vendredi 27 novembre 2015

                                          بقعة زرقاء في شارع طويل                                                            
                                                

     

           من مجموعة سبعة أجراس

الشارع خال مرعب كأنه قطعة هاربة من زمن آخر- زمن للحروب الكونية و ضحايا 
السيدا- و الطفل الذي يبدو في سن العاشرة كان ممددا وجهه مغموس في التربة كأنه يقبل امرأة غارت في قعر الأرض.كان بلا حراك و لو بدا للحظة كمن يود أن يقول شيئا، أن يبلغ رسالة ما. كانت ما تزال بجسده بقايا حياة أمدت أصابعه ببعض الحرارة.تحركت في ضعف شديد نحو شيئ كان بجانبه. ثم سكنت..كان الشارع ساكنا درجة الجنون أو السقوط في حافة الصخب.

كان الفصل صيفا و الشمس حمراء كالجريمة ..انتهت الدراسة و تفرق أطفال المدارس في الطرقات يحترفون بيع السجائر ماعدا للطفولة لون، و ما عاد الفرح يغني على الوجوه و لعب عاشوراء ما عادت تغري أحدا. عندما كنا هناك على المقعد اليومي ندردش و نقتل الوقت ، كان يجري بين الكراسي و يعرض لفافات التبغ وقف أمامي طفلا نحيفا في العاشرة بين يديه علبتا سجائر هممت أن أنهره إذ وقف في اللحظة التي كنت أتابع فيها حركات ساقين بديعين لفتاة ترى جسدها في شبق العيون .وقف و غطى عني السيقان و الأرداف و كل جنون الإناث العابرات لكني لم انهره. لم أصرخ في وجهه. كان نحيفا وسخا ككل أطفال الأحياء الفقيرة ، لكن عينيه كانتا شيئا آخر.هل كان بريقهما شمسا متوهجة بالأحلام و الأحزان؟ أم كان قارة غارقة في الخط الفاصل بين الكينونة و العدم ؟ عندما نظرت إليه رأيت كل جمال الأرض مطروشا بالأوحال.و تذكرت كل الحكايات القديمة عن الأغوال و الأمساخ التي تأكل الأطفال..كان واقفا يحمل أحزان القارات الخمس تحت الأهداب و يعري أكاذيب العالم.                                إلتفت إلى الذين كانوا معي. نظرت إلى الكؤوس. لم يكن ما نرتشف قهوة و شايا ، كان ما تبقى فينا من كرامة تبتلعها و نلتصق بالأرض كالحشرات.نظرت إلى المقهى إلى اللغط و الدخان.إلى التفاهات السارحة و أكوام اللحم البلهاء و فجأة لم يكن هناك شيئ.
امّحى فجأة كل شيء و امتد أمامي شارع طويل كأنه نهض من قبر يرقد في الذاكرة. كأنه نزح من أسوار صيدا و برج البراجنة، أو تشكل من الظلال الساكنة في أعين الأطفال المقهورين. شارع خال  مرعب.تفترش جنباته أشجار جرداء طبعتها النيران بلون الليل .لم تكن إلا بقعة زرقاء بدت من بعيد دون ملامح، إلا أني أدركت أن الشمس التي بزغت من عيني الطفل كانت ترقد هناك.اقتربت..بدا المشهد واضحا و بدا فظيعا..كان ممددا بلا حراك و الأشجار واقفة تتفرج..وحدها الأشجار كانت شاهدة على الجريمة .اقتربت أكثر و دفنت نظراتي في الجسد النحيف -أو الجثة لست أدري - .على القميص الأزرق البالي علقت آثار كثيرة. هل كانت دماء شاهدة أم أمواجا سوداء من الحزن الهالك؟ الرجلان ممدودتان و أصابع اليد متشنجة كانت تحتوي علبة سجائر بقي فيها سيجارتان أسندت رأسه الى ذراعي ونظرت الى الوجه فصعقت. كانت العينان مفتوحتين واسعتين متهمتين. إنتفضت في صدري كل البراكين و الأرواح الشريرة و استبدت بي رغبة جامحة في القتل و التخريب، سأخرب هذا العالم المليء بقاتلي الاطفال و أنتحر.
العينان باردتان كالنصل و الجسد نائم ملتصق بالتربة..ضممته إلى صدري بقوة ثم بحنو كأني أبوه، كأني أمه ، لعله ا بني فعلا. كانت العينان واسعتين تنظران إلي و على الشفتين الذابلتين أشرقت بسمة ، ثم أنطفأت سريعا و اليد التي كانت تمسك علبتي السجائر لم تكن ممدودة الي..لم يكن يريد أن يبيعني شيئا..فقط كان ينظر، و الآخرون يدردشون، يدخنون و يرقبون السيقان..و لم أكن أرى شيئا آخر كانت عينا في عينيه و بينهما هدرت موجة خضراء. في تلك اللحظة نشأت بيننا علاقة ما.ما نوعها؟ لست أدري..أعرف فقط أن شيئا آسرا بات يربطني بهذا الطفل الواقف أمامي..ابتسمت له و دعوته فيما يشبه الهمس: هل تشرب شيئا ؟
ابتسم أيضا و أشار برأسه: لا.                                                                                        
قلت :                                                                                             
-  ما إسمك؟
- علي
- و أبوك ماذا يعمل ؟
- ليس لي أب
- مات؟
- لست أدري.
- ماذا كان إسمه ؟
- علال .
و صعقت..أحسست بوجهي قد اشتعل كأن كل نيران المجوس سلطت لهيبها علي..علال اسم ابيه و علال هو اسمي.
هل كان ذلك مجرد مصادفة ؟ أم أني كنت أبا لذلك الطفل ؟ أباه بشكل ما وفي زمن ما..و إلا ما معنى انجذابي إليه لتلك الدرجة؟ و ما معنى تلك الدماء التي اندفعت في شراييني كالنيران أو كالطوفان؟ دعوته إلى الجلوس  فتردد.. نظر إلى الذين كانوا معي ثم ركز عينيه فيّ و لم يجلس..  كانوا ممتعضين، لعنتهم في سري..رأيتهم أمساخا يعلوها الزغب و في مؤخراتها نبتت أذناب. وكان علي طفلا متعبا ينظر إلي..قلت له :
- إجلس و ليذهبوا إلى الجحيم.
إبتسم و مد لي من حدائق عينيه باقة ورد، لكنه بدا شاحبا و في حالة إعياء قصوى و دون شك كان جائعا .قلت له :
- إجلس يا علي ، لكني رأيته فجأة يترنح و يتهاوى تحت الكراسي صرخت في الجميع ..صرخت بكل حرقة الحيوانات الثكلى : لقد قتلتموه يا أبناء القتلة.
و كان ممددا في ذلك الشارع الطويل، حيث احترقت الأشجار و حيث لم يكن أحد و حيث لم يكن شيء إلا عيناه المفتوحتان.
                                                                                                  

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire