vendredi 27 novembre 2015

                                          بقعة زرقاء في شارع طويل                                                            
                                                

     

           من مجموعة سبعة أجراس

الشارع خال مرعب كأنه قطعة هاربة من زمن آخر- زمن للحروب الكونية و ضحايا 
السيدا- و الطفل الذي يبدو في سن العاشرة كان ممددا وجهه مغموس في التربة كأنه يقبل امرأة غارت في قعر الأرض.كان بلا حراك و لو بدا للحظة كمن يود أن يقول شيئا، أن يبلغ رسالة ما. كانت ما تزال بجسده بقايا حياة أمدت أصابعه ببعض الحرارة.تحركت في ضعف شديد نحو شيئ كان بجانبه. ثم سكنت..كان الشارع ساكنا درجة الجنون أو السقوط في حافة الصخب.

كان الفصل صيفا و الشمس حمراء كالجريمة ..انتهت الدراسة و تفرق أطفال المدارس في الطرقات يحترفون بيع السجائر ماعدا للطفولة لون، و ما عاد الفرح يغني على الوجوه و لعب عاشوراء ما عادت تغري أحدا. عندما كنا هناك على المقعد اليومي ندردش و نقتل الوقت ، كان يجري بين الكراسي و يعرض لفافات التبغ وقف أمامي طفلا نحيفا في العاشرة بين يديه علبتا سجائر هممت أن أنهره إذ وقف في اللحظة التي كنت أتابع فيها حركات ساقين بديعين لفتاة ترى جسدها في شبق العيون .وقف و غطى عني السيقان و الأرداف و كل جنون الإناث العابرات لكني لم انهره. لم أصرخ في وجهه. كان نحيفا وسخا ككل أطفال الأحياء الفقيرة ، لكن عينيه كانتا شيئا آخر.هل كان بريقهما شمسا متوهجة بالأحلام و الأحزان؟ أم كان قارة غارقة في الخط الفاصل بين الكينونة و العدم ؟ عندما نظرت إليه رأيت كل جمال الأرض مطروشا بالأوحال.و تذكرت كل الحكايات القديمة عن الأغوال و الأمساخ التي تأكل الأطفال..كان واقفا يحمل أحزان القارات الخمس تحت الأهداب و يعري أكاذيب العالم.                                إلتفت إلى الذين كانوا معي. نظرت إلى الكؤوس. لم يكن ما نرتشف قهوة و شايا ، كان ما تبقى فينا من كرامة تبتلعها و نلتصق بالأرض كالحشرات.نظرت إلى المقهى إلى اللغط و الدخان.إلى التفاهات السارحة و أكوام اللحم البلهاء و فجأة لم يكن هناك شيئ.
امّحى فجأة كل شيء و امتد أمامي شارع طويل كأنه نهض من قبر يرقد في الذاكرة. كأنه نزح من أسوار صيدا و برج البراجنة، أو تشكل من الظلال الساكنة في أعين الأطفال المقهورين. شارع خال  مرعب.تفترش جنباته أشجار جرداء طبعتها النيران بلون الليل .لم تكن إلا بقعة زرقاء بدت من بعيد دون ملامح، إلا أني أدركت أن الشمس التي بزغت من عيني الطفل كانت ترقد هناك.اقتربت..بدا المشهد واضحا و بدا فظيعا..كان ممددا بلا حراك و الأشجار واقفة تتفرج..وحدها الأشجار كانت شاهدة على الجريمة .اقتربت أكثر و دفنت نظراتي في الجسد النحيف -أو الجثة لست أدري - .على القميص الأزرق البالي علقت آثار كثيرة. هل كانت دماء شاهدة أم أمواجا سوداء من الحزن الهالك؟ الرجلان ممدودتان و أصابع اليد متشنجة كانت تحتوي علبة سجائر بقي فيها سيجارتان أسندت رأسه الى ذراعي ونظرت الى الوجه فصعقت. كانت العينان مفتوحتين واسعتين متهمتين. إنتفضت في صدري كل البراكين و الأرواح الشريرة و استبدت بي رغبة جامحة في القتل و التخريب، سأخرب هذا العالم المليء بقاتلي الاطفال و أنتحر.
العينان باردتان كالنصل و الجسد نائم ملتصق بالتربة..ضممته إلى صدري بقوة ثم بحنو كأني أبوه، كأني أمه ، لعله ا بني فعلا. كانت العينان واسعتين تنظران إلي و على الشفتين الذابلتين أشرقت بسمة ، ثم أنطفأت سريعا و اليد التي كانت تمسك علبتي السجائر لم تكن ممدودة الي..لم يكن يريد أن يبيعني شيئا..فقط كان ينظر، و الآخرون يدردشون، يدخنون و يرقبون السيقان..و لم أكن أرى شيئا آخر كانت عينا في عينيه و بينهما هدرت موجة خضراء. في تلك اللحظة نشأت بيننا علاقة ما.ما نوعها؟ لست أدري..أعرف فقط أن شيئا آسرا بات يربطني بهذا الطفل الواقف أمامي..ابتسمت له و دعوته فيما يشبه الهمس: هل تشرب شيئا ؟
ابتسم أيضا و أشار برأسه: لا.                                                                                        
قلت :                                                                                             
-  ما إسمك؟
- علي
- و أبوك ماذا يعمل ؟
- ليس لي أب
- مات؟
- لست أدري.
- ماذا كان إسمه ؟
- علال .
و صعقت..أحسست بوجهي قد اشتعل كأن كل نيران المجوس سلطت لهيبها علي..علال اسم ابيه و علال هو اسمي.
هل كان ذلك مجرد مصادفة ؟ أم أني كنت أبا لذلك الطفل ؟ أباه بشكل ما وفي زمن ما..و إلا ما معنى انجذابي إليه لتلك الدرجة؟ و ما معنى تلك الدماء التي اندفعت في شراييني كالنيران أو كالطوفان؟ دعوته إلى الجلوس  فتردد.. نظر إلى الذين كانوا معي ثم ركز عينيه فيّ و لم يجلس..  كانوا ممتعضين، لعنتهم في سري..رأيتهم أمساخا يعلوها الزغب و في مؤخراتها نبتت أذناب. وكان علي طفلا متعبا ينظر إلي..قلت له :
- إجلس و ليذهبوا إلى الجحيم.
إبتسم و مد لي من حدائق عينيه باقة ورد، لكنه بدا شاحبا و في حالة إعياء قصوى و دون شك كان جائعا .قلت له :
- إجلس يا علي ، لكني رأيته فجأة يترنح و يتهاوى تحت الكراسي صرخت في الجميع ..صرخت بكل حرقة الحيوانات الثكلى : لقد قتلتموه يا أبناء القتلة.
و كان ممددا في ذلك الشارع الطويل، حيث احترقت الأشجار و حيث لم يكن أحد و حيث لم يكن شيء إلا عيناه المفتوحتان.
                                                                                                  

lundi 23 novembre 2015

                                 كما يجدر بعجوز متهالك
الممثلة الصاعدة قصدت بيتي طمعا في دور
- ما رأيك في مشهد يُقتل فيه عجوز على السرير؟
رأت حقنة نائمة على الطاولة، ورزمة أوراق مالية، وورقة تمد عنقها من تحت الوسادة بشكل مريب، و"أنا" المكوم على السرير كما يجدر بجسد عجوز متهالك أن يفعل.
- هل تقصد...؟
بدت من ترددها في حاجة إلى إعادة رسم الحدود بين السجلات والحقول.. بين الفن والقتل الرحيم..
وكنت أنتظر
واثقا من قرارها الأخير.

samedi 21 novembre 2015

لقاء

  
بينما الموت في طريقها إلى التقاط روح أحدهم، صادفت كائنا لا رائحة له ولا ظل، ولا أثر للزمن عليه..
كائنا كأنه وجهها المرعب في المرآة.
أجفلت لرؤيته..
فإما أن خللا وقع في تدبير الكون أو أن في الأمر مزحة غير مستساغة.
 فهي الموت.. لاتحتاج إلى موت آخر يشاركها مهمتها الأزلية، والمعنى الوحيد للقائها الصادم ذاك أن الموت الجديد موت لها هي.
جعلت تبكي
وتتوسل كي يرجئ الآخر مهمته إلى أجل لاحق.وفي خضم ذلك، نسيت الشخص الذي كانت في طريقها إليه..
هناك من يزعم أنه النبي نوح
آخرون يقولون إنه "الخضر"
والقلة تقول إنه شخص جميل تحلل من كل مظهر مادي كي ينشر ظله على العالم باسمه الجديد:
الفن.



 حسن البقالي 
                                                مثل فيل يبدو عن بعد
                                                    (قصص قصيرة جدا)

vendredi 20 novembre 2015



   


 اكبر من التوقع قليلا 

هل كانت الساقية الجميلة تتوقع دليلا أكثر إقناعا من أذن نازفة؟
هي التي سمعت آلاف المرات كلمة "أحبك" من رواد الحانة يلوون بها ألسنتهم، وهم في الطريق إلى المرحاض.. هل كانت تتوقع ذلك؟
..أن يقطع فان كوخ أذنه، ويقدمها لها هدية ودليلا
تلك الساقية الجميلة بالحانة الباريسية، هل كان بإمكانها، حتى في أحلامها الأكثر تفاؤلا
  
أن تتوقع ذلك؟

                   

mercredi 18 novembre 2015


الكتابة ضد العطب
"قراءة في رواية "ن.ك" للقاصة والروائية الإماراتية
 فاطمة الناهض"

حسن البقالي             




عرفت فاطمة الناهض قاصة تجترح القصة القصيرة بنفس شعري لا تخطئه الذائقة. ثم إذا هي تقتحم غمار الكتابة الروائية بعملين متتاليين يبينان عن حس عال في البناء الروائي واستنبات العوالم والفضاءات وسبر حيوات الشخوص، بما يشد المتلقي إلى حركية السرد وتناسل الحوافز بخيط وثيق.
"ن.ك" هي روايتها الثانية* الصادرة إلكترونيا وورقيا عن دار "إي كتب" للنشر الإلكتروني الموجود مقرها في لندن. رواية من 324 صفحة، يتتبع فيها السارد - ضمن خطين سرديين متوازيين- سيرورة شخصيتين نسائيتين "ميرة بوشميس" و"نورة خلفان"، خلال منعطف حاسم واستثنائي من مسارهما الحياتي.
تبدأ الرواية حين تعرف الشخصية الأولى أن الإسم المستعار "ميرة بوشميس" الذي توقع به عمودها الصحفي ككاتبة صحفية وافدة حديثا على المجال، هو نفس الإسم الذي ظلت كاتبة سابقة توقع به كتاباتها الصحفية خلال الثمانينيات من القرن الماضي، قبل أن تختفي فجأة دون أن يعرف لها أحد أثرا. تلك المصادفة التي جعلتها تنتقي اسما مستعارا مستعملا من قبل، أثارت لديها فضولا للتعرف على ميرة بوشميس السابقة، استجلاء لما يمكن أن يكون قد خفي من غوامض أمور تنكرها الذاكرة، وتأكيدا لأصالتها ككاتبة.
أما الشخصية الثانية "نورة خلفان"، فكانت رحلتها في الذات والذاكرة، حين وجدت نفسها تفيق بشكل يلامس الإعجاز، من غيبوبة دامت سبع سنين ونصف السنة، ووجدت العالم المحيط قد تغير، مما ولد لديها إحساسا بالغربة والضياع والعطب.
رواية متعددة المرجعيات، تستقي ملامحها وتيماتها من حساسيات جمالية وألوان مختلفة في الكتابة الروائية، من الرواية العائلية إلى الرواية السيكولوجية وتيار الوعي وأدب الرحلة والكتابة الصحفية.. لتؤلف من الهجانة المرجعية ضفيرة سردية مطولة وعالما روائيا خصبا بهواجس ونزوعات النفس البشرية في لحظة ضعف، ومقاومة لذات الضعف.

في التسمية:
"ن.ك"
حرفان فقط
كالتمتمة الأولى قبل النداء بالأسماء، أو آثار تبرم من أية نزعة للإمتلاك (ألسنا نملك الشئ بشكل ما حين نسميه؟) ودفع لأية شبهةِ حميميةٍ في العلاقات الإنسانية.
لقد نعى "ألان روب غرييه" الشخصية الروائية الممتلئة، ذات الملامح الواضحة والإسم وكناش الحالة المدنية.. شخصية "الأب غوريو" و" كارامازوف " التي ما عاد لها مبرر موضوعي في زمن المكننة والاستلاب والرقمية والمجهولية، بشكل فقد معه الاسم قيمته الإطلاقية التعيينية ورسوخه المطمئن بين ثنايا النص الروائي. يقول: " إن رواية الشخصيات الآن أصبحت ملكا للماضي. فقد كانت من الصفات التي تميز حقبة معينة: أعني الحقبة التي وصل فيها الفرد إلى قمة مجده"(1)
لكن هل نزعم أن فاطمة الناهض تنطلق من نفس الخلفية النظرية كدافع لاختزال الاسم (عنوان الرواية) إلى حرفين متجاورين، دون الوقوع في التسرع؟ هل ذاك الوجه الحضاري الذي عرفه المجتمع الأوروبي في النصف الثاني من القرن الماضي شبيه بما يعرفه المجتمع الإماراتي والخليجي عموما في بداية الألفية الثالثة؟
إن الشخصية الروائية لدى فاطمة الناهض ذات جذور اجتماعية وجغرافية.. لها تاريخ وأسرة ومرجعية ثقافية واضحة، لولا ما تعرضت له من هزة طوحت بها في مهاوي غيبوبة  طويلة ومنهكة ستفيق منها ضد كل التوقعات وتعيد تشكيل رؤيتها للعالم.
وبذلك لا يبدو أن الإسم في رواية  "ن.ك" يؤشر على شكل  للاستلاب والتشيؤ، بقدر ما هو قطعة على رقعة شطرنج سردي، تنقلها الكاتبة متى شاءت من التنكير إلى التعريف، أو تبثها على أرضية الرواية كعلامة سيميائية لمخاطبة وعي المتلقي الفطن، وتحضيرا للحظة التنوير.
يحضر الإسم كلعبة فنية ، يسهم ضمن جدلية للخفاء والتجلي في الاحتفاظ بالسر/ الركيزة الأساسية للتقنية التي اعتمدتها الكاتبة، حتى متم الرواية ولحظة الكشف الأخيرة، بما يقرب البنية العامة للرواية من بنية الرواية البوليسية.

الكتابة كمؤشر على العطب:
ينزع الإنسان إلى الكمال. ومجمل أنشطته الخلاقة، على كافة المستويات (الجسدية والذهنية والتخييلية) تعبير عن ذاك النزوع وترسيخ له.. ترسيخ لما يسميه البعض ب"عقدة الأمير"(2)
ولعل أهم ما يتمظهر من خلاله التحقق الفعلي للكمال/الاكتمال هو الأسطورة، حيث يكون بإمكان الإنسان أن يتغذى على مائدة الآلهة وينازعهم أهواءهم. أما الرواية فلم يعد يسعها تتبع البطولات والأمجاد في حياة الفرسان والملوك والنبلاء، بعد أن دقت دون كيشوت إسفينا في هذا المنحى، وصارت الرواية مسكنا للبطل الإشكالي والبطل المضاد والإنسان العادي غير المكتمل الذي يقف في مواجهة أشكال العزلة والاغتراب والتشيؤ.
في رواية "ن.ك" تفيق نورة خلفان من غيبوبة دامت سبع سنين ونصف السنة. لذا كان من الطبيعي أن تعاني من العطب.. العطب الجسدي والنفسي والإدراكي  والرؤية للعالم. فهي "في النهاية امرأة بذاكرة معطوبة وجسد معطوب وقلب أشد عطبا من أي شئ آخر"(3).. هي "بضاعة مضروبة من كل جانب" (4). وسماتها الأساسية الشعور بالغربة والضياع والارتباك واللاتوازن والإرهاق.
لقد انقضت سبع سنين ونصف على آخر لقاء لها مع الحياة، قضتها في غيبوية كلية، بينما ظل الزمن، ذاك النهر دائم الجريان يبصم بأثره الواضح على الناس والأشياء. عرف البلد طفرات على مستوى العمران والرواج الإقتصادي، مما كان له أثر على مستوى عيش الأسرة والتحولات التي شهدتها، انتهاء بالمفاجأة القاصمة للظهر التي ووجهت بها: زواج أختها نجلاء من زوجها هي (يوسف) اعتقادا منهما ومن أفراد الأسرة بأن نورة لن تفيق أبدا من موتها (المؤكد حسب إفادات الأطباء والقائمين على أمر معالجتها).
تحولات لم تشهدها في حينها، بالتدريج والتنامي الطبيعي للمدن والأسر. وطابع الفجائية أفقدها نقاط الارتكاز repéres واتجاهات البوصلة ، ورسخ لديها الشعور بالعطب والغربة "أشعر بغربة بلا حدود"(5). واللاتوازن "تحتشد التوقعات والأسئلة ويتشتت تفكيرها المتوقف منذ زمن طويل، بين ما كانت عليه الحياة وما هي عليه الآن وما ستؤول إليه"(6).
وإذا كان العطب الفيزيقي يقتضي مرحلة للترويض.. "لتفعيل الجسد" و"تسريع عودته للحياة" (7)، فإن المستويات الأخرى للعطب ليست أقل حاجة إلى الترويض.. ترويض في التعامل مع الذات، ومع الآخرين والرؤية إلى العالم:
"هل العالم مستعد لي؟ هل أنا مستعدة للعالم؟"(8).. تتساءل نورة وهي على أهبة مغادرة غرفتها بالمستشفى باتجاه الحياة.

الكتابة ضد العطب:
لا شئ نهائي في حياة الإنسان. حتى الموت ليس نهائيا مادامت الأساطير والأديان واليوتوبيات أوجدت له مضادا وجوديا يتمثل في حياة أخروية خالدة. ومثل الفينيق الذي ينبعث من رماده، يعاد تأسيس مدن ودول، وترميم بنيات نفسية وجسدية. من هنا، ليس العطب قدرا لنورة خلفان.. المرأة المتعلمة المعلمة ثم الصحفية التي لملمت جراحها وأعطابها لتحيا من جديد.
كان السفر إلى أمريكا وأنجلترا محطتين هامتين للاستجمام والتفريغ والبحث عن الجديد، ضمن الرحلة الأساسية المؤطرة: البحث عن الذات وإحداث توزيع جديد لسلم القيم، تبتدئ درجاته بتثمين قيمة الاستقلالية (استقلالية المرأة في مجتمع محافظ) ووصولا إلى قيمة التشاركية والانخراط في الأعمال الاجتماعية والتعاونية لصالح الفئات المحرومة، والنهوض بالمجتمع ككل.
ولئن كان السفر فعالا في ترميم العطب، فإن هناك إوالية أكثر فعالية هي الكتابة. الكتابة بكل أشكالها وتلاوينها كأهم سلاح مقاومة ضد الوحوش التي تفترس الذات، وإعادة التماسك والتوازن إليها.
لقد قال الرسام  الهولندي "موندريان" إن للفن ضرورته مالم يحقق المجتمع التوازن المطلوب. وعملت شهرزاد على أسطرة الحكاية كمضاد فعال ضد الموت. ولعل نورة خلفان وميرة بوشميس (الأم) لم تحيدا عن هذا الإطار.
 فميرة بوشميس اهتدت من واقع قراءاتها التي كانت تنسى خلالها العالم، إلى الكتابة كوسيلة لمقاومة الضغط والألم النفسيين والجسديين في ظل مجتمع ضاغط وزوج عنيف ظالم: "كانت الكتابة فعل "المقاومة السرية" الذي استطاعت به محاربة الظلم" (9). أما نورة خلفان فانخرطت في الكتابة بدءا، كخطوة علاجية، عملا بنصيحة معالجتها النفسية: "تمسك بالدفتر الذي قدمته لها الدكتورة سلوى وتبدأ كتابة ما يخطر ببالها"(10). و"المذهل في الأمر كله أنها تعاملت مع التدوين حرفيا كما ذكرت الدكتورة.. كتناول حبة أو جرعة دواء أو حقنة في الوريد وصفت لعلاجها. فبدأت تشعر بتحسن أقل ما يوصف به أنه لم يكن متوقعا"(11). هكذا تغدو الكتابة وصفة طبية ضد القلق والتوتر واللاتوازن، وتمرينا يوميا ضد العطب."تستمر في التدوين. يبدو أنه الفعل المستقل الوحيد الأمثل الذي يمكنه توفير بعض الطمأنينة وينجح في تبديد الوحدة" (12).
على أن هذه الوظيفة العلاجية للكتابة ستعدم مبررها الموضوعي ببلوغ نورة مستوى مقبولا من الصحة الجسدية والنفسية، وبذلك تصبح للكتابة وظيفة أخرى أسمى تتمثل في إضفاء معنى على الوجود: "بعد عام كامل من الكتابة في صحيفة "الصباح"، بذلت فيه أقصى ما استطعت لأضع قدمي على الطريق الصحيح ويصبح لي دور ولوجودي هدف ومعنى أوسع وأكبر من مجرد العيش يوما بيوم"(13).

التوازي كلعبة سردية:
ميرة بوشميس ونورة خلفان هما الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية، بهما مناط السرد وعليهما "تدور الدوائر". فأية علاقة تجمع بين الإثنتين؟
هذا السؤال في الحقيقة هو أكبر مقلب وضعته الكاتبة فاطمة الناهض في طريق المتلقي، موظفة في ذلك – كعوالم مساعدة- علامات الترقيم والضمائر السردية ورسم الكتابة...
ففيما يتعلق بالرسم، يلاحظ أن ما يهتم بميرة ورد بأحرف مشددة، بينما خصصت أحرف عادية لتتبع حياة نورة..
ومن حيث علامات الترقيم، لجأت الكاتبة إلى خدعة نقطتي التفسير كمعبر من ميرة إلى نورة، بما يوحي في البداية للمتلقي بأن نورة شخصية روائية من اختلاق ميرة، ويجعله إزاء لعبة للمرايا المتقابلة أو لعبة للأثر النهائي حيث كل شاهد مشهود في نفس الآن.
وفيما يتعلق بالضمائر، الملاحظ أن الكاتبة خصت ميرة بضمير المتكلم ونورة بضمير الغائب، لنخلص بشكل تطبيقي إلى ما ذكره "ميشيل بوتور" عن أن ضمير المتكلم ليس في الرواية غير ضمير الغائب الذي تعود إليه الضمائر الأخرى المستعملة على سبيل المجاز: " إن أبسط الصيغ الأساسية للرواية هي صيغة الغائب، وفي كل مرة يستعمل فيها الكاتب صيغة أخرى يكون ذلك على سبيل "المجاز"، فعلينا ألا نتقيد بها حرفيا، بل أن نردها إلى صورتها الأساسية المضمرة."(14).
فكل من الضميرين في "ن.ك" يعودان على نفس الشخصية، لأن ميرة بوشميس كما يتضح في النهاية ليست غير نورة خلفان، "شطرتها" الكاتبة شطرين وأودعت كل شطر طريقا موازيا للآخر.. الأول يسافر إلى لندن والثاني إلى بورتلاند. هذا يبئر على العطب النفسي والفيزيقي والثاني على العطب الوجودي. الأول يرمم الأعطاب والثاني يبحث عن معنى للوجود ودور أكبر في الحياة.. قبل أن ينعطف الخطان المتوازيان في نهاية الرواية ويلتقيا في خط واحد هو خط الحياة التي لا تتوقف.
ولنقل إن السمات الشخصية لنورة خلفان هي أقرب إلى سمات ميرة بوشميس الأم، بينما ميرة بوشميس الإبنة هي نورة خلفان بشكل أكثر نضجا وعافية وسواء نفسيا (أليست الأحرف التي تتناولها مشددة كما ورد آنفا؟).

خاتمة:
إذا كان الدكتور شكري عزيز الماضي يعتبر أن الرواية العربية تدرجت ضمن مسارها عبر ثلاث حلقات: الرواية التقليدية- الرواية الحديثة- الرواية الجديدة(15)، فأي موقع تحتله "ن.ك" إذا ارتأينا أن فضاءها الروائي فضاء لاهتزاز القيم وشيوع اللايقين، ضمن مبنى متماسك ومحبوك كسكة الحديد؟ هل تهتز حلقات الرؤية وتتداخل المقومات ما بين الحداثة والجدة؟
ما يمكن الجزم به في كل الأحوال أن الرواية العربية ربحت إضافة في اسم فاطمة الناهض.
----------------------------------------

هوامش:

·       الرواية الأولى بعنوان "خط الاستواء" منشورات "إي كتب" لندن-2012
1) نحو رواية جديدة- ألان روب غرييه- ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى- دار المعارف مصر.ص:36.
2) انظر كتاب "عقدة الأمير" (مقاربة سيكونسقية)- عبد الكريم غريب- منشورات عالم التربية-1998
3) رواية "ن.ك"- فاطمة الناهض- منشورات إي كتب- لندن- 2013- ص:153
4) نفسه ص:273
5) نفسه ص:155
6) نفسه ص:104
7) نفسه ص:95
8) نفسه ص:137
9) نفسه ص:319
10) نفسه ص:133
11) نفسه ص:134
12) نفسه ص:158
13) نفسه ص:195
14) بحوث في الرواية الجديدة- ميشيل بوتور- ترجمة فريد أنطونيوس- منشورات عويدات بيروت. ص:63
15) انظر كتاب "أنماط الرواية العربية الجديدة"- د. شكري عزيز الماضي- سلسلة عالم المعرفة 355- سبتمبر 2008- من الصفحة 7 إلى الصفحة 19.









القط يلعب بالبكرة ، ينسل خيط العمر

حسن البقالي: 10/12/2013

dimanche 15 novembre 2015








بعث

حين غرقت في طشت ماء
غسلوا أيديهم بي
بشهقتي الأخيرة
وبقايا حلم
وبفكرة مجنونة ظلت لاصقة بالقحف
كختم غريب
وحين مسحوا أيديهم
في منديلك المطرز
كنت تعرفين أتك
حالما تضعينه تحت حمالة الصدر
أتنفس الحياة من جديد
                                                حسن البقالي: 22/12/2014

vendredi 13 novembre 2015

                الجد الأول في شجرة الأنساب

في زمن قديم
قديم جدا..
حين كان الإنسان يلثغ بالكلمات الأولى، عساها تسعف في رسم حدود للعالم
حين كان الماضي غائما، ولم يكن للمستقبل اسم
حك شخص به بعض نباهة صدغه، وألقى للآخرين بالكلمات التالية:
"قبل غروب واحد.. الطريدة..وأنا.."
اقتربوا منه أكثر، على سحناتهم آثار اهتمام غير مسبوق، فتحفز للمزيد من القول:
" الطريدة.. وأنا.. الريح الشرقية.. كتمت الأنفاس.."
شئ ما حدث ذلك اليوم
غريب وجميل وخطير أيضا
كأن الزمن اعتقل لفترة تحت جدار الحلق، والعالم صار برأسين
كأنها الخطوة الأولى على أرض موعودة وواعدة بالمسرات
الخطوة التي ستمهد لحديث المجالس، وكائنات الخرافة والملاحم وروايات الباروك   وتشيخوف ومونتيروسو..
التي أدين لها بوجودي الآن
ككاتب للقصة القصيرة جدا، يرنو إلى اللآتي
فيما الذاكرة مشدودة بخيط مرهف
 حتى الجد الأول في شجرة الأنساب.

                     حسن البقالي :قط شرودنجر                         

jeudi 12 novembre 2015

                                                                                                                                                                     العشيقة
هل هي طبعة مزيدة ومنقحة، أم أنها الطبعة الأولى والأخيرة، وما عداها مسودة للأيام القادمة؟
هب أن العشيقة هي القصة القصيرة جدا، هل معنى ذلك أن أي جنس أدبي آخر مجرد نسخة باهتة ونجم باتجاه الأفول؟
أسخر ممن يتنبأ بموت الرواية فقط لأنه يلهث خلف نبض القصة القصيرة جدا.
              حسن البقالي

 غروب


كانت الشمس قد شارفت على المغيب حين عددت العرافة العجوز مناقب الفتى الذي يعرض أمام فراستها خطوط كفه:
ستقدم على الحياة بقلب جسور, وتتقاطع لديك سبل الحياة بالشعاب الرهيبة لدم القتل..ستحطم قلب كل امرأة أغرمت بك, وتعتلي قمة تنظيم هرمي يكون الرعب فضيلته الأساسية, وتعيش وحيدا..وحيدا كلعنة خالدة.
أعرف ذلك بيقين..
باليقين نفسه الذي أعرف به أولى ضحاياك: عرافة عجوزا قرأت لك الكف ذات غروب.
اعترى الفتى بعض شحوب, ذلك أنه أدرك بفظاظة متعالية, أن يقين المرأة هو يقينه الذي لن تبلبله صروف الحياة, والدليل: المدية التي يستلها الآن من ردنه..والتي تظاهرت هي بعدم رؤيتها.
هوت الشمس دفعة واحدة..
ولم يسمع  للمرأة صوت.

       حسن البقالي من "الرقص تحت المطر"
                    قصص قصيرة جدا

mardi 10 novembre 2015

                                                بؤس النقد
يبدأ الناقد من حيث ينتهي الكاتب. فعلى الكاتب أن يموت كي يحيا الناقد.. هي ميتة مؤقتة طبعا، ما دامت حياة الناقد انبعاثا للكاتب، وولادة ثانية له.. هكذا يصير كل نقد حقيقي حياة مزدوجة.
لكن، لكي يصير كذلك، على الناقد ألا يخلط بين الكاتب وأثره، لأن خلطا مماثلا قمين بأن يقذف به في مناطق ظلال ومطبات، أقلها حضور الذات المثقلة بتبعات إشراطات خارج نصية، وبالتالي فقدان أية موضوعية مرتجاة.
والنقد أكبر من مصافحة عابرة
إنه لقاء وتحاور وتجاوز.. لقاء بين رؤيتين واستراتيجيتين ومرجعين وأفقين.. قد يصل حوارهما إلى تناغم أو خصام، لكنه لا يفضي أبدا إلى قطيعة.
هو لقاء ثنائي يستحضر الطرف الثالث والضروري: القارئ. بذلك تصبح القراءة النقدية حلقة وسطى.. جسرا بين قطبين. وبعد أن تكون رائية تصبح مرئية، آخذة بذلك بعد الشهادة.
جميل بالنقد أن يفتح مسارب للإبداع، نصيرا للطلائعية والخرق والتجاوز، ومبشرا بكل إبداع جميل أو وعد بذلك.. لولا أن ذلك يقتضي حدا أدنى من النزاهة الفكرية ولذة الافتتان بالجميل أيا كان مصدره، إلى غير ذلك من السمات المميزة المفتقدة الآن، عموما.. افتقد النقد بعده التبشيري الداعم، ليكتفي بالشهادة، وأية شهادة.
هي شهادة مجروحة..
لأن من إفرازات الزمن الردئ نقادا كبقّالي الحي، لا يرون أبعد من سحنات الجيران.. يتحولون في عز الدعاية (النقدية) إلى أبواق لمرشح الحي (الكاتب الصديق أو النديم أو ابن المنطقة..) أو مرشح السلطة (الكاتب المؤازر بسلطة ما أيا كان شكلها: حزب أو صحيفة أو جمعية..) أو مرشح الوعد (وعد بلذة ما، أو غنيمة)
وأيا كان الوضع، فهو في النهاية نقد يحمل عورته حيثما حل وارتحل، دون أن يبالي.. لأنه نقد بدون حياء أو ماء وجه. وهو في غمرة لامبالاته تلك، لا يدرك أنه يمر بجانب أعمال إبداعية كبيرة، لصالح النبش في أعمال المقربين والمرتجين، مهما بلغت من هزال.. هكذا ينسجم القارئ والمقروء، وتعلو الضحالة كل أفق، فتطرد العملة الرديئة العملة الجيدة من سوق الكلم.
وهو نقد ضحل..
يتحدث عن المضمر والعميق والمستتر، فيما لا يتجاوز الظاهر ولا يغنم أبعد من القشر.. يعوض افتقاده للعمق الفكري والوضوح المنهجي المستند إلى خلفية فكرية أو فلسفية، بالهذر وتفريخ الكلام، درجة التكرار المعيب.. يعوض الخطوة المتزنة المتروية في بحثها عن الحقيقة الأدبية باللهاث، وركام الورق الذي لا يخلف أثرا، والذي لا يصلح في النهاية إلا قراطيس لدى باعة الزريعة.. فطوبى لكم، باعة الزريعة بنقاد الكيلو.
كما أنه نقد مرتبك، نزق ومتسرع.. يناقض تحليله مقدماته المنهجية (حين يفصح عنها)، فيما لا تستند تصنيفاته ونمذجاته إلى أساس علمي أو فكري مقنع، فيشرع في توزيع الألقاب والقبعات عسفا واعتباطا.. وغالبا ما يسقطه هوسه بادعاء المعرفة في أخطاء معرفية وخلط في أسماء الكتاب..
وهو في الأخير نقد أصم.. لا تترك له عجرفته أن ينصت إلى أي انتقاد، أو قراءة للقراءة.. بل كل انتقاد هو في نظره جنحة تقتضي وضع صاحبها –إن كان مبدعا- في ثلاجة المبعدين والمقصيين والمغضوب عليهم.. ينسى أن الزمن كشاف، وأن الشمس لا يحجبها الغربال، مهما بلغ الغربال من خبث وتطاول ورغبة في تحريف الوقائع وقلب الخرائط..
إنه بكل بساطة نقد بئيس في زمن بئيس.
                            حسن البقالي
هناك من يتوهم أنه كاتب كبير، فقط لأنه يملك هيكلا عظميا كبيرا، أو موقعا على النت يحمل اسمه..مع أن الوهم ذاك أقل الآفات الأخلاقية التي يحملها في صندوق باندورا خاصته.. ويأتي من يتحدث عن الربيع العربي؟ لن يحدث ذلك بحق حتى نثور على الذات نشطفها من دهون الخسة والحقارة والضغينة.
                                   حسن البقالي 17/06/2012

lundi 9 novembre 2015

شرب الموسيقى
كتابة القصة



"لنفترض أن لدينا فندقا بغرف لامتناهية ,يقيم بها زبناء بعدد لا متناه أيضا ..
كيف نتيح لمجموعة لا متناهية من الزبناء الجدد أن يقيموا في ذات الفندق ذي الغرف اللانهائية والزبناء اللانهائيين الأصليين؟"

والفندق ليس غرفا فحسب..
الفندق مقصف أيضا..
وبالمقصف نزفت جراح وتصافحت نظرات غير بريئة وصدح الأرغن بنوتات تسدل شراشف بهيجة على أسرّة الروح.
أضواء خافتة تضفي على الفضاء سحر الكهوف الأولى, تكسرها بين الفينة والأخرى اشتعالات للأحمر الباذخ ..يباغت إغفاءات العيون المسدلة على غوامضها , فتتسع الحدقات باحثة عن بعضها البعض وتتحفز الجوارح لاقتراف الغوايات.
ومثلما يعبر وليّ ذو كرامات مبهرة فوق الماء, تمر أنامل العازف على لوحة الملامس بالشكل الذي يتيح للهواء أن يتوزع بمقدارعلى أنابيب الآلة ويرسل الصوت المبتغى الذي يحاكي دهشة البدايات.
يستمر للحظاتٍ دبيب واحد الخلية في نسغ الأرض , ثم يتدفق الأحمر المباغت على أرجاء المقصف مصحوبا بغرغرة للأرغن شبيهة بأنّات ماموث سينقرض بعد حين.
عندها يقول الرجل الذي تعتعه السكر دون أن يدرك ذلك :
- بإمكاني الآن أن أكتب القصة .
فيرد عليه الرجل الآخر الذي تعتعه السكر أيضا دون أن يدرك ذلك :
- تلك القصة المزعومة عن ساحر للمنطق والرياضيات يدعى "رايموند صموليان" يتحدث عن فندق بعدد لامتناه من الغرف وزبائن لانهائيين...
- بالتأكيد أيها المعتوه..ماذا تعتقد؟
- أعتقد أنك لن تكتبها أبدا, فقد كُتبت كل القصص التي تحتملها الأرض واكتملت دورة الجنس.
يتأفف الرجل الأول ويلتفت جهة عازف الأرغن قائلا:
- أصمت قليلا وأصخ السمع..لو تعلمت أن تشرب الموسيقى عوض أن تدلق في بطنك صناديق لا متناهية من الجعة, وتنطق بالتفاهات..
بدا العازف كما لو أنه يتهيأ للذروة..ألقى بظلال رأسه إلى الخلف, ووضع قدمه على الدواسات المعدة للإستقبال, وانطلقت الأصابع تعربد فوق اللوحات والمفاتيح ليضج المقصف بنوتات تسل صيصان الروح من بيضتها الفاسدة..
- يا للروعة
صاح أحد الرجلين وهو يقوم من مقعده..أرسل قبلات في الهواء باتجاه العازف , و التف على نفسه .. ترنح يكاد يهوي , ثم تهاوى بكتلته على المقعد.
- لماذا جلست؟
- كي أشرب
- لماذا قمت إذن؟
- كي أرتاح من الشرب
- والقصة؟
قصة عن السحر والجنون
عن موسيقى الأرغن المتلاشية عبر أقبية المسام ..
لكن ما قيمة السحر والجنون والموسيقى والغرف اللانهائية دون امرأة؟
فلتكن قصة عن المرأة
لكن ما قيمة المرأة دون رجل يراها ويكمل حكايتها؟
لتكن إذن قصة عن المرأة والرجل وموسيقى الأرغن والسحر والجنون..
قصة..عن رغوة الحياة..
- أين سرحت؟
- خلف امرأة من كلمات..
- أفضلها من لحم ودم..هاهاها ..
- يبدو أنك سكرت
- بل أنت من سكر..أعرف ذلك حين تشرع في الحديث عن القصة, فأنت لم تكتب قصة واحدة في حياتك..
أطرق الرجل الأول..
ولو تفرس الثاني في عينيه الخفيضتين لرأى التماعة دمعة تحت الرموش وظلال حسرة دفينة..
غمغم كأنما يحدث نفسه:
- أتعتقد أنني لا أعرف ذلك يا صاحبي..لست موهوبا بما يكفي كي أكتب قصة رفيعة , لكني لا أترك لهذه الحقيقة أن تمنعني من الحلم..
استمع الآخر الى صاحبه حتى النهاية, أمسك بيده في ود, وقالا لبعضهما:
- هيا نغادر.
كانا يعرفان أنها حبة الوجع الأخيرة للأرغن, يعقبها انسلال العازف باتجاه الظل.. سيخرجان الآن كي يسبقاه الى الباب الجانبية حتى إذا أطل بأنامله الرفيعة وعينيه الدامعتين لذكرى بعيدة,ربتا على روحه بإيماءة مّا او نظرة سريعة,ثم يمضيان في طريقهما..يفترقان بدورهما على قارعة ما, وقبل أن يُغيّب الباب الرجل الثاني, يفكر لمرة أخيرة في القصة التي لم يكتب أبدا:  

"أحلم بأرغن يتأوه لذة تحت أنامل امرأة جميلة, في مقصف فندق بغرف لانهائية وزبائن لا نهائيين.
سيصدح الأرغن أيضا بموسيقى لانهائية
والمرأة مضاعفة بلا حدود كحور الجنة..
 سيكون لدي الدهر كي أشهد على ذلك
وأكتب القصة المبتغاة ."
                  


                  من المجموعة القصصية " الإقامة في العلبة"