mercredi 21 décembre 2016


بداية
حسن البقالي: تمنيت كتابة «المرايا والمتاهات» لبورخيس





لكل منا بداية.. وما أجمل البدايات.. محبة أول كتاب قرأناه.. وفرحة أول جائزة.. كُتاب تركوا فينا بصمة لا تمحى.. وكلمة شجعتنا على مواصلة الطريق.. أصدقاء وأفراد من الأسرة احتفوا بنا وآخرون تمنوا لنا الفشل.. وعبر رحلة الكتابة تولد طقوسنا ومزاجنا الخاص
النهار تحتفي هنا بتجارب المبدعين وبداياتهم.. وفيما يلي دردشة مع الكاتب حسن البقالي

هل تذكر أول كتاب وقع في يدك؟

 لا أذكر تحديدا أنا الذي يملك قدرة فائقة على النسيان لكن المرجح لدي أنها إحدى
 الروايات المصرية (لإحسان عبد القدوس أو يوسف السباعي أو نجيب محفوظ) التي كانت تتفضل دور نشر لبنانية بنشر وتوزيع نسخ تجارية عنها ساهمت في التعريف بالإنتاج الروائي المشرقي في المغرب. ومن هنا تلك المقولة التي سارت زمنا في البلاد العربية والتي مفادها أن مصر تكتب ولبنان ينشر والمغرب يقرأ

جائزة أو كلمة شجعتك على مواصلة الطريق

 أكبر تشجيع لقيته هو أصداء ما نشرته لدى قراء الشبكة العنكبوتية.. وجدت الأمر شبيها، إلى حد ما، بالوقوف على الركح في مواجهة الجمهور بشكل مباشر، حيث لا مجال إلا للحقيقة، قبل أن أتبين أن الحقيقة مجرد وهم

كتاب ترك بصمة مهمة عليك؟

أقرأ لكي أنسى.. لكني أعود دوما إلى بورخيس الذي أعتقد بأن القصة بلغت لديه أسمى ما يمكن أن تبلغه كفن

متى وكيف نشرت أول نص لك؟

 أول ما نشرت قصيدة بعثت بها إلى جريدة المحرر التي كانت تصدر آنذاك عن الاتحاد الاشتراكي.. نشرت ضمن صفحة للأدب الشاب. كان ذلك في أواخر سنة 1978

كيف تفهمت أسرتك رغبتك في أن تصبح كاتبا؟

 أنا من أسرة تؤمن بالدين، لا بالأدب. يعرفون فقط بأني أكتب (القصص) دون أن يقرؤوها. ابني لطفي هو الوحيد الذي يتابع ما أكتب بحب كبير واهتمام أكبر. ثم إن الكتابة تحمل قيمة رمزية في مجتمعاتنا، حيث تهتم الأسر بالمستقبل المهني للفرد. في حين تبقى الكتابة قدرا يعاش بشكل فردي كالموت ومسلكا للعزلة

هل هناك أصدقاء شجعوك؟

 في السنة الأولى ثانوي، أذكر أني قرأت السراب لنجيب محفوظ وكتبت عنها تلخيصا، اطلع عليه صديق لي وزميل دراسة فطرح علي السؤال: عوض أن تكتب تلخيصات لما تقرأ، لمَ لا تكتب؟ فكانت البداية

ما هي طقوسك مع الكتابة؟

 لا طقوس سوى أني أفضل الكتابة في المقهى، وعلى الورق المسطر، حيث أسود بقلم أسود أو أزرق في درجة ثانية، وأعيد التسويد مرارا قبل الاقتناع بالصيغة النهائية للعمل

تجربة أول كتاب نشرته؟

أول كتاب هو مجموعة سبعة أجراس لزمن البرتقال نشر سنة 19911 من قبل اتحاد كتاب المغرب بمناسبة فوزها بـ جائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب في نسختها الأولى. كانت تجربة ناجحة من كل الوجوه، إحداها أني عرفت من خلالها ككاتب استحق أن يفوز باعتراف من المنافسين على الجائزة

ماذا تعني لك الجوائز؟

 الجوائز فرص لتطوير الاشتغال ضمن الحقل مجال التنافس، ورد بعض الاعتبار لـ ممتهني حرفة الأدب، لولا أن ملابسات منح الجائزة لا تسلم دوما من الأذى، مما يجردها من كل رفعة. إننا في حاجة إلى جوائز تشرف عليها الملائكة

كتاب كنت تتمنى لو أنت كاتبه؟

المرايا والمتاهات لبورخيس

عمل تخطط لإصداره قريبا؟

 منذ زمن، لدي فكرة كتابة رواية.. أرى أن العهد طال بالفكرة ولما تكتب الرواية بعد. لعل القصة القصيرة جدا أفسدتني، أو ربما الإحساس باللاجدوى

حكمتك التي لا تنساها ككاتب؟

اقرأ وانس.. اكتب ومت.

jeudi 15 décembre 2016


 النهد                   


  
لقد اعتبر على الدوام أن النهد أروع أشياء العالم
لذلك تخصص في التجميل.. يتوسل بالسليكون أو الماء المالح وآخر التقنيات ومقاسات الجسد، في تكبير نهد و تصغير آخر.
الآن.. في عمره المتقدم
يعرف أنه بلغ نهاية الرحلة.. مثلما يعرف أن المرأة التي قصدته البارحة لتصغير نهديها العظيمين، فرصته الأخيرة
أوصى مساعديه
وبذلك التواطؤ اللذيذ الذي يصل بين رفاق الرحلة الطويلة، عملوا على تيسير انتقاله البهيج:
شق النهد بضربة مشرط عاشق
وببطء.. ومتعة لا يقاسان، تدلى عبر الشق
ومن موقعه الدافئ ذاك.. بين جدران من قطن ومخمل، جعل يتابع دبيب الخيط يرتق الشق، وعلى الشفتين بسمة خاثرة.




                                                                قط شرودنجر
                                                              (قصص )
                                                             

mardi 4 octobre 2016

جمال







القطار جاثم بالمحطة..
ورفيقة المقصورة حركت جوانحي.
طافت عيناي على فطيرة الجسد وقالتا لها : كم أنت جميلة.
فرد حزنها : بل أنا كائن جريح.
انتبهت إلى الجرح الغائر الذي يشق جبلا من الحزن ..اقتربت من فوهته وارتميت..
غصت عميقا..حتى صرت الجرح و المرأة والريشة في مهب الريح والقاتل والمقتول..
آنذاك أدركت جمالي..
وصفر القطار معلنا وقت الرحيل.

                                                                 
 الرقص تحت المطر
(قصص قصيرة جدا)
   

          

samedi 24 septembre 2016

    تشونغ تسو والفراشة
                            (قراءة في علبة الباندورا لأنيس الرافعي)
                                                                          حسن البقالي



  "ما يأتي إلى هذا العالم دون أن يعكر أي شيء ليس جديرا بأي اعتبار أو حلم."
                                                                      رينيه شار
   "يكفي الرافعي قصا أنه من "حمّل" التمثال ما لا يطيق".
                                                                        حسن البقالي

نبض قصير:
علبة تحلق فوق البهو المعتق للميثولوجيا, كي تصنع من رقصة البرشمان حكايتها.
ريحها الدافعة التجريب.
ونوابضها لغة من حناء ونثار ملح وعصير ليمون دافئ.
أيها القارئ الذي ضل طريقه,ألم تجد غير هذه العلبة تفتحها؟ ألم تسمع عن الحيوان الأخضر آكل الحجر؟
آراء ملزمة لدخول العلبة:
"إنه قدر جديد للقصة يتشكل أمام أعيننا بمهابة "
لا أجد أفضل من "حفنة الضوء" هاته التي قذف بها الفنار الباهر للشاعر محمد الصابر في وجه أمواج القص المتدافعة في "علبة الباندورا"..فليس مصادفة أن تكون أول جملة سردية في العلبة, هي هذه الزخة من قصة "التراغم": (كل شئ ليس على ما يرام).فكل شئ في القصة القصيرة ليس على ما يرام بالنسبة لأنيس الرافعي , لذلك وجب هدم الهيكل القديم, وإعلاء هيكل آخر بناءً على تخطيطات هندسية ورياضية لا تترك مجالا للصدفة والإرتجال.
فالرافعي لا يتهور بالركض مطأطأ الرأس في مضمار لا يعرفه.. لقد قرأ التضاريس جيدا ودرس الأفق, وتحسس أضواء الكتّاب الذين يجدر به الإنتساب إلى مضاربهم. يقول ذات حوار:" بل أحيانا أحس بيقين صلب لاتساوره ذرة شك واحدة أنني أرجنتيني الأصل ومسقط الرأس، لكن عن طريق الخطأ المحض ولأسباب غامضة تقع في ذمة الغيظ سقطت عموديا في هذه الجغرافيا الحمقاء لأصبح من الجالية القصصية الأرجنتينية المقيمة في المغرب.." 
فقد اكتشف ذات يوم كاتبا اسمه خوليو كورتزار, وجعل منه "خويا كورتزار" ..دون أن ينسى في الواقع أبناء عمومته الأقرب جغرافيا: أعضاء "الأوليبو" l’oulipo : l’ouvroir de litterature potentielle  أي "مشغل الأدب الكامن" الجماعة الأدبية التي عملت على المزج بين الأدب والرياضيات, من أجل خلق أدب جديد, لا يني يضع لنفسه إكراهات على شكل قواعد جديدة يعمل على تخطيها , من خلال تمارين أسلوبية وعقد حفلات قران لأزواج من الجمل الشعرية ليس بينها سابق تعارف, ولعل أهم تعبير عنها ديوان "مائة ألف مليار قصيدة" les cent milles milliard de poemes  ل"ريمون كينو" raymond quenneau  أحد مؤسسي الأوليبو.
لذلك عندما يُنظّر الرافعي لمجموعته الثالثة ضمن العلبة, من خلال البرشمان كتقنية للخياطة التقليدية, فإن ذلك لن يمر دون التذكير بالأوليبو ما دام (l’ouvroir) يستدعي معنى "مشغل الطرز والخياطة", لكنه يصبح هنا مشغلا بملامح مغربية أصيلة وبمفاتيح تخييلية تحرث في أرض الفانطاسي والحلمي بما يشكل قطيعة مع "الميراث الثقيل للواقعية".
إن أنيس الرافعي وهو ينجز تمارينه التخييلية, لا ينطلق فقط من رؤية فنية جمالية للجنس الأدبي (أو ضد الجنس الأدبي على الأصح), بل هناك خيط ناظم لجماع تجربته السردية التجريبية, يستشف كموقف من العالم متأرجح ومتذبذب عاطفيا بين حدّيْ العزلة عن العالم والإنخراط فيه.على أن هذا الإنخراط يتم وفق آليات سيكولوجية وفلسفية تجعل منه تركيبا للأطروحة والنقيض, يحمل واقعه الجديد مثلما تحمل السلحفاة بيتها الصخري.حيث تبدو الصورة في المحصلة النهائية على الشكل التالي:
فضاء مغلق    ------           تفقد الآخر     ------                  تفتيت اللغة
(عزلة الذات)   ------            (عبر شطر الذات)     -----         ( المعادل الآخر لإنشطار الذات)
الذات الساردة فى الفضاءات المغلقة:
إنها العلبة..
ذاك الفضاء التشكيلي القاسي والمغلق دون الجهات الأربع, الذي يجد بطل أنيس الرافعي نفسه داخله في الغالب الأعم: غرفة نوم, مقهى, قاعة عرض سينمائي, قاعة انتظار أو برميل "شبيه بكماشة او فخ".. ثم يبدأ السرد في الإنبلاج من أفق الكلمات كي يستوي سحرا وتصير العلبة الشكلَ التربيعي للأوفاق منجزا بسماق متبحر في شؤون السيميا..
"باكرا في آخر الليل وفيما يشبه مداهمة بوليسية محكمة أو خبطة مباغتة بمطرقة باردة على الصدغ, كان من المفروض أن يُنتزع السيد ريباخا من نومه السميك جدا على وقع الرنين الصاخب والفظ للمنبه.." يقول السارد في قصة( السيد ريباخا جزيرة عائمة ص:85)
(...كأني نَحّيت إلى أبعد مسافة ممكنة يقظتي التي أخفقت مسدسات القهوة السوداء في إطفاء أنفاسها الأخيرة وتدهورتُ صوب نوم مضمون فوق القميص الداخلي للسرير, إلا أنني في حقيقة" الوصف" كنت فحسب أغفو بعينين مفتوحتين داخل حجرة عيني المغلقتين) يقول في قصة أخرى: ملاحظات حول الصور الفوطوغرافية ص117)
فهل الفضاء المغلق للحجرة هو الذي يفرض نوعا من العزلة على بطل المجموعة, أم أن عزلته موقف من العالم (كما ورد سابقا) سابق على الحجرة وعلة لوجودها؟
مهما يكن من أمر فهو غالبا ما يطالعنا على نفس الوضع: مضطجع يطلب نوما عسير المنال, أو يفيق منه, أو غارق فيه ينسج من بنية الحلم او الكابوس "12 مترا مكعبا من الأدب" (باستعارة عنوان المجموعة القصصية التي تحمل نفس الإسم )  (12 métres cube de litterature للكاتب الفرنسي رولان فوينتيس.
على أن العزلة في العلبة ليست مصيرا نهائيا لا رجعة فيه, أحيانا يجرب البطل مغادرة الغرفة إلى العالم الفسيح لولا أن العاقبة غالبا ما تكون وخيمة: يجد رأسه المقطوع في قاع بحيرة, يتحول إلى خروف أو حمار أو شجرة..أو يتهشم كقطعة فخار. لذلك يفضل الكاتب إبقاءه في الداخل ضمانا لبقائه, مع اللجوء إلى آليات سيكولوجية للتعويض والحفاظ على شعرة معاوية مع "الخارج", من قبيل التعدد والإنشطار وخلق المضاعف..(الملاحظ أن صورة الكاتب نفسه على ظهر الغلاف ترسخ هذه الآليات حيث الصورة صورتان من زاويتين متقاربتين)
في قصة "الآخر" لبورخيس, يجلس السارد على مقعد بحديقة عمومية, فإذا الرجل الذي يجالسه على المقعد هو النسخة الأخرى منه, مع فارق الزمن..وهنا كان طبيعيا أن يتلون الحوار بين الإثنين بمجريات الزمن الذي يجد الشخصان/الشخص نفسهما في موقعين مغايرين منه.. بينما الوضع مختلف بالنسبة لأنيس الرافعي ..فالمضاعف في علبة الباندورا ينسل من داخل الذات في حركة شبيهة بانشطار الخلية, إذ هناك دائما "شخص مغرض يقطن بالداخل, وكلما خاصمتَه افترى عليك جيدا بالاستيهامات المدمرة" (من قصة التبرمل).
إن الإنشطار هنا وليد حاجة إلى قول شئ ما .لذلك فهو يلبي حاجة اجتماعية لدى الشخصية الموغلة في العزلة والرافضة في العمق لعزلتها..كما أنه محفز على السرد وذريعة لتناسل الاستيهامات المستشرية في جسد الحلم والفانطاستيك.
فلق رأس اللغة:
هل يمكن إنتاج نصوص ما "بعد سردية" دون لغة ترفع على أكفها بلاغتها الخاصة الواقعة في حدود ما بعد البلاغة؟
يقول السارد في قصة "الريباخا جزيرة عائمة":
" حتى يخيلَ لكم لوهلة أولى أنه يزعق برصيد صبر ضامر مثل معتوه حقيقي, ثم يخيلَ لكم كرة ثانية أنه يعيد الزعيق عن ظهر قلب مثل معتوه حقيقي آخر برصيد صبر أقل طالبا من كل حدب وصوب وبإصرار عير قابل للنقاش.."
إنه نموذج للكتابة السردية لدى أنيس الرافعي , بما تنسجه من علاقات جديدة للمجاورة أو المشابهة, ومن شهية المحكي لأن يعيد حكي ذاته, مما يجعلنا إزاء أسلوب خاص في الكتابة ينزاح باتجاه جزر غير مطروقة وصادمة لأفق انتظار القارئ.. فانشطار الشخصية طبيعي أن يوازيه انشطار في اللغة وفلق لرأسها حتى تدمع منها العيون ..وحتى يبدو الأمر أحيانا كما لو أننا إزاء طفل يمارس هواياته المفضلة في اللعب.. يقول في قصة التراتل : " شديد الإنزعاج من الوريد إلى الوريد, و بالغ التوجس جملة وتقسيطا وتفصيلا وخياطة" ..
يتذرع انيس الرافعي بهذا الجانب اللعبي لخلق توازناته السردية المحدثة , حيث تتناوب الضمائر الحكيَ دونما أدنى حرج, من المتكلم الى المخاطب والغائب, ومن المفرد الى الجمع.. كما تتناوب أزمنة الفعل (الماضي والمضارع) - وبشكل لا يقل فداحة- المواقع بينها , بينما تتناسل التوصيفات أحيانا اعتمادا على جناسات تصحيفية وتداعيات للأفكار.."..عرضة للصهد والعرق والضيق والظلام والعطش والعري والرائحة النتنة والأوكسجين الناقص والمثانة المحتبسة.." (قصة التبرمل).
"قطعة ثمينة مني تتقاطع وتتشابك وتتشارس وتتضارى وتتفاتك وتتناهش وتتهارش وتتقاتل وتتدامى بلا هوادة مع الآخرين.." (قصة التراتل).
يبدو الأمر في النهاية كما لو أن فضاءات السرد مساحات خضراء ممتدة ومنذورة لأن تمارس فيها مجموعة من الجراء لعبتها في التنطط واالركض والفرح, فيما هي تمارس وظيفتها الأساسية: النمو.
وإذا كانت المسارات الفانطاسية للتخييل في علبة الباندورا لا تتوقف عن إنتاج "سمكات الدهشة حتى لا تكف عن التنفس في أكواريوم" جسد المتلقي, فإن اللغة ليست أقل إدهاشا وإمتاعا ومؤانسة.
نبض ثان:
إن الرافعي ليس كاتبا فحسب, بل "مكتوب" (بالمعنى الدارج وبكل استطالاته في المخيال الجمعي)..مكتوب لا يمكن إلا أن يحيق بقارئ القصة, الذي عليه أن يلحد ذائقته التقليدية في دغل ما , كي يتمكن من لقاء الكائنات السردية التي تعمر العلبة, بالحب المفترض.
وإذا كان ريمون كينو قد بنى روايته "الورود الزرقاء" فوق رخامة حكائية, تحكي حيرة الصيني تشونغ تسو وهو يتساءل إن كان هو الذي يحلم بالفراشة أم أن الفراشة هي التي تحلم بأنها تشونغ تسو, فهل أنيس الرافعي هو الذي حلم يوما بالقصة التجريبية أم أنها هي التي –وعبر تجلياتها المنفلتة- حلمت به ذات إنجاز لما بعد السرد وقالت له: أنت أنت.

jeudi 22 septembre 2016


 الوردة






شق جسدي
وجعل ينزع الأعضاء من مواضعها: الكليتين، والكبد، والطحال، والأمعاء والرئتين..
كان ثمة إحساس عارم بالخواء، ودوخة
ثم فطنت إلى أنه ما يزال في موضعه، لم يمسه أذى..قلت:
- دع لي قلبي، رجاء.
كان ينبض ما يزال
وكان شبيها بوردة بكر نابتة في  الصحراء، تعرض بتلاتها للعالم بشكل يدعو إلى الامتنان.



                                                                   قط شرودنجر     
                                                                                                                       

lundi 19 septembre 2016



                                 لحم التيوس المر              


ثم يقبل الرجل عليك..
يقبل باسما ويقول لك : اقتله.لم يكررها ثانية ولم يزد عليها حرفا آخر ..كلمة  واحدة انخلعت من أعطافه كبناء منهار وأوقعتك تحت الردم ..لكنك لم تفاجأ كلية
ولم تتسمر مكانك مذهولا مشلول الحركة ، كأن الأمر طبيعي ، كأنك توقعت في لحظة صفاء واستبصار نادرين ما يحدث الآن : رجل زئبقي بملامح مطاطية يقبل عليك باسما مثل زلزال باذخ ، وتعرف أنك ملزم بهذه الخطوة الضرورية  والأخيرة كي تجتاز روحك العتبة الفاصلة بين الخير والشر بشكل نهائي ، كي تتحرر ..
اقتله.
قال في نبرة آمرة غير قابلة لأي استئناف ..
« أقتل من ؟»  أردت أن تسأله لكنه اختفىمثلما لاح  -  فجأة ..استحال إلى ذرات غير مرئية وبقيت بسمته في عينيك ، ماكرة واثقة وحبلى بالفخاخ ، وكلمته في حلقك كأنها كلمتك التي صعدت أخيرا إلى النور بعد أن ظلت تصطفق زمنا في غياهب  الأعماق .
كنت قد قطعت شوطا في هذا الدرب الجديد باذلا نفسك لقنافذ بحر بلا ضفاف ومؤمنا بألا سبيل إلى عودة غير ممكنة ، ولم يكن ينقص اللوحة إلا دم القتل .
حلمت كثيرا خلال  ليالي موجعة بمشاهد دامية تكون فيها تارة قاتلا وأخرى قتيلا ، تفيق بعدها،في كلتا الحالتين،  مخضبا بدم لامرئي، مفزوعا راجفا، تتمثل لون الحياة الأحمر وهو ينسل من الجسد الفوار بعد الطعنة، والصيحة المصاحبة  لذلك، والمنكرة أن تكون ساعة الحقيقة قد دقت ..هل يقتنع الإنسان فعلا بشكل راسخ وعميق بأنه سيموت في يوم ما ، أم يظل طول حياته يمني النفس بأن الموت هي ذلك الشيء الذي يحدث للآخرين فقط ، يزوغ عنه مثلما كانت تزوغ الشمس عن الكهف خلال تلك الرقدة الطويلة الخارقة  للمألوف ؟
نجمة ما ستهوي ..
ويد ستضرب دون رحمة .
فهل تقوى على ذلك يدك التي لم تألف لحد الآن غير الأقلام ، يد محرر في السلم الثامن من الوظيفة العمومية؟
بضع اجتماعات تنجز عنها تقارير مقلمة الأظافر ترفع إلى الرؤساء بالعاصمة ، وتطمئنهم إلى أن كل شئ على ما يرام ، وتنتهي مهمتك ..سنة كاملة للفراغ  لكنك موظف ، للإحساس بالعبث واللاجدوى  لكنك تتقاضى راتبا وتلبس بذلة وربطة عنق ، تقول لهناء وفضيلة : صباح الخير فتردان صباح الخير ، وتسألهما عن حال العمل وأنت أدرى به ، ثم تجلس خلف المكتب تفكر في منعطف يغير مسار حياة بليدة .
كنت تفكر في جلساتك الطويلة خلف المكتب ، في السطو على أحد الأبناك ..ترثي لحال اللصوص الحقيرين الذي يعترضون طريق رجل كادح يهددونه بالسلاح  الأبيض من أجل بضعة دراهم ، أو يتربصون بركاب الحافلات «ذباب يقع على ذباب»  كنت تغمغم في قرف ، تأمل أن تصادف بعضهم في منعطف معتم وتقودهم في عمليات كبيرة وناجحة ، لكنك كنت تنام في العراء وحيدا معزولا ، لم تتح لأحد أن يطل على برقوق استيهاماتك الذي لم ينضج بعد ..تدخل في آخر كل شهر إلى الوكالة البنكية لاستلام راتبك الهزيل ، ومع كل فطفطة لفرخ صدرك الموجع دعاء صادق بألا تجد أمامك واحدا من أولئك الذين يتصرفون في أرصدة خيالية ( لا تجرؤ على امتلاكها حتى في الأحلام
ويشعرونك بغبن دون حدود ، تهرب براتبك الهزيل ، تهرب بأفكارك ، ثم تقعي خلف المكتب  تخطط  لغزوات ظافرة جديدة  ، تنتهي في الغالب - وبشكل غير منسجم مع مسارها الناجح - بدم مراق على رصيف بارد.
استيهامات تفيق منها لتصطدم بعربات حياتك التي تراوح نفس المكان ، بمدارات الفراغ وأزيز أرض لن تلبث أن تقذف بأحمالها باتجاه ظلام الأزمنة .
قلت : سأعود إلى أكل اللحم .
تلك الخطوة الأولى  والزاد الضروري لرحلتك المضنية ، رحلة الإنزلاق على قشور الموز ..تعود إلى أكل اللحم بعد أن امتنعت عنه طوعا لمدة سنوات ..
منذ أن تحول أخوك محمد إلى تيس.
غاب عنكم أربعة أيام ، عاد بعدها في حالة إنهاك جسدي ومعنوي قصوى ، ولم يتح له أن يحكي لكم ما حدث ..دخلتم عليه الحجرة فوجدتم مكانه تيسا بنيا صقيل الفرو ، بعينين ذاهلتين وقرنين عموديين كعلامتي تعجب ، غمغمت أمك التي لا تصدق عينيها :
محمد ..هل أنت إبني محمد؟ فرد التيس :
مااع .
حك قرنيه بالدولاب وسالت من عينيه الذاهلتين كرتان بلوريتان، خطفت أمك رجلها إلى فقيه بالحي، ثم عادت برقية وماء مطلسم ، وجدت الصغيرين عبد العظيم وأنس يلفان حول التيس في حركات راقصة وهما يرددان :
أخونا محمد صار تيسا
أخونا محمد صار تيسا.
نهرتهما وعلقت الرقية  بعنق التيس ، ثم دارت على أركان البيت والأبواب ترشها بالماء المطلسم عسى أن يعود محمد إلى صورته الأولى ويفك الله تلك الغمة ...وستزور بعد ذلك عدة فقهاء وعرافين وتأخذ معها التيس الباكي إلى «بويا عمر»  تقيم هناك ثلاثة أيام لتستعطف الأولياء والصالحين وتنتظر الإشارة ..دون جدوى.
أخلت لمحمد قبوا تحت الدرج  كان معدا للمهملات، تكنسه يوميا من الفضلات وبقايا النخالة أو الشعير، ثم تضع الأكل الجديد، تشيع التيس بنظرات قتيلة وتنسل إلى غرفتها تستر عنا نزيف الجرح .
لم يكن عبد العظيم وأنس يريان من الأمر سوى مظهره  المسلي  ، ذلك التجسيد المرئي لحكاية متخيلة من زمن غابر ولو أن بطلها التراجيديوبفعل إضمارات زمنية خالقة للإلتباس -  يعتبر أخا لهما بشكل من الأشكال ..ولم يكن يجعلني أعي فداحة المصاب سوى نظرات أمي القتيلة وذلك الذبول الذي صار مثل نبات شيطاني في حقل مهمل، يغزو قسماتها وحركاتها ..أصدق أن التيس هو أخي الذي حلت به لعنة سماوية لخطيئة لا تغتفر، اجترحها هو أو أحد الأجداد، لكني أعود إلى الإعتقاد بأن الفرو مجرد قناع، وخلف المظهر الحزين للتيس يختفي وجه أخي بملامحه
المعروفة، يضحك من سذاجتنا ويصر على إطالة عذابنا .
لكنه  فر من حياتنا إلى حيث لا ندري .
خرجت أمي إلى تجارتها ، وبقيت مع الصغيرين في البيت ..ألحا على ان أتركهما يلمسانه ، ثم تطور اللمس إلى شد من القرنين وجر من الذيل مع سؤال لا يفتر : هل أنت أخونا أيها التيس ؟ انطق إذا كنت أخانا..كان باب البيت مشرعا ، وضوء أبيض يتسرب من الخارج كنداء لا يرد..ضرب التيس بقائمتيه جدار القبو ثم قفز فوق أجسادنا باتجاه الباب .
سقطت أمي طريحة الفراش ، وغنت في هذيانها المحموم لطفل في المهد لا يكبر أبدا ولا يفارق ثديها..غنت في شجى وبكت في  لوعة، هي التي رزئت في ابنها بذلك الشكل بعد أن فقدت زوجها بزمن يسير.
كان أبي قليل الأكل ، يردد بأن ليس هناك أفظع من «بطن ملئت من حلال» ، بأن الأكل يستدعي الشرب ، والشرب يجلب الكسل والحاجة إلى النوم ، ولم يكن أبي ينام كثيرا .
آه..أبي..«اليوم فقط ستموت بشكل نهائي ، سأدفنك في هامش منسي تحت قحف الجمجمة ، وأشق طريقي بالشكل الذي أرتضيه
قلت وأنت تومئ إلى حمروش بأن يأتيك ببيرة أخرى ..وحمروش الذي يدرك بأنك لم تعد شارلي الذي يعرفه أتى بالبيرة في صمت ثم جال بنظراته -  في تحليقة طائرعلى الطاولات المؤثثة للحانة ، والمؤثثة بدورها  بالزجاجات وعلب السجائر والكلمات المتقافزة من الأفواه كفئران اصطناعية سريعة العطب ، يدرك بأنك تمر بمحنة لا يفقه عمقها ، تجعلك  تخلع قشرتك الملساء المعهودة ، وتستبدل بها جدارا متوجا بقطع زجاج جارح..عاد أدراجه باتجاه  الكونتوار، فيما شيعته بنظرة مشبعة بحقد لا تدري منبعه .
عدت إلى المنزل، وفتحت النافذة تطل منها على الشارع الساكن ، وإذ شعرت بامتلاء المتانة ، صعدت على كرسي يحيث يصبح نصفك السفلي في مستوى النافذة ، وبلت ..بلت على الشارع والآخرين، على المكتب الذي تشتغل فيه والعيون المشدودة إلى التلفزيون ، على الشريفة الحمقاء التي تطرد الريح عن الزقاق لكنها تجلب الكلاب إليه، وماضيك الذي تريد الإنسلاخ من إساره ..كنت تبول وتشعر كما لو أن رذاذا يغسل روحك بسعادة غامرة
قالت أمك :
لهفي على تيسي الذي هرب ، لن يكون مصيره سوى الذبح، ومن يدري ، قد يكون لحمه من نصيبي ونصيب إخوته، ويلي .
ولعلها جعلت تتخيل أنها تأكل لحم ابنها الذي قطعه الجزارون إربا إربا ووزعوه على  الدور..كل الدور تأكل لحم التيس الذي كان ابنها تستمرئه ،أما هي فقلبها سيخبرها ومعدتها لن تقبله ، ستلفظه في الحين مثل عضو مزروع يستنكره  الجسد  ...لكنها ستكون قد قضمته بأضراسها ، قد بلعته ، أكلت إبنها، يا ويلها .
لن آكل اللحم أبدا .
قالت في نبرة حاسمة .
وكنت تتصور الجثث المسلوخة المعلقة في دكاكين الجزارة تتبين من بينها جثة أخيك ...ثم وجدت نفسك تتوه بخيالك بعيدا وتعطي للقضية حجما أكبر «من يدري ، لعل أناسا آخرين حدث لهم نفس الشئ، وهم الآن -  مثل أخي -  معروضون في دكاكين الجزارة على انهم تيوس أو خرفان، أوووه»  عنت لك وجوه تعرفها ، مدلاة من خواطيف الجزارين وباكية بدمع سري ..
أنا أيضا لن أكل اللحم أبدا .
صحت مؤازرا أمك  التي رنت إليك في امتنان ، ومؤكدا لنفسك أنك أصبحت قادرا على اتخاذ القرارات..
«لكن إلى أي مدى يتسع هذا المنفى الذي اخترته في لحظة  اندفاع ، وأي بند قانوني مكتوب بماء الذهب يفرض علي الإلتزام بحلف أخرق ؟»  قصدت الشواء توا ، ودخلت مجال القرار المعاكس.
ثم أقبل الرجل عليك .
كانت مياه كثيرة قد مرت تحت الجسر ..قلت  لنفسك :«هذه لحظة كنت أترقبها ، لكن من يكون القتيل ؟» أردت أن تسأله قبل أن تدرك اختفاءه ..كنت تفكر في سلام الغالي حين بزغ  الرجل أمامك وقال :
اقتله .
« ذاك هو القتيل إذن»
غمغمت ..وجعلت تتخيل المشهد الدامي.




                                                           ماء الأعماق                                     

vendredi 16 septembre 2016

التطواس
أو تطويس النص القصصي عند إدريس خالي




هل للقاص عينا بومة تربض فوق الدار، وتتابع الماجريات والأحداث بالشغف ذاته الذي يلهو به الأطفال؟
وكيف للبومة أن تصنع لنا طاووسا؟
سؤالان من ضمن أسئلة عديدة استثارها لدي الرجوع، في الآونة الأخيرة، إلى مجموعة إدريس خالي القصصية التي تحمل عنوان "فوق دارنا بومة"، بما يجعل منها مجموعة حية، متنامية، وجارية مثل غدير على كف قرية.. تنسل فيها الموتيفات الحكائية بسلاسة، وتتقد جذوات النص بفعل التداعيات، مع كل جملة قصصية أو وحدة سردية، بشكل يجعل النص بضا ساخنا حتى الآخر، ويجعل من الكتابة تطويسا.
"أنا لن أتطوس لأحد، ولن أطوس غير هذا النص. لكل واحد منا حايط يطوسه. يشذبه. ينقحه" ص 15
إن التطواس بهذا المعنى تشذيب وتنقيح.. هو "إزالة أشجار ونباتات الغابة لجعلها صالحة للزراعة والتشجير المثمر" ص 15. وإذا كان أمبرتو إيكو يعتبر النص السردي غابة يتنزه فيها القارئ، حين يجترح فعل القراءة، ويبحث عن الممرات التي تقود إلى المعنى، فإن النص عند إدريس خالي غابة في طور التحول، حيث تصير كل كتابة اشتغالا على الواقع والمعطى من أجل الارتقاء به وتحويره.. فكل نص مجال لتجميع الأصوات والتصاديات، لكن، كل نص هو بالمقابل، مجال للحذف والإزالة والتشطيب.. حذف الما كان من أجل الذي سيكون.. محو للقديم لتدبيج الجديد.. قتل للغصن من أجل إحياء العكاز. "هذا النص عكازي.. أريد أن أكمله" ص 29.
كما أن التطواس لا يمكن أن يستقيم معنى دون الإحالة إلى الطاووس، بما يجعل من النص افتتانا واستعراضا للمفاتن.. أي افتتانا وفتنة.. فكل نص وهو يتخلق، يتوجب عليه أن يخلق أدواته الجمالية القمينة بإثارة وفتح شهية/شهوة القارئ. "سلطانة تطوست وجاءتني والقمر يتبعها" ص 15.
والتطواس بمعنى آخر (الأقرب إلى الذهن والإستعمال اليومي) هو "ضريب الطاسة" أي مقارعة الكأس وانتباذ الزجاجة والعربدة وإراحة العقل. أي أن على النص بهذا المعنى ألا يلتحف بالعقلاني فقط، والواقعي و"الحرفي".. بل عليه الاغتراف من اللاوعي الفردي والجمعي، ومن الحلمي واللعبي والفانطاسي الخارق للمألوف ومنطق الأشياء كما هو متعارف عليه مجتمعيا.
صحيح أن المجموعة تنهض بمحاذاة هذه العوالم الفانطاسية، إذ هي مجموعة لالتقاط اليومي (البدوي أساسي) والإغتراف من الذاكرة، لكن النصوص المؤثثة هي نصوص سكرى تبوح بسهولة وتتمادى في البوح، تماما مثل مرتادي الحانات.
التطواس في الأخير هو الاستعاضة عن الحياة بالكتابة.. التطواس عزلة الكاتب وغربته، في مجتمع لا يدرك جدوى الكتابة، ولا يقبل على القراءة.."أنا لا أفهم لمن يكتب الكتاب ولا لماذا يكتبون.... اعذرني يا يوسف إن قلت لك إنني لا أطيق قراءة صفحة واحدة. أنا أحب المرح والأكل واللباس." ص 63.
---------------------------------

  • الإحالات من المجموعة: فوق دارنا بومة.. منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة- 2011