vendredi 26 août 2016


جدلية الانغلاق والانفتاح
(قراءة في مجموعة الجسر لعايدة النوباني)
                                                              حسن البقالي





1) الجسر بين الانفتاح والانغلاق:

ضمن الحقل الدلالي الذي تنظمه المناصات لأجل اجتذاب القارئ، ورتق ما تشقق من جسد المعنى في ثنيات النصوص، يبرز العنوان كضربات المطرقة الأولى قبل انكشاف الستٌر.فالعنوان أول طعم ينصبه الكاتب في طريق القارئ، وقد أسكنه بهمّ وظيفي، إحالي أو توجيهي نحو مسارات بعينها.لكنه يقوم أحيانا بوظيفة مضادة..يأتي مفارقا، مضللا ومتوجها نحو مسارات دلالية نقيضة لدلالات النص/النصوص.
فكيف حاكت الكاتبة الفلسطينية المقيمة في الإمارات، عايدة النوباني "جسرا" لمجموعتها الأولى الصادرة خلال السنة الحالية (2009) في طبعة أنيقة؟*
غير خاف أن الجسر يرمز إلى الانفتاح والآفاق المديدة. فهو صلة بين فضاءين، عالمين وثقافتين.. فضاء للتلاقح والتبادل وتمتين الوشائج.. بفضله بنيت حضارات واغتنت ثقافات، وهلت نسائم التجديد وتهوية الموجود.
والقصة التي تحمل عنوان "الجسر" ومنحت المجموعة عنوانها أيضا، تحتل الصدارة، من حيث الموقع (وسط المجموعة) أو الحجم (أطول قصص المجموعة) أو من حيث الزخم النفسي والدلالي، بما يقدم للكاتبة إمكانية تبرير اختيارها، إن كانت في حاجة إلى تبرير.
إنها تحكي بمنظور ارتكاسي استرجاعي بداية الشتات الفلسطيني، لحظة طرده المحتل من أرضه، واضطره إلى مغادرة المنزل والقرية ودفء الأهل والتاريخ، محدثا بذلك جرحا في الذات والهوية وسؤال المصير.." الجسر الخشبي يهتز.أمي تحمل بعض الأمتعة على رأسها، وتمسك يدي بشدة.كنت مذهولا مما يحدث حتى أنني لم أصرخ، بل لم أشأ أن أنبهها إلى أظافرها المغروسة في يدي، فقط بعيون مليئة بالدموع، وكلمات مخنوقة ما بين القلب والجمجمة همست: "ليتنا لا نذهب""(1).
يغدو الجسر رديفا للمعاناة والألم، ومعادلا لسجن مفتوح على عوالم التيه والتشرد..يغدو جسرا بالسلب، لا خلاص بعده، إذ لا خلاص منه (إلا من خلال الكتابة).فالشاب الذي كان طفلا زمن الخروج، بقي أسير الماضي وذكريات البلدة والجدة وتراب الأرض، وقواه التخييلية ظلت رهينة ذاكرة ممتلئة بشكل يجعل من الكتابة رحلة تنفيسية استشفائية.."وحده الجسر الخشبي يسكنني، وكأنه انتهاء الكتابة وابتداء الفراغ في وحدتي الصاخبة.." (2).
إن الجسر كفضاء مفتوح ليس في النهاية سوى صورة مفارقة لحقيقة الوضع النفسي والفيزيقي الذي يشد إلى إطاره شخوص المجموعة، والذي أهم سماته الانغلاق:
" رافقت الأب العجوز مغلقة الباب خلفهما.الدنيا لا تزال مغلفة بالصمت والعتمة، وهو يقف بصمت متأملا السرير الفارغ" (3).
"لكنه دخل وأغلق الباب بهدوء ليفصلنا عن العالم" (4).
إنه الإحساس بالانفصال عن العالم، والرغبة في الاحتماء داخل غرف معتمة وصامتة..هل الأمر يتعلق بهروب من تجارب طفولية يطبعها الغصب والقهر، أو من راهن لا يقل غصبا وقهرا؟
كيفما كان الأمر، فإن جدلية الداخل/الخارج هي في النهاية جدلية الحياة/الموت، حيث الداخل المغلق، المعتم والصامت..الرحم الأمومي الباعث على الطمأنينة والأمان، مقابل الخارج، الموار الصاخب، موطن البلايا وأشكال الموت..
أحيانا، وضدا على النزوع الحمائي لشخوص المجموعة، ومثلما يذهب الجبل إلى محمد، يقتحم العالم الغرفة، فيما يشبه العدوان.بما ينفي التعارض بين الداخل والخارج، ويصبح كلاهما الشئ ونقيضه..هكذا تنثال التداعيات والصور الدموية لمقتل الشهيد محمد الدرة من خلال الشاشة الصغيرة، فتغرق بالأحمر القاني الغرفة ومؤثثاتها والشخصية وعوالمها الذهنية.."الدم ما يزال ينسكب من الشاشة إلى جدران الغرفة، يقترب من جسدي الملقى بتعب المفاجأة والحزن على أحد المقاعد، يسقط الشعر من يدي، أسقط أنا من ذاكرتي، أحاول استعادة النطق، أحاول أن أصرخ، لكن الدم يكبل صوتي..."(5).
إنه انسكاب الوعي المتأجج، والتوتر الناجم عن المجابهة الحتمية بين الوقائع الفادحة للعالم الخارجي، والذات المستبطنة للوقائع بوعي شقي محتدم رغم المحاولات الظاهرية للانغلاق والتوحد بصمت الغرف والجدران.

2) الإطار الاجتماعي للانغلاق:

العلاقات الاجتماعية علاقات معقدة، تتنوع عبرها الأدوار والوظائف بتنوع الأطر والسياقات.لكن اللافت للنظر أن الإطار المهيمن كحاضن للعلاقات داخل مجموعة "الجسر"، هي إطار المؤسسة العائلية، وفي حدود أضيق الإطار المصغر للأسرة النووية..حيث يحتل الزوج/الزوجة مجمل المساحة العلائقية والوجدانية، يأتي بعد ذلك وبنسب أضعف، الأولاد، الأم والأب، الأخت، الجدة..
"ربما هي زوجتي التي بدأت تصبح أجمل بعيدا عني.ما أدراني؟" (6).
"وكنت أتناول عشائي برفقة زوجي الذي التقت عيناي بعينيه عدة مرات.." (7).
"كم وددت أن أقفله ثانية وأذهب للنوم بجوار زوجي حتى الصباح لكني كنت أعرف أنني لن أفعل. (8).
كما لو أن الأمر يتعلق بخاصيتين متلازمتين: الفضاء المغلق الذي تجسده غرفة داخل المنزل، والإطار الأسري للعلاقات داخل المجموعة..إحداهما تستدعي الأخرى، تشترطها وتسندها وتشكل معها طرفي العلاقة السببية التي تفرغ منطق الأشياء على طبيعة الفضاءات.
على أن البعد الزمني يلعب دوره أيضا في تحديد نوعية العلاقات الاجتماعية. فالزمن زمنان داخل المجموعة:
زمن الراهن والقصة الأصلية، حيث العلاقات بين الراشدين (علاقة زوجية، أخوية..)
وزمن الطفولة والقصة الفرعية التي تنسل حكيا من خلال تقنية الاسترجاع، حيث تتخذ العلاقات شكلا رأسيا (طفل/أب أو أم، حفيد/جدة).
وإذا كانت علاقات الطفولة محكومة بنوع من الحنين والدفء والإحساسات اللذية عموما ، فإن العلاقات الزوجية غالبا ما يطبعها الصراع والجفاء واختلاف الموقع والانتماء أيضا..
"- ما كان يجب أن نتزوج
- والطفل؟" (9).
"وأنا قابعة في سرير بناتي أتمنى ألا يعود زوجي إلى بيته الليلة، وربما جميع الليالي التي تليها.." (10).
ويتخذ الأمر صبغة دراماتيكية حين يوصم الزوج بالخيانة، واضعا بذلك العلاقة الزوجية على محك الانتماء للوطن، فتضطر الزوجة إلى التضحية به وتسليمه لكتيبة الإعدام..

3) الهم الوطني وتكسير البنية

كون عايدة النوباني فلسطينية يعني أنها من حيث الهوية والثقافة والتاريخ مسكونة بالبعد الوطني والانتماء للقضية الفلسطينية..مسكونة بستين عاما من الاحتلال..بالصورة الفظيعة لمقتل الشهيد محمد الدرة أمام أنظار العالم..مسكونة بلحظة الخروج باتجاه الشتات وأفق العودة..لذلك تحمل المجموعة عنوان "الجسر"، وتبتدئ ب "ستون عاما"، حيث التيمة الأساسية هي الوطن..الوطن المسلوب، الغائب فيزيقيا، لكن الحاضر أبدا كتمثل وجزء من الكيان والهوية وقطعة من الوجدان..
"ستون عاما والدروب لا تسألني عن اسمي..ستون عاما والحروب تسكنني، أكون أو لا أكون..."(11).
فأول جملة سردية تبدأ بها المجموعة محكيها تفتح باب الجرح النازف  على مدى السنين الستين، ثم تبدأ التداعيات واشتغال الذاكرة. والملاحظ أن الكاتبة قاربت موضوعة الوطن بكثير من "الحذر" السردي ، بوصفها كتابة على حدود التماس  بين الأدب والسياسة، الإبداع والهتاف، البناء الهادئ للمحكيات والقذف بالكلام الذي يشبه الرصاص..إنه حكي مسؤول، يعتمد لغة الإيحاء والإشارة، ويقبض على عنف الأشياء والوقائع بالهدوء المحايث للعمل الإبداعي.حتى العدو لا يحتاج إلى تسمية و أطنان عبارات من قاموس الكراهية والشتم..فهو إما أشهر أو أحقر من أن يسمى " يقول أبي إنهم سيهدمون البيت إن عرفوا أنك تزورنا، لكنني ما عدت أهتم.لن أدعهم يحرسون رحمي، طفلي سيكون قراري أنا.." (12).
في ظل الشتات وغياب الوطن، يصير الحبيب، الزوج مرادفا للوطن "آه مريم يا وطني الجميل" (13).
وفي ظل الشتات  تقتات الذات على عشب الحلم والأمل في العودة التي تعيد الأرض إلى أصحابها والماء إلى مجراه  "سنلتقي ذات يوم قرب مائنا العذب.نسقي أشجارنا كلها وننتصر." (14).
ولعل الأمل في العودة هو ما يكسر بنية الانغلاق المهيمنة على المجموعة، ويفتحها على شساعة الآتي والغد الأفضل..

الهوامش:
الجسر- قصص- عايدة النوباني ..منشورات مركز أوغاريت الثقافي رام الله.2009
1) قصة الجسر ص: 47
2) نفسه ص:55
3) قصة ليل ص: 32/33
4) قصة صراع ص:23
5) قصة صورة ص:17
6) قصة ستون عاما ص:8
7) قصة عشاء ص:15
8) قصة صراع ص:27
9) قصة الجسر ص:54
10) قصة مريم ص:71
11) قصة ستون عاما ص:7
12) قصة ليل ص: 34
13) نفسه
14) نفسه ص:33




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire