر المدية في وجه المستخدمة وطالبها بالنقود.

********

يذكر السجين 1958 حالة الذعر التي لبست المستخدمة , يذكر الصيحات والأرجل المداهمة والكماشات .. لقد حاول السرقة ونال العقاب , لكن من يعاقب الحمزاوي, الروائي الكبير ؟
تحتفل المشارق والمغارب بصدور روايته الجديدة "سرقات" التي "تؤسس لتوجه فني جديد لديه, وتدشن لمغامرة جميلة.." تعقد الملتقيات له, يتحدث عن مكابدات الكتابة , وتضحك صورته في وسائل الإعلام.
ألقى بالجريدة على الأرض, وأهرق ضحكته الرجراجة..هو وحده يعرف أن "سرقات" رواية مسروقة منه, وأن الحمزاوي مجرد سارق كبير.




                                                                         الإقامة في العلبة









Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire