dimanche 28 février 2016



                              حـــلــــم        

   هناك شخص في بلدة صغيرة بالنورماندي يحلم اللحظة بزيارة المغرب.
لقد سمع عن الشمس الساطعة طيلة السنة، وشاهد شريط فيديو عن صياد ثعابين، صحراء شاسعة، وحفلة زار، ورياض بمراكش بألوان غامقة، ونافورة ماء ورائحة عتاقة تنفذ من الجدران.
وحلمه الوحيد الآن، أن يشد الرحال إلى هناك              
لولا أنه في الحقيقة محض التماعة عابرة وخادعة ضمن حلم آخر.. حلم شخص ثان بإحدى ضواحي مراكش، ليس سوى صياد الثعابين نفسه. وقد سئم حياته الخطيرة والمتقشفة، وكل مناه الآن أن يعبر المتوسط إلى بلدة صغيرة بالنورماندي، حيث يركن إلى جني المحاصيل الزراعية وينسى حياة الثعابين.






                                            قط شرودنجر
                                                             (قصص )






samedi 27 février 2016

                                     حبيب الصخرة                               


   
يوما عن يوم كنت أزداد اقتناعا بأن هذا العالم مصوغ من زجاج سميك خشن و جارح. وعليه فكرت في أن علي أن أصير حجرا باردا و مقيتا دون قلب و دون حساسية زائدة،إن أردت أن أعيش بدون مشاكل لا تحدث حتما إلا لشخص مثلي.
أحيانا يمكن أن أصاب بالأرق ليلة كاملة أو ليلتين لمجرد أن أسمع أحدا يشبهني بالقرد أو الخنزير أو اي حيوان آخر يتسم بالصلافة و الدمامة. و حتى إذا كان ذلك مزاح قد يتبادله أي صديقين حميمين في أي وقت من الأوقات، فإن ذلك يؤرقني أولا لأنه ليس لدي صديق، ثانيا لأني فعلا إنسان دميم. و لطالما تمليت جسدي في المرآة حتى تعبت من الوجه البشع الذي يطل علي و الذي يشبه وجه خنزير أبصق عليه و أبكي.
و يحدث أحيانا أن تشعر أمي ببعض الرأفة فتهدئ من روعي لكن ذلك عادة ما ينتهي بأن تصرخ في وجهي و تقول :
- لقد أرهقتني يا ابن الكلبة ماذا فعلت للرب حتى يعاقبني بك؟
ثم تأخذ في النشيج و حينذاك نتبادل الدورين، ويكون علي أن أحاول ترضيتها.
و بعد تفكير طويل مضن وصلت إلى درجة كبيرة من الإقتناع بأنه يتوجب علي أن أصير حجرا.و لست أدري كيف بت أعتقد أن علي لكي أصير كذلك أن أحدق في الشمس.. أحدق في عينها طويلا دون أية عقدة نقص وأستمر في التحديق حتى يحط الظلام أو يحل الكسوف ما فتعلن بذلك عن انهزامها.
و هكذا صممت يوما فاعتليت صخرة في اللحظة الصفر تماما.. لحظة الإشراق الأبيض أو مثلما يدوزن الضارب على العود أوتاره قبل البدء، هيات أعضائي و حواسي التي كان عليها أن تتلافى الوقوع تحت أي تأثير خارجي و أن تتحلى بالكثير من الصبر بيد أن الأمر بدا صعبا للغاية. و  
 قبل  الزوال كنت قد نزلت من الصخرة و دفنت عيني في الأرض كانما أقدم – خجلا – تحية إكبار لعدو قوي و شريف. في البداية أحسست بأكلان في العين و ألم في عظام الرقبة قلت: صبرا و ما لبث جسدي أن تنمل و تكهرب صبرا صبرا قلت..غير أن عيني إحمرتا بعد ذلك و تحشرفتا ثم بدأتا تتدليان من محجريهما و فجأة انتفضت..كانت أمي قد دخلت الغرفة دون أن انتبه لذلك و رأتني أبلل عيني بالماء فزعقت كعادتها :
- أي مصيبة أخرى جررت على نفسك يا إبن الكلبة؟
و لم يكن ممكنا أن تفهم شيئا.. تلك الشمطاء العنيدة التي نزحت في فجر يوم غاضب من إحدى القرى الجبلية النائية.
قرية كل ما فيها حجر..صلد و قاس..يظل أهلها يتشاجرون حول أتفه الأمور و يكثر ظهور الخنازير البرية في جنباتها. ومن الأرجح.. و من المؤكد أن العجوز و هي حامل بيت وحمت على خنزير بشع داهم البيت ذات نهار رائق مشمس.
 كانت الشمس حارة و تعمدت  أن أذهب عند الزوال فبعد الفشل الذي منيت به في المرة الأولى، أدركت أن علي أن أمر بفترة تدريبية، فرسمت لذلك مخططا اعتزمت أن أسير عليه. و كان من المقرر أن أمكث ذلك اليوم على الصخرة منذ الزوال حتى الساعة الثالثة أي في الفترة الأكثر توقدا و اشتعالا.
هل كنت حية؟ أقصد حية بلعنبر التي تحدث عنها الجاحظ و التي تركز ذيلها في رمل الصحراء المتوقد و تقف مثل الرمح ساعات طويلة في انتظار طائر غر يحسبها عودا. و الآن هل كنت حية ؟ تصبب مني عرق كثير و سال دمعي و كنت أشعر أحيانا كأن جفني امتلأ بالرمل أو بتلك البثور الحمراء الصغيرة التي تحول دون أن يغمض الانسان عينيه مرتاحا. و في اللحظة التي أهم فيها بأن أسدل من عيني راية بيضاء، أرى على ثغر الشمس بسمة ساخرة قاتلة فأستمر في التحديق. ورغم أني لم أتمكن من الصمود حتى الثالثة إلا أن ما قضيته من وقت كان كافيا لكي يحفزني على الإستمرار  فيما عقدت عليه العزم . و لم يكن ليثنيني عن ذلك ما قاسيته يومذاك من ألم و أكلان شديد عدا أني قطعت الطريق من الصخرة الى المنزل مغمض العينين.
كانت أمي عند الباب فطوحت بصراخها في الهواء مثل شجرة منخورة مجتثة من الجذور :
- ستموت يوما مثل أبيك مذبوحا في الخلاء أو في إحدى الخرابات.
ثم جعلت تعوي و تندب حظها الذي ابتلاها بسلالة خنازير حمقاء.
هل كان أبي دميما أيضا ؟
المصدر الوحيد الذي يمكن أن  أستقي منه أية معلومات هو أمي و يبدو أنها لم تكن تحبه، فكثيرا ما ترد في معرض حدسثها عنه كلمات من قبل الخنزير، الكلب، الحقير..و تنعته أحيانا حتى بتلك الكلمة التي تبتدىء بالزاي. و إذا ما رأت على وجهي مسحة ما..قد تكون مسحة حزن أو تدمر فيه رثاء فإنها تضربني بجملتها البتارة التي تقصم ظهري و تقصفني:
- و إلا لما وجد مذبوحا في وكر تلك الباغية الكريهة.
كانت قد وفدت على القرية ذات صباح مثلما تهبط روح شريرة من السماء..امرأة  جميلة – و الحق يقال – ذات نظرة تجمع بين عهر الشيطان و عفة قديسة متبتلة. و منذ تلك اللحظة، اللحظة الأولى التي رأيتها فيها أدركت فيها أن خنزيرا ما سيموت يوما بين فخديها.
و قد حصل ذلك ذات يوم.
و ما يزال أحفاد زوربا الاغريقي يؤمنون بأن اللحم اللذيذ هو اللحم المسروق. يقع الرجل في أحابيل النساء و النساء في أشراك الرجال، لكن هذا لا يمنع أن تكره أمي أبي و أن أمرن نفسي على أن أصير حجرا.
و لقد مرت مدة طويلة على بداية التمرين عندما صار بإمكاني أن أجلس على الصخرة المقابلة للشمس و أحدق في الأشعة اللاهبة نصف نهار أو يزيد، غير أن ذلك لم يتم دون خسائر و إن أثر في ايجابيا أيضا. لقد صار بإمكاني أن أحدق في عيني أمي دون أن يرتعش لي هدب و أن أقول للأرق وداعا ، و باختصار بدأت أتحول إلى إنسان آخر. و هذا لم يفت الآخرين الذين باتوا يخشون نظراتي الزجاجية الباردة و يتحدثون عني باحترام أكبر في كثير من العجب و الاندهاش.
و نتيجة لذلك بدأت أشعر بأن عقدة النقص التي أمضتني فيما قبل ، قد أخلت مكانها لشعور بالزهو و الغرور.لقد هزني ما حققته من مكسب و لم أهتم كثيرا لأني صرت حسير البصر للا أتبين الأشياء بوضةح دون نظارة طبية و عندما يجرأ أحدهم و يسألني عن الإلتهابات الحمراء التي باتت تسيج جفني فإني أهز كتفي استعلاء و أقول:
- إنها الحالة  التي تحيط بقرص الشمس .أما أمي فقد حفرها الرعب عندما غلفت يوما جسدها المترهل بنظراتي الزجاجية..رعب بدائي معفر ببعر الحيوانات البرية..قالت:
- ما هذه النظرة المفزعة يا إبن...
لكن الكلمات انخطفت منها فتأتأت و شقشقت و ارتجفت شفتاها الغليظتان ثم أجهشت بالبكاء. و منذ ذلك اليوم لم أسمعها تناديني يا ابن الكلبة أو تشبهني بالخنزير. حتى أبي صارت – و هي تتحدث عنه – تتلافى قاموسها السابق المقيت و كنت ألاحظ انها تبذل في ذلك جهدا كبيرا . و رغبة في تعذيبها صرت أتعمد أن أحاصرها بالأسئلة و أجرجرها إلى التحدث عنه..
تلك الليلة كنت أعلم انه عندها. كانت ليلة قمراء متلألئة جعلت جسدي يبكي شوقا الى ذلك الذي لا تجده المرأة إلا في أنفاس رجل مهما بلغ من الدمامة و البشاعة.لكنه كان عندها. و كم بكيت و أنا ارقب النجوم و أتصوره في حضنها يشرب من زبدتها و مائها و تفاحها... كانت هناك نجمة أكثر إضاءة من الأخريات لكنها اختفت فجأة فداخلني إحساس قوي بأن أمرا قد وقع و شممت في أعطاف الليل رائحة الدم.و منذ ذلك، و أنا أخاف الليالي البيضاء المقمرة ، أتوقع ألا ينبلج عنها الصبح حتى تكون دماء كثيرة قد أسيلت.
كان أبوك مسجيا و عاريا.و كان وحده في البيت. أما هي فقد اختفت و لحد الآن لم  يعرف  أحد ما حدث تلك  الليلة  و كيف  اختفت تلك المرأة ، هل كانت حقا امرأة؟ و أنت قل لي كيف صارت عينك من زجاج.
و كان ذلك آخر سؤال لها ، فقد هوت فجأة مثل خربة.و لست أدري ما الذي قتلها :الأب أو الإبن. و كيفما كان الحال فالأمر لم يكن يعنيني إذ كففت منذ زمن عن اعتبارها أمي و كنت أعاملها كما لو كانت إمرأة أخرى ظلت طريقها إلى دار العجزة و فرضت علي وجودها باسم سلطة حمقاء و غير مدركة.
و مع ذلك فقد كنت حتى ذلك الوقت ما ازال أحس. و هذا ما كان يزعجني لأنه يعني بأني  لم أصر بعد حجرا.أحس بالبرد و ثقل النوم في الجفنين و أحيانا يخفت ذلك العضو البغيض الذي في الصدر من الفرح أو الألم. و كان علي أن أكثف من تماريني فانتهيت إلى وضع مخطط جديد لم يلبث أن أدى النتيجة المرجوة: لقد تمكنت أخيرا من أن أحدق في الشمس طيلة النهار.
تتبعت مسيرتها: صلفها و كبرياءها ثم توردها الأخير و هي تنكس الرأس ببطء و تهوي حزينة في مهوى معتم.
- لقد هوت.     
قلت .غير أن ذلك كان دون شعور أو طعم. قلتها ببرودة حجرية. فالانتصار الذي طالما حلمت به و صرفت لأجله عمرا لم يكن في تلك اللحظة يعنيني تماما مثل موت العجوز و مثل كل الأشياء التي حدثت فيما بعد.

في البداية لاحظت أن الجيران باتوا يتحاشون النظر الي و مبادلتي الحديث ثم صاروا يتحاشون لقائي كنت أرى ذلك في الحركات المشبوهة التي تعتمل في الدرب لدى دخولي أو خروجي و التي يصير على إثرها خاليا تماما مقفل الأبواب.و دون شك كانوا يحرصون على إغلاقها بالمزاليج..آنذاك أقطع الدرب بخطوات وئيدة مفرقعة  ثم أتجه إلى الصخرة حيث أقضي معظم النهار. كانت هي كل ما تبقى لي. حتى الشمس لم اعد أرفع إليها عيني إلا 
لماما ..أحضن بنظراتي الصخرة أمسح على جسدها و أحيانا أقبلها ..كانت كل ما تبقى لي و كنت أحبها ..ذلك 

الحب الصخري البارد المقيت.



mercredi 24 février 2016


نجدة







الشمس ساطعة بقوة..
وجسد الماء بض خصيب.. نسيت أني لا أحسن العوم فارتميت.
ابتدأت تشنجات الجسد والحركات الفاضحة للهلع الذي حل..واحتلني ندم طارئ على أشياء كثيرة فعلتها وأخرى كان علي فعلها..و في لحظة خلتها الأخيرة بدا أن الشمس تودعني بغمزة ساخرة..
لكن الفاتنة التي كانت في الماء..

ألقمت يدي نهديها فطفوت.


الرقص تحت المطر

dimanche 21 février 2016

قصة حب


(رجاء لا يكلمني أحد, فأنا خارج لملاقاة المرأة التي أحب..
أنا الهلال الناحل..خارج كي أكتمل.)



في البدء كان الضجر..
الضجر ما قذف بي إلى غرف الدردشة أخوض غمار العلاقات الإفتراضية..ثم الفضول: ذاك الأكلان الأزرق في أحراش الذات, المحرض على المجازفة بالسقوط في المهاوي الخطيرة..ثم..
ثم الدهماء..
حين تهادت..
حين قالت العالم بكلمات القلب الشفيف, وعلقت روحي بأسلاك من السليكون إلى ضوئها الباهر.
كان التوتر بيني وبين زوجتي قد بلغ مداه. المطبات الكثيرة والحرائق والآلام المصاحبة..ولا بارقة أمل في الحد الأدنى للتناغم: هدية الزمن لكل زوجين عمرا طويلا في الشراكة..
صارما بيننا صحراء من جليد, وفراغات مديدة..
وبدت غرفة الدردشة مزدحمة باللغط مثل برج بابل حقيقي لتمتمة اللغة..أسماء مستعارة تصدم العين بالتحية ثم تغيب بعد حين.. حوارات مجتزأة, رسائل للإستغفال والنصب, أفكار مسبقة وفيض بذاءات. .نثرت بدوري ملحا زائدا في بعض الطنجرات ورشت البعض بسهام بليغة.. ثم توصلت إلى أن العالم يحتاج إلى من يشده من كاحليه وينفضه جيدا حتى يطرح ما في جيوبه من رداءات.
نقرت الفأرة دون حماس أجهض انطلاقة جملة بدت لي دون طعم.. "ليس جميلا أن نقتل الضجر بالإبتذال" قلت.. وفكرت في الخروج من الغرفة, حين هبت نسمة ندية من واحة بالقرب:
- ضجر.. أنت يا ضجر, عندي دواء لك.
حطت الكلمات على الشاشة ممهورة باسم "الدهماء".
كنت دخلت الغرفة باسم "ضجر", فقدحت الدهماء جذوة في حقول الرماد..استفزت حاجة ملحة إلى الركض خلف صهيل واعد بالسهوب.
- قد يبدو دمي خاثرا لكن عنصري النار, فأي دواء تملكين لرمادي العابر أيتها القادمة من زمن الحرائق.
أجبتُ..
وكما لو أننا عشنا من قبل حياة كاملة انسابت الكلمات بيننا كالمطر الرحيم المخصب..
عرفت أنها متزوجة أيضا..
في مجرى سوء تفاهم أبدي مع الزوج.. تخيط للخيبة داخل البيت ألف حكاية وحكاية, وتحلم في لياليها المسهدة بعصفور لقاح لوهج القلب..
كنا كائنين من خدر..
روحين تعارفتا, ورقصتا لبعضهما البعض فرحا باللقاء..حتى إذا اكفهرت الشاشة بكلمة الوداع, سقت قلبي الجرو إلى داخل بيت الزوجية..وبالبرود الذي صار يطبع علاقتنا, لاكت زوجتي بضع كلمات فهمت منها:
- يمكنك تسخين العشاء.. أنا ذاهبة لأنام..

(فهل كنتِ حلما؟
ما لي أرى تربة القلب حبلى..
والعين بيضاء رخيمة إزاء كدارات العالم؟)

وفي الغد..
هرولت إلى غرفة الدردشة بشوق من يطأ الأرض الموعودة بعد طول اغتراب.."أوليس" لم يكن بعيدا عن الذهن, وبنيلوب في صدر البيت تنسج من أوراق الإنتظار المرة شتيلة للدفء الآتي.. فهل تهلين اليوم  كما وعدت أيتها الدهماء؟
- أنا هنا..أنظر إلى هذه الناحية.
- كلي عين تراك سيدتي..
- عين؟ مجرد عين؟
قالت مستفزة..
- بل بحر شوق ولهفة..
- كم اشتقت إلى كلماتك أيضا..
فليكن جنونا
ليكن ما يكون..ذاك الخيط المترع بالنشيد الذي وصل بيننا, والأحاسيس المورقة التي صببنا عليها من عطر الروح..تحادثنا..تناجينا..وبدا العالم جميلا مرهفا ..تعريشة باذخة من أوراق العنب والبنفسج توارينا داخلها ونسينا كل شئ آخر..

(أهو العشق إذن؟
يقتحم خزان القلب بطاقة بديلة..
ترى من تكونين..ما شكلك, ما اسمك؟
أيعقل هذا؟ أيعقل هذا؟)

وعرف البيت أياما هادئة للغاية..
كأن معطرا للجو ضخ نثاره في الفضاءات ورسم للعلاقة بيني وبين زوجتي أبهاء جديدة. .ترمقني أحيانا بطرف العين كما لو أنها تسبر غوري, تستجلي أسباب السلام الداخلي الذي صار يرخي بظلاله على حركاتي مثل خيمة من زعفران.. وأتابعها خفية أستكنه سر خطواتها التي لا شك استعارتها من دفتر للفراشات.
أهي الغيرة والتوجس؟
حدس النساء الذي لا يخيب, وخميرة الأنوثة التي تفيض وقت الحاجة؟
نهر ينساب بيننا طول النهار ونحن على الضفتين نمارس تمارين الإنتماء إلى صباحة الكون.. وفي المساء, أخرج مهرولا إلى شرنقتي الإفتراضية.. واقعي الموازي العذب كبوح القصيد..
- عصفورتي الجميلة
- صقري الأصيل
- فرسي الباذخة
- حصاني المجنح
لم يعد في الأمر أي تحفظ..
كنا نعيش قصة حب..
جميلة..عنيفة..مجنونة.. تزداد اشتعالا كل يوم.. وكل يوم تطوح بنا إلى مدارات أخرى للحميمية والتوحد.
سقطت جدارات الدفاع الواحد إثر الآخر وصرنا عاريين وضعيفين إزاء لهفتنا التي ما فتئت تسوق القلب إلى انتهاك المحاذير..
وباتت الخطوة الأخيرة ضرورية: خرق العقد الأول القاضي بأن نكتفي بالطابع الإفتراضي للعلاقة حيث لا لقاء جسدي ولا أسماء حقيقية أو عناوين..
- خائفة من الآتي..كأني سأفرط في حلم هدهدته زمنا
قالت في آخر اختلاجة متوجسة..
لكن الشوق الرغبة اللهفة انتهت إلى هد كل القلاع, فحددنا موعدا للقاء.

(سأراك إذن..
وتلمس يديك يداي..)

تركت زوجتي تهيئ نفسها لمغادرة البيت (لزيارة صديقة؟) وانسللت عبر الباب..
خفيفا ودون كدر..
خفيفا ومترعا بالضوء وفي أجلى حالات الصفاء الداخلي واستطابة الحياة..
طباع الناس وتلاوين الأزقة والأحلام وزحمة المواصلات والأحقاد الصغيرة.. رنة الألم العابر وجسور المودة ودم القتل .. ضجيج العلاقات والنقائص الفادحة ورعشات الطبيعة وجمال الفن..
تلك الأشياء..
كل الأشياء الصغيرة, الضالعة في تأثيث العالم التي تدفعنا إلى خوض حروب لا طائل منها تحت ذريعة نشدان الإكتمال.. تدفعني الآن بقلب واجف إلى احتضان الألوان الباذخة لفرسي الأصيلة.. ربيبة الإنطلاق والجموح.
ترى ما شكلك؟ أي لحن لرنة الجسد؟
وأتت في الموعد..
بعد زمن يسير تحرقت فيه الجوانح, لاحت مثل..مثل..
ياه..كم هي الحياة شديدة المكر غريبة حد القسوة..كم هي لعوب وماكرة..
سطوة الذات وتواري الآخر..
والصدأ..
الصدأ المتراكم في خضم اليومي المبتذل, الذي يعشي البصر والبصيرة فلا يرى الإنسان أبعد من أنفه..
لا يرى في شريكه ما يجدر رؤيته.. وأن الرماد الذي استشرى في بيت الزوجية قد ينبعث من أفق علاقة افتراضية وهجا ونارا حارقة..
لقد كانت الدهماء التي تيمت بها افتراضيا هي نفسها..
نفسها..
هي نفسها..
زوجتي !

(ماذا سيحدث الآن؟)


الإقامة في العلبة

vendredi 19 février 2016

mercredi 17 février 2016



في غياب الأب                   
 يصبح الأبناء تيوسا





يتوفى الأب

..

وتبقى الأم شجرة وارفة تغطي بحدبها الأطفال ، لكن قبضة الأم رخوة ، تستطيع أن تعرك العجين لتصنع منه خبزا أو ثريدا ، بينما الأطفال - الذين كبروا فجأة قبل الأوان - يستعصون على الإمساك ، ينفلتون عبر الإنفراجات الضيقة وطرقعات الأصابع ليصبحوا في النهاية تيوسا تلوذ بأشجار البراري العارية .

هكذا تحول محمد ذات صباح إلى تيس .
أكبر الإخوة ، وأقربهم إلى سن الشباب و الحلم بعالم أبيض مفروش بندف القطن ، يثغو في وجهه بحب ويبيحه نفسه دون شروط ، لولا أن العالم ليس حملا ولا هو يسلم مفاتيح كنوزه للناس البسطاء .
. أمي -
صاح أحمد ..
. نعم يا ولدي -
. أود أن أرافقك-
.هكذا.. تريد أن تزوغ من المدرسة ايها الثعلب- 

. كلا يا أمي ، العطلة على الأبواب-
أحست بوخز في صدرها ..شكة إبرة أخطأت الطريق إلى القماش وانغرزت في القلب بعدوانية تعطل حركة النبض وتنكأ جرحا لما يندمل بعد ..في عطلة سابقة ما تزال ظلالها القاتمة تخيم على البيت ، لقي زوجها محمد بلفقيه ربه في سلام .« لمن تركتني يا سيدي محمد بلفقيه ، والدنيا غابة والحمل شاق ؟» صاحت بقلب مكلوم ، ولمت اليتامى حولها « لمن تركتني ؟».
كان يعرف أن الأوان أزف ..ساعة آذان المغرب بالتحديد..يسأل بين الفينة والأخرى عن حركة الشمس في السماء وعن صوت المؤذن ،ثم يغيب خلف نظرات بيضاء لم تعد تنتمي إلى هذا العالم..اجتمع حوله بعض رجال الحي والأحباب ممتلئين خشوعا ورهبة، حول جارهم الذي يعبر الآن جسرا لن يلبثوا أن يعبروه بدورهم ..مستلقيا على ظهره باتجاه القبلة ، يستعجل ساعة الرحيل « لا إله إلا الله » يهمهمون «انتقال من دار العمل إلى دار الجزاء» وبغتة أشرقت شمس على شفتيه والتمع في العينين بريق ...كان الوقت قد قارب المغرب، وبرتقالة الشمس تستعد للهوي إلى سلة العالم السفلي، حين لمح سيدي محمد بلفقيه طيفا من نور يتسلل إلى الحجرة يشعلها بهاء .
. أهلا ، أهلا بسيدي محمدالحبيب

غمغم في صوت خفيض يرحب بالإشراقة البهية ، لكنهم سمعوا اسم محمد فقط فاعتقدوا أنه يطلب ابنه للحظة وداع أخير ..خف أحدهم إلى الحجرة الأخرى ، وأتاه به ، بيد أنه لم يلتفت إليه ، وبقيت عيناه نصف المغمضتين ترنوان في شوق إلى الأرواح المضيئة التي تفد تباعا وتنضم إلى الطيف الأول الأبهى وتحيل الغرفة إلى فضاء شفاف 

أهلا بسيدي أحمد التيجاني ، سيدي عبد القادر الجيلاني، أبي الحسن الشاذلي 
داخل الحاضرين روع قيامي ، أدركوا ( من تغير الهواء ومساحات الضوء ) أنهم في حضرة زخم من الأرواح النيرة تهل على البيت وتغمره بإشراقها الماورائي الذي لا تطيقه إلا روح نيرة زكية ، فعلت أصواتهم بالتكبير : الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ..
لحظة فريدة ، لتقاطع عالمين ومصالحة استثنائية بين قطبين متضادين .
رفرفة أجنحة ملائكية ..رفرفة من نور وعبق ، وفرحة عارمة لاستقبال ضيف عزيز..كانوا فوق ، قريبين بعيدين ، ينتظرون الأمانة ليبشروا بها السماء ،
ويودعوها مكانها المستحق في عليين ..أطبق عينيه في إغماضة أخيرة ، وكان صوت المؤذن ينادي لصلاة المغرب ، وظلال الشفق تطلق زغرودتها في الأعالي ، فيما استمر الآخرون في التكبير.
ويقسم بعض أهل الحي أنهم شاهدوا وقت آذان المغرب عمود نور وهاج يصعد من بيت سيدي محمد بلفقيه إلى عنان السماء.
وبكت في حرقة .
بكت في صمت حارق موجع..ورأت الدنيا مثل حبة مشمش مسلوخة القشرة ، مهترئة ولا علاج لها، رأت أنهارا ووديانا وأوراق خشخاش طاعنة في السن وضروع أبقار تجف كل دقيقة وجسرا معلقا في الفضاء ودون حدود ..رأت حياتها السابقة تخب أمام عينيها كفرس سباق سابحة باتجاه الغروب ..ثم أعقب ذلك لحظة صفاء صقيلة ..«ما في القلب لا يعلمه إلا الله ، لكن الإنزواء في قعر الدار بيدين مكتوفتين لن يؤكل الأولاد خبزا» وهبت واقفة متحفزة .
تمكنت بمساعدة أحد أحباء زوجها من الحصول على حيز في مدخل إحدى القيساريات ، أرست فيه فترينة أثثتها بمجموعة من السلع الخفيفة : قلائد ، أساور ، خواتم ، زجاجات طيب ، أقلام أحمر شفاه، طلاءات ومراهم أخرى للتجميل ، ثم بدأت - هي التي أنفقت حياتها داخل البيت - رحلة التجديف في هذا الخضم المتقلب الذي لا بر له.
قالت لأحمد :
. غدا سآخذك معي-
تهلل فرحا والتفت إلى إخوته :
.سأرافق أمي غدا  -
لكن محمدا لا يعجبه العجب.
صار يسهر حتى وقت متأخر ، وحين يعود ، ينزوي في أحد الأركان منقبضا صامتا ، ينتهز أية إيماءة كي يفجر سخطه على العالم.

 - بماذا أفادنا ورع أبي وتقواه ؟خبريني أيتها الأم التي شبت تحت جناحيه يسمعها قصص الأنبياء وأخبار الصالحين ي رياض التسبيح وتزكية النفس
. استغفر ربك يا بني ، ولا تكن جاهلا -

. الدنيا يملكها الجاهلون -

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم-

تذكر الزوج الذي رحل « سيدي محمد بلفقيه ، لو أنك ما تزال على قيد الحياة ، هل كان ابنك يفوه بهذه الأضاليل ؟ أستغفر الله العظيم» الزوج الغالي تركها لإمتحان لم تهيأ له بما يكفي ..حمل لا يطاق وحياة بطعم العرق المالح .

وسيعجب أحمد بتلك الحركة الدائبة التي لا تفتر ، وذلك العالم من الأصوات والروائح التي بدت في الأول متداخلة ملتبسة ، لكنه سرعان ما صار يتبينها بوضوح، يعرف أن الصوت الجهوري الزاعق هو لصاحب محل القماش ، الرجل ذي الأصل البدوي على يمين القيسارية ، وأن الرائحة التي تشق الآن طريقها إلى دمه مهيمنة على الروائح الأخرى مصدرها زجاجة العطر المستوردة التي يتطيب بها الحاج في هذا الوقت ، تضوع رائحتها النفاذة ، تثير الجوارح ، تحقن النفوس برغبات بدائية غامضة وتستدرج الزبائن الذين يبيعهم الحاج في النهاية زجاجات مشابهة لكن أقل جودة.
وقد تمكن في الأيام الماضية من أن يعرف قيمة البضائع التي تبيعها أمه وصار بمستطاعه أن يضطلع بمهمة البيع وحده حين تضطر إلى الغياب .ولعل ما يغبطه أكثر، هو أن يبيع إحدى زجاجات العطر المسمىشارلي، يؤثرها على السلع الأخرى وكلما رأى بارقة سانحة تتيحها زبونة مترددة مدفوعة بحمى الأستهلاك دون تعيين لما تود اقتناءه ، إلا وأغراها بشارلي :


خذي شارلي ، لن تجديها بثمن أقل ..عندنا زجاجا
ت متفاوتة الحجم ، لتري بنفسك
ا

وبقدر افتتان أحمد بهذا العطر (ربما أكثر من افتتانه بزجاجة العطر النفاذ التي عند

الحاج ) بقدر ما يجد متعة لا تحد في ترديد ا
سمه على مسامع الزبائن : شارلي
،

شارلي ، شارلي ..هل كان يجد في ذلك مجرد تسلية بر
يئة يحتمي بها من صخب

القيسارية ، أم أن زجاجة شارلي صارت موضوع حب لا يفقه كنهه

 يظل يغازل اسمها نهارا وتسكن أحلامه بالليل ؟

لكنه - ومهما كان الأمر - وجد نفسه يفقد اسمه الشخصي شيئا فشيئا ليصبح معروفا لدى الزبائن، ثم لدى الجميع باسم عطره المفضل : شارلي .

محمد وحده كان يشذ عن هذه القاعدة « شارلي اسم مترف لا تستحقه يا ابن أمك » 
يقول في مرارة، يحك سبابته بإبهامه في تلميح إلى المال ، ثم يضيف :

هذا وحده يعطيك كامل الحقوق وكل الألقاب ، لكنك لا تملكه يا بائع
لأمشاط والقلائد الرخيصة ، يا ابن أمك-

تحاول الأم أن تلمس شيئا مما يحدث لإبنها البكر ويشقلب كيانه بهذا العنف الصاخب، لكن طرقاتها تجعله أكثر انغلاقا وحيطة وتشق للمسافات أمداء إضافية .
وفي المساء .
ذات مساء ، حين عودتها من القيسارية ، أدركت أن المبلغ النقدي الذي ادخرته لوقت شدة ، قد اختفى.
وفي ذلك المساء ، لم يعد محمد إلى البيت .
بكت لأن ابنها ، ابن سيدي محمد بلفقيه لم يتورع عن السرقة ، ثم بكت لأنه غاب عن ظلها ، وأين يكون الآن ، وما الذي يكون قد حل به ، يا إلهي ؟
قال شارلي الذي أحس بأن تجربة القيسارية قد أنضجته :
. سيعود يا أمي حين يصرف ما معه-
وعاد فعلا .
بعد أربعة أيام من الخوف والقلق ، من الركض خلف صورة الإبن الغائب على ظهر أسئلة متوثبة ترجو ضوء الجواب وتخشاه.

أين كنت خلال هذه المدة ؟ وماذا جرى لك ؟ وهل هذا ما يصنعه الأولاد البارون 

                                                                                              بأمهاتهم ؟                                                                                                                                                                              
لكنه عاد متعبا ..لو أنه حجر أصم وجامد ، لو أنه يسافر بعيدا أو يصاب بمس يفقده ملكة التمييز، لو أنه يستريح ، ينام .
توسل إليهم أن يتركوه ينام.
على الأقل ، هو معهم في البيت ، ابنها البكر ، متعب أو مريض ، محبط ومكسور الجناح ، لكنه في البيت ..ستدثره بعباءة الأم، وتغمره برعايتها ودفئها حتى تتوهج الحياة داخله من جديد متوثبة وضاجة .
. عبد العظيم ، أنس ، اخفضا من صوتيكما -
على الصغار ألا يزعجوه ، وعلى القارب أن يستمر في ركوب الموج ..ربما تسأله فيما بعد عن الأيام الأربعة فيم قضاها ، دون تلميح إلى النقود المسروقة ، وربما بادرها هو بالحديث ، وستصغي إليه وستضمه إلى صدرها بحب غامر كي يوقن أن ما بينهما أكبر من أموال العالم ، أكبر من العالم نفسه.
هل نام خمس عشرة ساعة ؟ عشرين ساعة ؟ وها هو يفيق الآن ..لقد سمعوا صوت اصطدامه بالدولاب، طقطقة الخشب وما يشبه السقوط ..هرع شارلي إليه ، هرعت الأم والأولاد
..
الوقع لا يحتمل .
كان يملأ الغرفة مكان محمد ، تيس بني صقيل الفرو ينطح بقرنيه الدولاب ويتطلع حواليه في ذهول.



          " من رواية "ماء الأعماق