mardi 10 novembre 2015

                                                بؤس النقد
يبدأ الناقد من حيث ينتهي الكاتب. فعلى الكاتب أن يموت كي يحيا الناقد.. هي ميتة مؤقتة طبعا، ما دامت حياة الناقد انبعاثا للكاتب، وولادة ثانية له.. هكذا يصير كل نقد حقيقي حياة مزدوجة.
لكن، لكي يصير كذلك، على الناقد ألا يخلط بين الكاتب وأثره، لأن خلطا مماثلا قمين بأن يقذف به في مناطق ظلال ومطبات، أقلها حضور الذات المثقلة بتبعات إشراطات خارج نصية، وبالتالي فقدان أية موضوعية مرتجاة.
والنقد أكبر من مصافحة عابرة
إنه لقاء وتحاور وتجاوز.. لقاء بين رؤيتين واستراتيجيتين ومرجعين وأفقين.. قد يصل حوارهما إلى تناغم أو خصام، لكنه لا يفضي أبدا إلى قطيعة.
هو لقاء ثنائي يستحضر الطرف الثالث والضروري: القارئ. بذلك تصبح القراءة النقدية حلقة وسطى.. جسرا بين قطبين. وبعد أن تكون رائية تصبح مرئية، آخذة بذلك بعد الشهادة.
جميل بالنقد أن يفتح مسارب للإبداع، نصيرا للطلائعية والخرق والتجاوز، ومبشرا بكل إبداع جميل أو وعد بذلك.. لولا أن ذلك يقتضي حدا أدنى من النزاهة الفكرية ولذة الافتتان بالجميل أيا كان مصدره، إلى غير ذلك من السمات المميزة المفتقدة الآن، عموما.. افتقد النقد بعده التبشيري الداعم، ليكتفي بالشهادة، وأية شهادة.
هي شهادة مجروحة..
لأن من إفرازات الزمن الردئ نقادا كبقّالي الحي، لا يرون أبعد من سحنات الجيران.. يتحولون في عز الدعاية (النقدية) إلى أبواق لمرشح الحي (الكاتب الصديق أو النديم أو ابن المنطقة..) أو مرشح السلطة (الكاتب المؤازر بسلطة ما أيا كان شكلها: حزب أو صحيفة أو جمعية..) أو مرشح الوعد (وعد بلذة ما، أو غنيمة)
وأيا كان الوضع، فهو في النهاية نقد يحمل عورته حيثما حل وارتحل، دون أن يبالي.. لأنه نقد بدون حياء أو ماء وجه. وهو في غمرة لامبالاته تلك، لا يدرك أنه يمر بجانب أعمال إبداعية كبيرة، لصالح النبش في أعمال المقربين والمرتجين، مهما بلغت من هزال.. هكذا ينسجم القارئ والمقروء، وتعلو الضحالة كل أفق، فتطرد العملة الرديئة العملة الجيدة من سوق الكلم.
وهو نقد ضحل..
يتحدث عن المضمر والعميق والمستتر، فيما لا يتجاوز الظاهر ولا يغنم أبعد من القشر.. يعوض افتقاده للعمق الفكري والوضوح المنهجي المستند إلى خلفية فكرية أو فلسفية، بالهذر وتفريخ الكلام، درجة التكرار المعيب.. يعوض الخطوة المتزنة المتروية في بحثها عن الحقيقة الأدبية باللهاث، وركام الورق الذي لا يخلف أثرا، والذي لا يصلح في النهاية إلا قراطيس لدى باعة الزريعة.. فطوبى لكم، باعة الزريعة بنقاد الكيلو.
كما أنه نقد مرتبك، نزق ومتسرع.. يناقض تحليله مقدماته المنهجية (حين يفصح عنها)، فيما لا تستند تصنيفاته ونمذجاته إلى أساس علمي أو فكري مقنع، فيشرع في توزيع الألقاب والقبعات عسفا واعتباطا.. وغالبا ما يسقطه هوسه بادعاء المعرفة في أخطاء معرفية وخلط في أسماء الكتاب..
وهو في الأخير نقد أصم.. لا تترك له عجرفته أن ينصت إلى أي انتقاد، أو قراءة للقراءة.. بل كل انتقاد هو في نظره جنحة تقتضي وضع صاحبها –إن كان مبدعا- في ثلاجة المبعدين والمقصيين والمغضوب عليهم.. ينسى أن الزمن كشاف، وأن الشمس لا يحجبها الغربال، مهما بلغ الغربال من خبث وتطاول ورغبة في تحريف الوقائع وقلب الخرائط..
إنه بكل بساطة نقد بئيس في زمن بئيس.
                            حسن البقالي

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire