الكتابة ضد العطب
"قراءة في رواية "ن.ك" للقاصة
والروائية الإماراتية
فاطمة الناهض"
فاطمة الناهض"
حسن البقالي
عرفت فاطمة الناهض قاصة تجترح القصة القصيرة بنفس شعري
لا تخطئه الذائقة. ثم إذا هي تقتحم غمار الكتابة الروائية بعملين متتاليين يبينان
عن حس عال في البناء الروائي واستنبات العوالم والفضاءات وسبر حيوات الشخوص، بما
يشد المتلقي إلى حركية السرد وتناسل الحوافز بخيط وثيق.
"ن.ك" هي روايتها الثانية* الصادرة إلكترونيا
وورقيا عن دار "إي كتب" للنشر الإلكتروني الموجود مقرها في لندن. رواية
من 324 صفحة، يتتبع فيها السارد - ضمن خطين سرديين متوازيين- سيرورة شخصيتين
نسائيتين "ميرة بوشميس" و"نورة خلفان"، خلال منعطف حاسم
واستثنائي من مسارهما الحياتي.
تبدأ الرواية حين تعرف الشخصية الأولى أن الإسم المستعار
"ميرة بوشميس" الذي توقع به عمودها الصحفي ككاتبة صحفية وافدة حديثا على
المجال، هو نفس الإسم الذي ظلت كاتبة سابقة توقع به كتاباتها الصحفية خلال
الثمانينيات من القرن الماضي، قبل أن تختفي فجأة دون أن يعرف لها أحد أثرا. تلك
المصادفة التي جعلتها تنتقي اسما مستعارا مستعملا من قبل، أثارت لديها فضولا
للتعرف على ميرة بوشميس السابقة، استجلاء لما يمكن أن يكون قد خفي من غوامض أمور
تنكرها الذاكرة، وتأكيدا لأصالتها ككاتبة.
أما الشخصية الثانية "نورة خلفان"، فكانت
رحلتها في الذات والذاكرة، حين وجدت نفسها تفيق بشكل يلامس الإعجاز، من غيبوبة
دامت سبع سنين ونصف السنة، ووجدت العالم المحيط قد تغير، مما ولد لديها إحساسا
بالغربة والضياع والعطب.
رواية متعددة المرجعيات، تستقي ملامحها وتيماتها من
حساسيات جمالية وألوان مختلفة في الكتابة الروائية، من الرواية العائلية إلى
الرواية السيكولوجية وتيار الوعي وأدب الرحلة والكتابة الصحفية.. لتؤلف من الهجانة
المرجعية ضفيرة سردية مطولة وعالما روائيا خصبا بهواجس ونزوعات النفس البشرية في
لحظة ضعف، ومقاومة لذات الضعف.
في التسمية:
"ن.ك"
حرفان فقط
كالتمتمة الأولى قبل النداء بالأسماء، أو آثار تبرم من
أية نزعة للإمتلاك (ألسنا نملك الشئ بشكل ما حين نسميه؟) ودفع لأية شبهةِ حميميةٍ
في العلاقات الإنسانية.
لقد نعى "ألان روب غرييه" الشخصية الروائية
الممتلئة، ذات الملامح الواضحة والإسم وكناش الحالة المدنية.. شخصية "الأب
غوريو" و" كارامازوف " التي ما عاد لها مبرر موضوعي في زمن المكننة
والاستلاب والرقمية والمجهولية، بشكل فقد معه الاسم قيمته الإطلاقية التعيينية
ورسوخه المطمئن بين ثنايا النص الروائي. يقول: " إن رواية الشخصيات الآن
أصبحت ملكا للماضي. فقد كانت من الصفات التي تميز حقبة معينة: أعني الحقبة التي
وصل فيها الفرد إلى قمة مجده"(1)
لكن هل نزعم أن فاطمة الناهض تنطلق من نفس الخلفية النظرية
كدافع لاختزال الاسم (عنوان الرواية) إلى حرفين متجاورين، دون الوقوع في التسرع؟
هل ذاك الوجه الحضاري الذي عرفه المجتمع الأوروبي في النصف الثاني من القرن الماضي
شبيه بما يعرفه المجتمع الإماراتي والخليجي عموما في بداية الألفية الثالثة؟
إن الشخصية الروائية لدى فاطمة الناهض ذات جذور اجتماعية
وجغرافية.. لها تاريخ وأسرة ومرجعية ثقافية واضحة، لولا ما تعرضت له من هزة طوحت
بها في مهاوي غيبوبة طويلة ومنهكة ستفيق
منها ضد كل التوقعات وتعيد تشكيل رؤيتها للعالم.
وبذلك لا يبدو أن الإسم في رواية "ن.ك" يؤشر على شكل للاستلاب والتشيؤ، بقدر ما هو قطعة على رقعة
شطرنج سردي، تنقلها الكاتبة متى شاءت من التنكير إلى التعريف، أو تبثها على أرضية
الرواية كعلامة سيميائية لمخاطبة وعي المتلقي الفطن، وتحضيرا للحظة التنوير.
يحضر الإسم كلعبة فنية ، يسهم ضمن جدلية للخفاء والتجلي
في الاحتفاظ بالسر/ الركيزة الأساسية للتقنية التي اعتمدتها الكاتبة، حتى متم
الرواية ولحظة الكشف الأخيرة، بما يقرب البنية العامة للرواية من بنية الرواية
البوليسية.
الكتابة كمؤشر على العطب:
ينزع الإنسان إلى الكمال. ومجمل أنشطته الخلاقة، على
كافة المستويات (الجسدية والذهنية والتخييلية) تعبير عن ذاك النزوع وترسيخ له..
ترسيخ لما يسميه البعض ب"عقدة الأمير"(2)
ولعل أهم ما يتمظهر من خلاله التحقق الفعلي
للكمال/الاكتمال هو الأسطورة، حيث يكون بإمكان الإنسان أن يتغذى على مائدة الآلهة
وينازعهم أهواءهم. أما الرواية فلم يعد يسعها تتبع البطولات والأمجاد في حياة
الفرسان والملوك والنبلاء، بعد أن دقت دون كيشوت إسفينا في هذا المنحى، وصارت
الرواية مسكنا للبطل الإشكالي والبطل المضاد والإنسان العادي غير المكتمل الذي يقف
في مواجهة أشكال العزلة والاغتراب والتشيؤ.
في رواية "ن.ك" تفيق نورة خلفان من غيبوبة
دامت سبع سنين ونصف السنة. لذا كان من الطبيعي أن تعاني من العطب.. العطب الجسدي
والنفسي والإدراكي والرؤية للعالم. فهي
"في النهاية امرأة بذاكرة معطوبة وجسد معطوب وقلب أشد عطبا من أي شئ
آخر"(3).. هي "بضاعة مضروبة من كل جانب" (4). وسماتها الأساسية
الشعور بالغربة والضياع والارتباك واللاتوازن والإرهاق.
لقد انقضت سبع سنين ونصف على آخر لقاء لها مع الحياة،
قضتها في غيبوية كلية، بينما ظل الزمن، ذاك النهر دائم الجريان يبصم بأثره الواضح
على الناس والأشياء. عرف البلد طفرات على مستوى العمران والرواج الإقتصادي، مما
كان له أثر على مستوى عيش الأسرة والتحولات التي شهدتها، انتهاء بالمفاجأة القاصمة
للظهر التي ووجهت بها: زواج أختها نجلاء من زوجها هي (يوسف) اعتقادا منهما ومن
أفراد الأسرة بأن نورة لن تفيق أبدا من موتها (المؤكد حسب إفادات الأطباء والقائمين
على أمر معالجتها).
تحولات لم تشهدها في حينها، بالتدريج والتنامي الطبيعي
للمدن والأسر. وطابع الفجائية أفقدها نقاط الارتكاز repéres واتجاهات
البوصلة ، ورسخ لديها الشعور بالعطب
والغربة "أشعر بغربة بلا حدود"(5). واللاتوازن "تحتشد التوقعات
والأسئلة ويتشتت تفكيرها المتوقف منذ زمن طويل، بين ما كانت عليه الحياة وما هي
عليه الآن وما ستؤول إليه"(6).
وإذا كان العطب الفيزيقي يقتضي مرحلة للترويض..
"لتفعيل الجسد" و"تسريع عودته للحياة" (7)، فإن المستويات
الأخرى للعطب ليست أقل حاجة إلى الترويض.. ترويض في التعامل مع الذات، ومع الآخرين
والرؤية إلى العالم:
"هل العالم مستعد لي؟ هل أنا مستعدة
للعالم؟"(8).. تتساءل نورة وهي على أهبة مغادرة غرفتها بالمستشفى باتجاه
الحياة.
الكتابة ضد العطب:
لا شئ نهائي في حياة الإنسان. حتى الموت ليس نهائيا مادامت
الأساطير والأديان واليوتوبيات أوجدت له مضادا وجوديا يتمثل في حياة أخروية خالدة.
ومثل الفينيق الذي ينبعث من رماده، يعاد تأسيس مدن ودول، وترميم بنيات نفسية
وجسدية. من هنا، ليس العطب قدرا لنورة خلفان.. المرأة المتعلمة المعلمة ثم الصحفية
التي لملمت جراحها وأعطابها لتحيا من جديد.
كان السفر إلى أمريكا وأنجلترا محطتين هامتين للاستجمام
والتفريغ والبحث عن الجديد، ضمن الرحلة الأساسية المؤطرة: البحث عن الذات وإحداث
توزيع جديد لسلم القيم، تبتدئ درجاته بتثمين قيمة الاستقلالية (استقلالية المرأة
في مجتمع محافظ) ووصولا إلى قيمة التشاركية والانخراط في الأعمال الاجتماعية
والتعاونية لصالح الفئات المحرومة، والنهوض بالمجتمع ككل.
ولئن كان السفر فعالا في ترميم العطب، فإن هناك إوالية
أكثر فعالية هي الكتابة. الكتابة بكل أشكالها وتلاوينها كأهم سلاح مقاومة ضد
الوحوش التي تفترس الذات، وإعادة التماسك والتوازن إليها.
لقد قال الرسام
الهولندي "موندريان" إن للفن ضرورته مالم يحقق المجتمع التوازن
المطلوب. وعملت شهرزاد على أسطرة الحكاية كمضاد فعال ضد الموت. ولعل نورة خلفان
وميرة بوشميس (الأم) لم تحيدا عن هذا الإطار.
فميرة بوشميس
اهتدت من واقع قراءاتها التي كانت تنسى خلالها العالم، إلى الكتابة كوسيلة لمقاومة
الضغط والألم النفسيين والجسديين في ظل مجتمع ضاغط وزوج عنيف ظالم: "كانت
الكتابة فعل "المقاومة السرية" الذي استطاعت به محاربة الظلم" (9).
أما نورة خلفان فانخرطت في الكتابة بدءا، كخطوة علاجية، عملا بنصيحة معالجتها
النفسية: "تمسك بالدفتر الذي قدمته لها الدكتورة سلوى وتبدأ كتابة ما يخطر
ببالها"(10). و"المذهل في الأمر كله أنها تعاملت مع التدوين حرفيا كما
ذكرت الدكتورة.. كتناول حبة أو جرعة دواء أو حقنة في الوريد وصفت لعلاجها. فبدأت
تشعر بتحسن أقل ما يوصف به أنه لم يكن متوقعا"(11). هكذا تغدو الكتابة وصفة
طبية ضد القلق والتوتر واللاتوازن، وتمرينا يوميا ضد العطب."تستمر في
التدوين. يبدو أنه الفعل المستقل الوحيد الأمثل الذي يمكنه توفير بعض الطمأنينة
وينجح في تبديد الوحدة" (12).
على أن هذه الوظيفة العلاجية للكتابة ستعدم مبررها
الموضوعي ببلوغ نورة مستوى مقبولا من الصحة الجسدية والنفسية، وبذلك تصبح للكتابة
وظيفة أخرى أسمى تتمثل في إضفاء معنى على الوجود: "بعد عام كامل من الكتابة
في صحيفة "الصباح"، بذلت فيه أقصى ما استطعت لأضع قدمي على الطريق
الصحيح ويصبح لي دور ولوجودي هدف ومعنى أوسع وأكبر من مجرد العيش يوما
بيوم"(13).
التوازي كلعبة سردية:
ميرة بوشميس ونورة خلفان هما الشخصيتان الرئيسيتان في
الرواية، بهما مناط السرد وعليهما "تدور الدوائر". فأية علاقة تجمع بين
الإثنتين؟
هذا السؤال في الحقيقة هو أكبر مقلب وضعته الكاتبة فاطمة
الناهض في طريق المتلقي، موظفة في ذلك – كعوالم مساعدة- علامات الترقيم والضمائر
السردية ورسم الكتابة...
ففيما يتعلق بالرسم، يلاحظ أن ما يهتم بميرة ورد بأحرف
مشددة، بينما خصصت أحرف عادية لتتبع حياة نورة..
ومن حيث علامات الترقيم، لجأت الكاتبة إلى خدعة نقطتي
التفسير كمعبر من ميرة إلى نورة، بما يوحي في البداية للمتلقي بأن نورة شخصية
روائية من اختلاق ميرة، ويجعله إزاء لعبة للمرايا المتقابلة أو لعبة للأثر النهائي
حيث كل شاهد مشهود في نفس الآن.
وفيما يتعلق بالضمائر، الملاحظ أن الكاتبة خصت ميرة
بضمير المتكلم ونورة بضمير الغائب، لنخلص بشكل تطبيقي إلى ما ذكره "ميشيل
بوتور" عن أن ضمير المتكلم ليس في الرواية غير ضمير الغائب الذي تعود إليه
الضمائر الأخرى المستعملة على سبيل المجاز: " إن أبسط الصيغ الأساسية للرواية
هي صيغة الغائب، وفي كل مرة يستعمل فيها الكاتب صيغة أخرى يكون ذلك على سبيل
"المجاز"، فعلينا ألا نتقيد بها حرفيا، بل أن نردها إلى صورتها الأساسية
المضمرة."(14).
فكل من الضميرين في "ن.ك" يعودان على نفس
الشخصية، لأن ميرة بوشميس كما يتضح في النهاية ليست غير نورة خلفان،
"شطرتها" الكاتبة شطرين وأودعت كل شطر طريقا موازيا للآخر.. الأول يسافر
إلى لندن والثاني إلى بورتلاند. هذا يبئر على العطب النفسي والفيزيقي والثاني على
العطب الوجودي. الأول يرمم الأعطاب والثاني يبحث عن معنى للوجود ودور أكبر في
الحياة.. قبل أن ينعطف الخطان المتوازيان في نهاية الرواية ويلتقيا في خط واحد هو
خط الحياة التي لا تتوقف.
ولنقل إن السمات الشخصية لنورة خلفان هي أقرب إلى سمات
ميرة بوشميس الأم، بينما ميرة بوشميس الإبنة هي نورة خلفان بشكل أكثر نضجا وعافية
وسواء نفسيا (أليست الأحرف التي تتناولها مشددة كما ورد آنفا؟).
خاتمة:
إذا كان الدكتور شكري عزيز الماضي يعتبر أن الرواية
العربية تدرجت ضمن مسارها عبر ثلاث حلقات: الرواية التقليدية- الرواية الحديثة-
الرواية الجديدة(15)، فأي موقع تحتله "ن.ك" إذا ارتأينا أن فضاءها الروائي
فضاء لاهتزاز القيم وشيوع اللايقين، ضمن مبنى متماسك ومحبوك كسكة الحديد؟ هل تهتز
حلقات الرؤية وتتداخل المقومات ما بين الحداثة والجدة؟
ما يمكن الجزم به في كل الأحوال أن الرواية العربية ربحت
إضافة في اسم فاطمة الناهض.
----------------------------------------
هوامش:
·
الرواية الأولى بعنوان "خط
الاستواء" منشورات "إي كتب" لندن-2012
1) نحو رواية جديدة- ألان روب غرييه- ترجمة مصطفى
إبراهيم مصطفى- دار المعارف مصر.ص:36.
2) انظر كتاب "عقدة الأمير" (مقاربة
سيكونسقية)- عبد الكريم غريب- منشورات عالم التربية-1998
3) رواية "ن.ك"- فاطمة الناهض- منشورات إي كتب- لندن-
2013- ص:153
4) نفسه ص:273
5) نفسه ص:155
6) نفسه ص:104
7) نفسه ص:95
8) نفسه ص:137
9) نفسه ص:319
10) نفسه ص:133
11) نفسه ص:134
12) نفسه ص:158
13) نفسه ص:195
14) بحوث في الرواية الجديدة- ميشيل بوتور- ترجمة فريد
أنطونيوس- منشورات عويدات بيروت. ص:63
15) انظر كتاب "أنماط الرواية العربية
الجديدة"- د. شكري عزيز الماضي- سلسلة عالم المعرفة 355- سبتمبر 2008- من
الصفحة 7 إلى الصفحة 19.
رائع يا حسن..نادرة فئة السراد الذين يملكون ثقافة نقدية يستطيعون توظيفها بخفة وثبات في الكتابة عن الفنون الأدبية بشكل يبعث على الرضا.كتابة راقية أيها القاص الفاتن .
RépondreSupprimer