mercredi 4 novembre 2015



كآبة الوجود و بهجة الكتابة في  
" الإقامة في العلبة " 
   للكاتب المغربي حسن البقالي  


  بقلم : فاطمة بن محمود / تونس

اعتدت أن أقرأ قصصا... و أتلذذ قصصا... و أركل قصصا..  
 لكن عوّدت قلمي أن لا يكتب إلا عن قصص يحبها .. قلبي.
      لأول مرّة في حياتي – الفوضوية – أجد نفسي عاجزة عن الكتابة عن قصص .. لأول مرّة يتعثر قلمي و أنا أبحث عن الخيط .. الناظم لهذه القصص.
لأكثر من مرة أهيئ نفسي للكتابة و أعجز..      
      قرأت قصص المبدع حسن البقالي ثلاث مرات و .. لم أستطع أن أغادر مجال لذّتها لأكتب عنها ..
هل يحصل ذلك  لغيري ؟
      انها قصص حسن البقالي من كتابه " الإقامة في علبة ".. قصص قدّت من أعصاب القارىء و حبكت على مقاس واقعه و بعثرت .. كياني.
     انها قصص تخترق الأماكن القصوى و تتحدث عني بصوت مرتفع  و أنا .. امرأة أخجل من الحديث عن نفسي بصوت مرتفع.. لكن الكاتب حسن البقالي يعرّيني و يكشف أسراري الخفية و يستنطق ّ رغباتي الصامتة.


أنا امرأة أضيق بزمني .. زمن العولمة الذي بعثر الهوية الانسانية و طمس خصوصيتها و أسّس للتشيؤ .. انه زمن أتي على الانسانية فأفقدها إنسانيتها و أطاح بالكوجيتو الديكارتي ( أنا .. أفكر ) ليؤسس للانسان تعريفات جديدة :
أنا أستهلك .. اذن أنا موجود
أنا منبطح ..اذن أنا واقف
أنا ميّت ..اذن أنا حيّ
لذلك أغادر بيتي، أترك هرج أطفالي ، أتجاهل غداء زوجي.. و ألتجئ الى ركن في مقهى هادئ و أقرأ .. أقرأ لحسن البقالي و في نيتي أن يربّت الكاتب على قلبي الموجوع ، أن يهدهد عقلي المشاكس .. أن يوفر لي حلما مخمليا أفرّ اليه من جحيم الواقع و الفوضى المربكة 
لكن حسن البقالي لن يهادن قارئه لن يواسيه بل يختار أن يوجه قلمه لدمامل الذات و جراح المجتمع ..اختار البقالي أن يفضح زمن العولمة و أتداعى أنا .. للوجع.

عندما تلقيت عبر البريد كتاب المبدع حسن البقالي " الإقامة في العلبة" .. بقيت أتأمل العنوان.. و توجّس قلبي..
 ترى.. هل يشعر ذلك المغربي على حافة الأطلس بما يضيق به صدري..و يبدو أن البقالي قد كان وفيا الى أندري جيد عندما أكّد أهمية العنوان في استفزاز القارئ .. لذلك كنت أشعر أن هذا الكتاب فيه الكثير من تبعثري  فكنت أحمله معي في كل مكان و كنت أؤجل قراءته .. أؤجل تحسّس غصتي .. و تلمّس موتي...
لكن لا أستطيع أن أواصل في مهادنة ذاتي القلقة..

يبدو كتاب حسن البقالي متوسط الحجم .. على غلافه ترتسم دوائر غير مكتملة بحيث تبدو أنصاف مشروخة أراها تفقد الانسجام فيما بينها
من صورة الغلاف يرمي حسن البقالي شرارته .. يجزأ الانسجام و يبعثر التناسق و يشير الى الفوضى ..و لا يؤمن بالاكتمال.. : انه يرسم القمر مشروخا ، كأنه يصور الأرض مشقّقة و كأنه يشير الى وحدة الانسان المجزأة.

من صورة الغلاف يختار البقالي أن يرشّ على غلاف الكتاب بعض  من تراب الأرض و كأنه ينادي بالعودة الى الأصل أو لعله غبار الزمن و كأنه يندّد بالتاريخ و لعلها دمامل المجتمع و يريد أن يفقأها..
و يختار ألوان داكنة تميل الى حزن الشاعر و حتى اللون الأصفر يبدو ذابلا و البرتقالي حزينا ( في الثقافة اليابانية .. البرتقالي رمز للحداد )  كأن الكاتب يريد أن يلقي بعض الأمل .. لكنه أمل بائس في زمن العولمة، كأنه يريد أن يرسم ابتسامة لكنها ابتسامة ذابلة في زمن الحصار على غزة

يختار الكاتب حسن البقالي حاشية زرقاء على طول الكتاب ..لا أجدها الا طريقة يشير بها الى ضيق مساحة الكتابة بما هي مساحة للحياة .. ذلك هو الحال في أوطان الجنوب.

هل يمكن أن يكون حسن البقالي بريئا وهو يختار غلاف كتابه .. هل يمكن أن لا يكون حزينا وهو يرى ليالي غزة تضاء بالقنابل..؟

و حتى يزيد من انشداد اللحظة الدرامية يختار حسن البقالي عنوان لكتابه " الاقامة في العلبة"     
يبدو حسن البقالي ساخرا من مقولة برقسون " الانسان يسعى الى البقاء أولا .. و الى حسن البقاء ثانيا " ..
 أي بقاء جميل للانسان في زمن العولمة ,,؟

اعتدنا أن نصف هذا الزمن بأن العالم.. كل العالم قد تحوّل الى قرية .. و لكن حسن البقالي يرى الوضع أدق من ذلك أو لعله يراه من زاوية مواطن في العالم الثالث لذلك لا يعتبر العالم قرية صغيرة و جميلة تتقارب فيها كل الشعوب و تتداخل فيها كل الثقافات و يسود فضاءها القيم الإنسانية .. بل انها علبة صغيرة.
في هذا الزمان الفوضوي يضيق المكان عند الكاتب كل العالم مجرد علبة يحشر فيها الانسان .. عند البقالي لا معنى لهذا العالم الرحب ... لا قيمة لهذه الأوطان الشاسعة


عند البقالي .. الإنسان اليوم يقيم في علبة .. ينام و يصحو في علبة.. يرتشف قهوته و يفكر في حبيبته في علبة.. يكتب قصصا أو قصائد و يحلم بالحرية وهو في علبة..يتعلم الوفاء للوطن و يشتهي أن يخون.. وهو في علبة..
ليس على الانسان الاّ أن يتكيّف مع هذا العالم الجديد.. مع الوطن الحقيقي.. مع العلبة
بهذا المعنى يمكن أن نتحدث عن أزمة الوجود التي يعاني منها الانسان في أوطان الجنوب .. أزمة حريات و كرامة و وطن فسيح يسع مواطنيه و أحلامهم.. أما و الحال غير هذا.. يجبرالانسان على
الوقوف  في العلبة لكنه سيضطر أن يطأطئ رأسه لأن العلبة صغيرة..و اذا فكر أن ينام  يضطر أن لا يمدّ رجليه بحرية لأن العلبة.. ضيّقة.
ذلك هو الواقع البائس و على الانسان أن يتكيّف مع الواقع و قد يضيق به الحال و يجد نفسه يضرب رأسه جدران العلبة / الوطن.


لذا ها أنا الآن في مقهى هادئ و جميل .. طلبت كعادتي قهوة ينقصها السكر و رحت أرتشف قصص الكاتب حسن البقالي بمتعة. كنت مع كل رشفة / قصة كأنني أفّك قطعة من جسدي.. عندما انتهيت من قراءة كل القصص .. كانت قهوتي الثانية قد نفذت أيضا .. و وجدت نفسي كومة من القطع المنفصلة.....
قصص حسن البقالي تجعلك تعيد مساءلة نفسك ، تفرض عليك أن تستنطق واقعك ، تجبرك على مراجعة حقائقك عن الحياة و الموت عن ذاتك و المجتمع ..... انه يجوس بك في الأماكن القصيّة للذات و يحملك على النظر في قاع المجتمع و يجعلك تضرب رأسك على جدران العلبة / الوطن..لذلك لازلت أجلس الى طاولتي .. و أرى قلبي قد استلّ من قفصه ملقى على حافة الكتاب، لا يزال ينبض.. كأنه  يتخبّط   و رأسي يتدحرج بين الكراسي و كأنه يبحث عن منفذ يندسّ فيه حتى لا يعود للتفكير.. و رجلاي أراهما في سلّة المهملات ، لا حاجة للمشي أو الجري و أنت في العلبة.. يدي اليسرى تبحث عني في الكراسي المجاورة و ترتطم ببعض الجالسين في اطمئنان  تعتذر منهم بلطف و تعود للبحث عني..
و يدي اليمنى تكتب ...


حياتي .. في قصّة  له :


عادة .. أنا لا أميل الى القصص.. أحب الروايات و أعشق القصص القصيرة جدا.. أما هذه القصص " المتوسطة" أعتقد أنها لا تجعلني أحلم مع بطل الرواية ولا تصل بي بسرعة الى الانتشاء مثل القصص القصيرة جدا.. لكن مجموعة من القصاصين المهرة غيّروا نظرتي كثيرا لعالم القصة " المتوسطة" مثل القاصة المصرية منى الشيمي التي جعلتني أكتشفها و القاصة الفلسطينية أنوار سرحان غيّرت من ذائقتي كليا تجاهها و الكاتب كمال العيادي الذي جعلني أبحث عنها في ركام الكتابات ...أما حسن البقالي فقد ذهب بي بعيدا و علّقني على أغصان هذه القصة "المتوسطة" و جعلني أستمتع بها  رشفة اثر .. قصة..

الكاتب المغربي حسن البقالي تربّص بي في قصصه و خاتلني كثيرا.. فجعلني أحبّ هذه القصص رغم أنها تكشفني و أفتتن بها رغم أنها تعرّيني.. و أستلذها رغم أنها تفضحني..

كل قصة من مجموعة " الاقامة في العلبة " يمكن أن تكون عالما متكاملا و عوالم متعددة..تشتغل على الكلي و تهتم بالجزئي .. تنادي بالقيم و تهاجم الواقع.. لذلك أكثر من خيط ناظم يمكن أن تتلمسه في هذه المجموعة من القصص ...
و لعل اشدّ ما استفزّني في قصص البقالي واحدة بعنوان " اختفاء " ( ص 31 )  شعرت كأنه يقصدني تحديدا وهو يكتبها ..
يا الهي ..تبّا لي ؟
أنا لا أعرف الكاتب أصلا و لم ألتقيه أبدا..فقط قرأت بعض قصصه و رأيت صورة له يبدو فيها معرضا عن عدسة المصور و ينظر الى جهة ما  لا تعني سواه..  يبدو ساهما في.. فكرة شاردة..
- هل يفكر في وطن أصبح فندقا..
- أم يفكر في طفل يبيع الفطائر للأطفال..
- أم يفكر في قصة لن تكون " سوى رغوة الحياة " ..

أقرأ قصة " اختفاء "  .. عن امرأة هدّها الروتين و تلاشى كيانها بين لامبالاة زوجها و هرج أطفالها وهوت في  الإيقاع الرتيب للحياة... امرأة طمرت طموحها بين شؤون البيت التي لا تنتهي ، و فقدت معنى لكيانها و قيمة لحياتها.. فامتلكت الجرأة التامة التي .. أفتقدها أنا .. امتلكت الشجاعة المطلقة التي أعجز عنها .. و تركت طعامها في  قدر على نار مشتعلة تركت أطفالها يتساءلون.. تركت زوجها في حيرة.. تركت المجتمع يتهامس عليها... و ذهبت الى وجهة لا تعلمها ، ذهبت تبحث عن ذاتها المشرّدة ، عن كيانها التائه.. و انتهى بها المطاف الى مكان ما.. لا يشبه بيتها لكن التقت فيه بذاتها...
هل كان حسن البقالي وهو يكتب هذه القصة يعلم ما يفور في صدري ، يدرك ما يدور في خلدي..؟ هل تسلل شيطان الإبداع عنده إلى الدرج السري في خزانتي و قرأ قصيدة لي ؟
( لم أنشرها حتى ...)

* فشل

في شؤون البيت الكثيرة
تموت الشاعرة
و أنتهي ربة بيت قديرة.

و هو ما حدا بي الى الرغبة في الفرار فأبوح في قصيدة أخرى

* فرار

أحيانا .. كثيرة..
أتوق أن أفرّ
من بيتي
و ألتجئ إلى بيت
في ... قصيد.

هذا القصيد الذي أتوق الفرار إليه ليس سوى ملهى تفر إليه بطلة القصة ( حجيبة المحمودي )، حتى الصدفة تجعل لقبها يشتق من لقبي هكذا ( المحمودي /  بن محمود) ..لا يعود هذا التوارد في الخواطر إلى شيء مني فأنا متحفظة في طبعي و ليس لي من الأصدقاء إلا ما ندر.. و إنما هي مهارة الكاتب حسن البقالي في نحت شخوص تحاكي الواقع ، قدرته على التقاط ملامح غير عادية ، عمقه في سبر أغوار الانسان عموما و المرأة خصوصا .. يتجوّل في عالم المرأة و يلتقط دمعتها، يجوس في كيانها و يتحسّس غصّتها.. و يأخذ قلمه فيكتب معاناتها .. إنها المرأة اليوم التي يحاصرها المجتمع بأوامره و نواهيه.. بقيم قهرية تقصم ظهرها.. بمتطلبات اليومي الممل.. إنها نفس تلك المرأة التي يشعر نزار قباني بضيمها فيقول انه مضطرا ليلبس أساورها ليتحدث عنها .."
- هل الزمن ثابتا لا يتطور ؟
- هل المجتمع راكدا ؟
و حسن البقالي مضطرا أن يحوّل قلمه إلى مبضع يشير به إلى الصمت المريب الذي يلفّ عالم المرأة.. و يدفعها الى جرأة نادرة لترفض كل شيء و تؤسس كيانها من جديد..
كم تمنيت شخصيا أن أغادر بيتي الصغير.. و.. و أستعيد أنفاسي في مكان ألتقي فيه بذاتي و أنسجم في مع نفسي و أتصالح فيه .. معي.
لكن ها أنا امرأة أحافظ على علاقاتي بالمجتمع و أكون في نظره " امرأة صالحة " .. و في نظري امرأة منهوبة أعاني الاكتئاب وكل ليلة أستدرج بحبّة النوم الكوابيس ،،  المهم أن  أردّ الأرق و أنام كالقتيلة.
و أظل امرأة في صراع مع ذاتي.. ألتقط تبعثري و أشهد على تشتّت كياني.. و أرتشف آخر ما في فنجاني من مرارة البن..
 أشعر بالقهر.. و لا أملك الاّ أن أضرب رأسي على جدران العلبة.. علبة المجتمع و.. أستسلم لضعفي..
لكن حسن البقالي يرفض مني هذا الاستسلام فيضع لي في قصته منفذا أحقق فيه رغبتي الكامنة، يجعل لي في جدار العلبة ثغرة أطلّ منها على نفسي.. انه حسن البقالي الساحر الذي يحقق الأحلام .. حسن البقالي يرفض سلبية المرأة  و لا يرضى أن تستبدّ بها الكآبة و تحولها الى ألة تطبخ و تغسل الثياب و تعتني بالأطفال و تتحول الى جثة يعركها زوجها آخر كل ليلة و تستفيق كل صباح كالقتيلة..
قرأت قصة حجيبة المحمودي .. قصتي .. أكثر من مرّة.

سينمائية القصّ :


كل قصص حسن البقالي في العلبة تفتح على عالم رحب.. و تقول الحياة بأشكال مختلفة.. و في جميعها يبدو النفس الدرامي عنيفا.. كعزف حاد بأتي على الأذن فيرجّ  القلب..
يكتب الحزن و الألم و اليأس بمهارة عالية بجمالية باذخة ، بفتنة قاسية .. لذلك يكتب حسن البقالي لينتصر للحياة..
في القصة الثانية التي اخترقتني كالسهم و أربكتني كطائر منتوف الريش هي قصة  آية ( ص 27 )
في هذه القصة يتحدث البقالي عن ثنائيات حادة :

الأنثى و الذكر
الحياة و الموت
المرض و الصحة
الأمل و اليأس
الموجود و المنشود...

 و تحتار هل هذه قصة تتحدث عن آية  .. البنت التي يهدّدها المرض و يتربّص بها الموت.. أم هو يتحدث عن سامي الذي امتلكه الحب  و هدّه الفقر..
حسن البقالي في هذه القصة ( مثلا ) كان يمسك قلما ليكتب، لكنه  كان أيضا يحمل كاميرا ليصوّر الأحداث التي يراها بقلبه
يستهل البقالي القصة بلقطة يبدو فيها الطفل لصق الحائط جالسا أمام فطائر مصفوفة خرجت للتو من الفرن ..
 ثم تبتعد الكاميرا قليلا لتصف لنا المكان.. الزقاق يبدو خاليا
ثم تبتعد الكاميرا مرة أخرى لنرى السماء داكنة بسحابة ماطرة قد تمرّ من هناك ..
و تعود الكاميرا من زاوية أخرى لنرى الطفل يعدّ دراهمه القليلة التي تمكّن من جمعها حتى الآن و ترتفع الكاميرا قليلا الى وجهه .. لنرى ملامحه الطفولية البائسة و نظرة عينيه الساهمة و العميقة و الحزينة و العاشقة.. و بطريقة رهيفة ينقلنا الكاتب الى ذهن الطفل .. لنفكر فيما.. يفكر.. و يقوم الكاتب بفلاش باك .. انه يفكر في حبيبته النحيفة الرقيقة الحزينة .. يبقى الطفل جالسا الى فطائره.. و بتلك النقلة الخفيفة تتحول الكاميرا الى تلك البنت الجميلة و الذكية و الهشة و الموجوعة و المهدّدة بالموت..
و يظل قلم البقالي ينقل لنا التفاصيل الدقيقة متى احتاج المخرج فيه الى ذلك  و يتعرض الى أهم اللحظات في حياة الطفلة  متى رأى الكاتب ضرورة ذلك
و يظلّ القارئ  يستمتع بقراءة القصة.. يرتشفها بلذّة..
لذلك نجد البقالي يمسك مرة بالقلم و أخرى بكاميرا يبادل هذا بتلك في  كل مرة  وفق حركة النص و أنفاس أبطاله .. و خصوصية اللحظة.. و طبيعة الحدث

تأمل معي عزيزي القارئ مثلا هذا المقطع الدرامي ( ص 29 )

في فترة الاستراحة..
حين كان الآخرون يتقافزون و يلعبون ، حضن الركن القصي زوج حمام تضلّلهما غمامة زرقاء من هديل
- لكن لم أنت حزينة بهذا الشكل يا آية ؟
- لأني سأموت يا سامي ..
- و أفتقدك كما فقدت أبي ؟ لماذا ؟؟

يتوقف الحوار .. في لحظة درامية .. يتوقع القارئ أن تحكي الطفلة معاناتها.. لكن البقالي كأنه يرأف بهذه الطفلة العليلة يتركها ساكتة و يظل الصمت جاثما على زوج الحمام.. توقفت الكاميرا و يحلّ قلم البقالي محلّ الطفلة فيحدثنا عنها

تحمل آية  قلبا عليلا.. و أي مجهود جسدي يعرضها للموت
لذلك فقدت مرح الأطفال و صاحبت الحزن
و لذلك صار سامي حزينا بدوره..

التقنية السينمائية لا تتوقف على حركة الكاميرا بل أيضا على الفلاش باك..
عندما تعود بنا عدسة الكاميرا للحاضر في آخر القصة :

 الطفل جالسا لصق الحائط أمام فطائره التي أوشكت على النفاذ..

بين اللقطة الأولى و اللقطة الأخيرة زمن قصير.. لكن تتخلله أزمنة كثيرة .. أهمها الزمن الموضوعي هذا النهار الذي يشطر زمن الطفل الى شطرين زمن دراسي و آخر مهني..
بينهما ينقسم الطفل بين تلميذ مجتهد و عامل يكدّ .. و في الحالتين يضفي الطفل على حياته معنى / معاني قد لا يقصدها و لكن الكاتب حسن البقالي يقصد أن يجعل لشخوصه معنى في الحياة تماما مثلما كانت حجيبة المحمودي ( في قصة اختفاء ) تبحث عن معنى .. يحدد البقالي هذا المعنى في الحب..
 لذلك اضافة للزمن الموضوعي نجد الزمن النفسي الذي يمكن بدوره أن يحيلنا الى زمن داخلي ويتمثل في شعور الطفل الباطني اذ حوّله الحب الى شاب ناضج و رجل مسؤول يحترم ذاته و يقدّر من حوله و يسعى الى التضحية من أجل غيره  و زمن آخر واقعي انه فعلا طفلا لا حول له و لا قوة يشعر بالضعف و العجز و ليس له غير دموعه و ابتهالاته ..

يعدّ الطفل دراهمه و يحسب القارىء – كما اعتقدت أنا – أنه يجمع نقودا يساهم بها في نفقات عملية القلب لحبيبته الصغيرة . لكن البقالي بمهارة يباغت  قارئه و يكشف مفاجأة لطيفة .. الطفل يريد أن يشتري قلبا فضيا تعلقه على صدرها قبل دخولها غرفة العمليات ...

البقالي في هذه الخاتمة يبدو واقعيا و حالما في  آن...

واقعيا ..لأن دراهم الطفل قليلة لا قيمة لها مقابل النفقات الباهظة للعملية الجراحية على قلب الطفلة.. لذلك لا يجعل الطفل يساهم بماله القليل .. فقط سيشتري لها قلادة تحمل قلبا فضياّ..

و كان البقالي حالما .. لأنه آمن بالحب و جعله مرتكزا تنبني عليه القصة و يحوّل قلمه الى كاميرا تلتقط المشاهد الانفعالية من زوايا مؤثرة ...و يترجم العاشق مشاعره الرهيفة و العميقة بقلب فضي هو رمز.. يتحول الى تيمة تجلب الحظ لجسد ذابل و تخفّف من أسئلة القلق و حمىّ الانتظار..
تنتهي القصة و يتركنا الكاتب حسن البقالي في حالة شجن و تعاطف مع هذا المحبّ فلا ندري .. هل سيخفق قلب العاشق بالحب أم سيدفن قصة حب جميلة في قاع الذاكرة...
هل ستبتهج البنت و تعانق حبيبها أم ستسلّم جسدها للتراب ليعبث به الدود و يرميه للنسيان...
انها خاتمة مفتوحة لا تنتهي بإجابة محددة و إنما يظل الأفق منفتحا لدى القارئ..
 انها طريقة في الكتابة تستدرج القارئ لشخوص القصة فيعيش " حمى انتظار" العاشق من جهة و يفكر مع الكاتب في خاتمة ممكنة لهذه القصة.. ربما يعود كل ذلك لأن الكاتب لا يؤمن بالوعي الجاهز و بالحقيقة المكتملة و على طريقة المتصوفة يعتبر الحياة.. شوق.

و في الحقيقة .. أغلب قصص الكتاب تعتمد على تقنية المخاتلة و مفاجأة القارئ و كأنه يتعمّد صدمة هذا الأخير و زعزعة هدوئه و خلخلة سكونه.. ألم أقل من الأول إن كتابة البقالي تربك القارئ .. و رما يعود هذا لاعتقاده أن الوجود الفعلي للإنسان هو أن يعيش القلق و الدهشة و الحيرة و التساؤل... أليس الوجود المعرفي للإنسان مرتبطا بذلك.

أماّ عن اللغة التي يكتب بها حسن البقالي فانها لغة شعرية يمزج فيها بين مهارته في حبك الجمل تقنيا من جهة و قدرته على إضفاء السحر و الجمال من جهة أخرى  لذلك نجده يكتب بلغة جميلة و شاعرية .. انه يكتب فتعتقد أنه يقول شعرا.. اقرأ معي هذه الجمل البديعة ( مثلا) :

- ... لقد وجد نفسه مشدودا الى المدرسة بألف رباط موشى بالسنابل منذ أن رأى الفتاة التي تلاحقها الفراشات..

أو حين يقول :

- ... اقترنت لديه الموسيقى بالحزن فداخل كل موسيقى ريش الحزن القاتم .. داخل كل موسيقى صورة للموت..

أحدس أن هذا الكاتب كان شاعرا.. لعله جرّب الشعر أو لا يزال يكتبه .. أو لعله احترف الحب و بمهارة يتقن كتابة الرسائل لحبيباته.. لذلك تأتي قصصه مضمّخة بروح شاعرة و طافحة بأحاسيس مرهفة و تموج بعواطف رقيقة...
ان حسن البقالي يكتب ليقول أشياء ، ليحرّك سواكن ليثير قضايا اجتماعية و ليطرح مسائل وجودية .. انه يكتب " في العلبة " ليندّد بالوعي الاجتماعي المتكلّس، ليرفض الرتابة القاتلة ، ليحاصر الرداءة التي تجتاح العالم و تنغّص على العاشق عشقه و على الانسان انسانيته و على الكاتب نصّه و عليّ .. اطمئناني الزائف.

أن تقرأ قصص حسن البقالي هو أن تفكك نفسك  و تشعر بتشظّيك و أن تكتب عنه أن تعيد لمّ تبعثرك ..و تؤمن أن الحب هو قيمة الانسانية و سرّها و أن الكتابة هي قدر الانسان الذي يحمل وزر البشرية و مسؤوليتها ..و أفهم رسالة البقالي جيّدا : أن الكتابة هي التي تصنع بهجة الحياة و تؤثث الوجود الانساني بالمعاني و القيم و الجمال و لذلك يبدو الكاتب اله كل الحضارات و الثقافات و الأزمنة .










Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire