mercredi 31 août 2016


     في الحوارات الثقافية والشهادات التي يقدمها الكتاب والنقاد المغاربة عن القصة  المغربية، يلاحظ وقوعهم في إسار نظرة أصولية للمشهد القصصي، مقرونة    بغياب الجرأة في الطرح وإبداء الرأي والشهادة.
   إنهم يركنون إلى الأسماء المكرسة منذ الستينيات والسبعينيات من القرن  الماضي،  مثل برادة والخوري وزفزاف وبوزفور.. وكأن بعد ذلك العماء  والجدب..   وكأن  عقارب القص توقفت ولم تنجب العديد من القصاصين الذين أثروا ويثرون  المشهد  القصصي المغربي والعربي حتى الآن..
    وحين يتم تجاوز الأسماء سالفة الذكر والتكتم عما عداها، يسقطون في مطب    آخر: الإغتراف من الأسماء المحيطة بالذات الشاهدة من أصدقاء وأقارب  ومن  يرجى منهم منفعة..
    وفي كلتا الحالتين، تكون الشهادة مثلومة وفاقدة للمصداقية.. تكون شبيهة    بشهادة زور.

mardi 30 août 2016

أغنية للفرح

Résultat de recherche d'images pour "un homme qui se noie"


كل ما أذكره انها الرابعة صباحا
في الشارع الطويل الخالي من الأنفاس والموزع بين عتمة زرقاء وضوء مصابيح شحيحة:
جسد فاره
معطف وقبعة وزجاجة في اليد
ونوتات بيانو لتمجيد الفرح.
الجسد الذي لا نرى إلا ظهره يتقدم في الشارع بخطوات متلعثمة. وحين يشرف في نهايته على الشاطئ تصدح الموسيقى بفرح زائد.
يطأ الرمل ويواصل تقدمه، فكأن النوتات وقع أقدام راكضة، والصوت الثمل الذي يرافقها الآن بشارة.
هو الماء حيث يسافر البلل صعودا في الجسد، وحيث الجسد الذي لا يعيق تقدمه البلل، ثم..
لا شئ
غير قبعة طافية فوق الماء
وحسرتي على الرجل الذي لم أر وجهه، لكن، الذي عرفته خلال الفسحة الضيقة أكثر مما أعرف الجار..
الذي بلغ منتهى السعادة هذه الليلة

وأدرك دون شائبة أنها اللحظة الأنسب للرحيل.



                          قط شرودنجر
                                        (قصص )

dimanche 28 août 2016



 قراءة كالغليان



                           
     وقد اعتكف شارلي الليلة على قراءة الكتاب.. هوى إلى بئر الشيطان عبر دركاته الأبنوسية دركة دركة ، وكان عقله يومض ومضات خاطفة مثل مصباح على وشك الإحتراق، ودمه يصطخب بين الأضلاع مثل أمواج حائرة بين المد والجزر وحانقة ..يتريث أحيانا لينصت إلى احتدامات طين يطفح بأنفاس الخلق الأول ووشوشة إغواء على فراش النوم تسفر عن حروب ضارية وبساتين للدم وقرع طبول وبذور خديعة ..يود أن يقذف بالكتاب بعيدا وينأى عن فظاعاته ، ويود أن يركنه جهة القلب عهدا لا ينقض ..يفور دمه كالقدر ويسيح باتجاه قارات سرية وممنوعة .
    ربما لأنه لم يحب الكتب أبدا ، يعاقب الآن بهذا الكتاب الجميل حد الفظاعة ، الفظيع إلى الحدود القصوى ، يحترق بجمره ونتن الجيفة الذي ينز من معنى الكلمات ...يقضمه نسيرة نسيرة ، ويعوي مثل ذئب ..في الأحشاء جمر ودخان احتراق وعوالم مضاءة بشحوم خنازير برية .. كتاب للفتك .. كتاب / أسد لن تحتويه أقفاص المكتبات ، يثب من أحراش الذات المرسلة ملفعا بالأشرطة الحمراء ولهاث الغابات ، باتجاه المناطق المعتمة حيث الغرائز الأولية
الخام للذات الأخرى المنتقاة للعب دور التلقي .
«
من انتقاني ، أنا أحمد بن سيدي محمد بلفقيه الملقب بشارلي لقراءة هذا الكتاب، كتاب جورجيوس الأبيض الملقب بابن الشيطان والنزول عبر دركاته إلى جحيم الروح ؟».
شربه حتى الثمالة ، في ليلته البيضاء تلك ، وعوى مثل ذئب البراري ، فقد عرف ذلك السر الذي لا مبدأ له ولا منتهى ، الذي هو الجوهر الأول لكائنات الأرض .
تبين طريقه وعليه أن يتعلم المشي.

رواية ماء الاعماق

vendredi 26 août 2016


جدلية الانغلاق والانفتاح
(قراءة في مجموعة الجسر لعايدة النوباني)
                                                              حسن البقالي





1) الجسر بين الانفتاح والانغلاق:

ضمن الحقل الدلالي الذي تنظمه المناصات لأجل اجتذاب القارئ، ورتق ما تشقق من جسد المعنى في ثنيات النصوص، يبرز العنوان كضربات المطرقة الأولى قبل انكشاف الستٌر.فالعنوان أول طعم ينصبه الكاتب في طريق القارئ، وقد أسكنه بهمّ وظيفي، إحالي أو توجيهي نحو مسارات بعينها.لكنه يقوم أحيانا بوظيفة مضادة..يأتي مفارقا، مضللا ومتوجها نحو مسارات دلالية نقيضة لدلالات النص/النصوص.
فكيف حاكت الكاتبة الفلسطينية المقيمة في الإمارات، عايدة النوباني "جسرا" لمجموعتها الأولى الصادرة خلال السنة الحالية (2009) في طبعة أنيقة؟*
غير خاف أن الجسر يرمز إلى الانفتاح والآفاق المديدة. فهو صلة بين فضاءين، عالمين وثقافتين.. فضاء للتلاقح والتبادل وتمتين الوشائج.. بفضله بنيت حضارات واغتنت ثقافات، وهلت نسائم التجديد وتهوية الموجود.
والقصة التي تحمل عنوان "الجسر" ومنحت المجموعة عنوانها أيضا، تحتل الصدارة، من حيث الموقع (وسط المجموعة) أو الحجم (أطول قصص المجموعة) أو من حيث الزخم النفسي والدلالي، بما يقدم للكاتبة إمكانية تبرير اختيارها، إن كانت في حاجة إلى تبرير.
إنها تحكي بمنظور ارتكاسي استرجاعي بداية الشتات الفلسطيني، لحظة طرده المحتل من أرضه، واضطره إلى مغادرة المنزل والقرية ودفء الأهل والتاريخ، محدثا بذلك جرحا في الذات والهوية وسؤال المصير.." الجسر الخشبي يهتز.أمي تحمل بعض الأمتعة على رأسها، وتمسك يدي بشدة.كنت مذهولا مما يحدث حتى أنني لم أصرخ، بل لم أشأ أن أنبهها إلى أظافرها المغروسة في يدي، فقط بعيون مليئة بالدموع، وكلمات مخنوقة ما بين القلب والجمجمة همست: "ليتنا لا نذهب""(1).
يغدو الجسر رديفا للمعاناة والألم، ومعادلا لسجن مفتوح على عوالم التيه والتشرد..يغدو جسرا بالسلب، لا خلاص بعده، إذ لا خلاص منه (إلا من خلال الكتابة).فالشاب الذي كان طفلا زمن الخروج، بقي أسير الماضي وذكريات البلدة والجدة وتراب الأرض، وقواه التخييلية ظلت رهينة ذاكرة ممتلئة بشكل يجعل من الكتابة رحلة تنفيسية استشفائية.."وحده الجسر الخشبي يسكنني، وكأنه انتهاء الكتابة وابتداء الفراغ في وحدتي الصاخبة.." (2).
إن الجسر كفضاء مفتوح ليس في النهاية سوى صورة مفارقة لحقيقة الوضع النفسي والفيزيقي الذي يشد إلى إطاره شخوص المجموعة، والذي أهم سماته الانغلاق:
" رافقت الأب العجوز مغلقة الباب خلفهما.الدنيا لا تزال مغلفة بالصمت والعتمة، وهو يقف بصمت متأملا السرير الفارغ" (3).
"لكنه دخل وأغلق الباب بهدوء ليفصلنا عن العالم" (4).
إنه الإحساس بالانفصال عن العالم، والرغبة في الاحتماء داخل غرف معتمة وصامتة..هل الأمر يتعلق بهروب من تجارب طفولية يطبعها الغصب والقهر، أو من راهن لا يقل غصبا وقهرا؟
كيفما كان الأمر، فإن جدلية الداخل/الخارج هي في النهاية جدلية الحياة/الموت، حيث الداخل المغلق، المعتم والصامت..الرحم الأمومي الباعث على الطمأنينة والأمان، مقابل الخارج، الموار الصاخب، موطن البلايا وأشكال الموت..
أحيانا، وضدا على النزوع الحمائي لشخوص المجموعة، ومثلما يذهب الجبل إلى محمد، يقتحم العالم الغرفة، فيما يشبه العدوان.بما ينفي التعارض بين الداخل والخارج، ويصبح كلاهما الشئ ونقيضه..هكذا تنثال التداعيات والصور الدموية لمقتل الشهيد محمد الدرة من خلال الشاشة الصغيرة، فتغرق بالأحمر القاني الغرفة ومؤثثاتها والشخصية وعوالمها الذهنية.."الدم ما يزال ينسكب من الشاشة إلى جدران الغرفة، يقترب من جسدي الملقى بتعب المفاجأة والحزن على أحد المقاعد، يسقط الشعر من يدي، أسقط أنا من ذاكرتي، أحاول استعادة النطق، أحاول أن أصرخ، لكن الدم يكبل صوتي..."(5).
إنه انسكاب الوعي المتأجج، والتوتر الناجم عن المجابهة الحتمية بين الوقائع الفادحة للعالم الخارجي، والذات المستبطنة للوقائع بوعي شقي محتدم رغم المحاولات الظاهرية للانغلاق والتوحد بصمت الغرف والجدران.

2) الإطار الاجتماعي للانغلاق:

العلاقات الاجتماعية علاقات معقدة، تتنوع عبرها الأدوار والوظائف بتنوع الأطر والسياقات.لكن اللافت للنظر أن الإطار المهيمن كحاضن للعلاقات داخل مجموعة "الجسر"، هي إطار المؤسسة العائلية، وفي حدود أضيق الإطار المصغر للأسرة النووية..حيث يحتل الزوج/الزوجة مجمل المساحة العلائقية والوجدانية، يأتي بعد ذلك وبنسب أضعف، الأولاد، الأم والأب، الأخت، الجدة..
"ربما هي زوجتي التي بدأت تصبح أجمل بعيدا عني.ما أدراني؟" (6).
"وكنت أتناول عشائي برفقة زوجي الذي التقت عيناي بعينيه عدة مرات.." (7).
"كم وددت أن أقفله ثانية وأذهب للنوم بجوار زوجي حتى الصباح لكني كنت أعرف أنني لن أفعل. (8).
كما لو أن الأمر يتعلق بخاصيتين متلازمتين: الفضاء المغلق الذي تجسده غرفة داخل المنزل، والإطار الأسري للعلاقات داخل المجموعة..إحداهما تستدعي الأخرى، تشترطها وتسندها وتشكل معها طرفي العلاقة السببية التي تفرغ منطق الأشياء على طبيعة الفضاءات.
على أن البعد الزمني يلعب دوره أيضا في تحديد نوعية العلاقات الاجتماعية. فالزمن زمنان داخل المجموعة:
زمن الراهن والقصة الأصلية، حيث العلاقات بين الراشدين (علاقة زوجية، أخوية..)
وزمن الطفولة والقصة الفرعية التي تنسل حكيا من خلال تقنية الاسترجاع، حيث تتخذ العلاقات شكلا رأسيا (طفل/أب أو أم، حفيد/جدة).
وإذا كانت علاقات الطفولة محكومة بنوع من الحنين والدفء والإحساسات اللذية عموما ، فإن العلاقات الزوجية غالبا ما يطبعها الصراع والجفاء واختلاف الموقع والانتماء أيضا..
"- ما كان يجب أن نتزوج
- والطفل؟" (9).
"وأنا قابعة في سرير بناتي أتمنى ألا يعود زوجي إلى بيته الليلة، وربما جميع الليالي التي تليها.." (10).
ويتخذ الأمر صبغة دراماتيكية حين يوصم الزوج بالخيانة، واضعا بذلك العلاقة الزوجية على محك الانتماء للوطن، فتضطر الزوجة إلى التضحية به وتسليمه لكتيبة الإعدام..

3) الهم الوطني وتكسير البنية

كون عايدة النوباني فلسطينية يعني أنها من حيث الهوية والثقافة والتاريخ مسكونة بالبعد الوطني والانتماء للقضية الفلسطينية..مسكونة بستين عاما من الاحتلال..بالصورة الفظيعة لمقتل الشهيد محمد الدرة أمام أنظار العالم..مسكونة بلحظة الخروج باتجاه الشتات وأفق العودة..لذلك تحمل المجموعة عنوان "الجسر"، وتبتدئ ب "ستون عاما"، حيث التيمة الأساسية هي الوطن..الوطن المسلوب، الغائب فيزيقيا، لكن الحاضر أبدا كتمثل وجزء من الكيان والهوية وقطعة من الوجدان..
"ستون عاما والدروب لا تسألني عن اسمي..ستون عاما والحروب تسكنني، أكون أو لا أكون..."(11).
فأول جملة سردية تبدأ بها المجموعة محكيها تفتح باب الجرح النازف  على مدى السنين الستين، ثم تبدأ التداعيات واشتغال الذاكرة. والملاحظ أن الكاتبة قاربت موضوعة الوطن بكثير من "الحذر" السردي ، بوصفها كتابة على حدود التماس  بين الأدب والسياسة، الإبداع والهتاف، البناء الهادئ للمحكيات والقذف بالكلام الذي يشبه الرصاص..إنه حكي مسؤول، يعتمد لغة الإيحاء والإشارة، ويقبض على عنف الأشياء والوقائع بالهدوء المحايث للعمل الإبداعي.حتى العدو لا يحتاج إلى تسمية و أطنان عبارات من قاموس الكراهية والشتم..فهو إما أشهر أو أحقر من أن يسمى " يقول أبي إنهم سيهدمون البيت إن عرفوا أنك تزورنا، لكنني ما عدت أهتم.لن أدعهم يحرسون رحمي، طفلي سيكون قراري أنا.." (12).
في ظل الشتات وغياب الوطن، يصير الحبيب، الزوج مرادفا للوطن "آه مريم يا وطني الجميل" (13).
وفي ظل الشتات  تقتات الذات على عشب الحلم والأمل في العودة التي تعيد الأرض إلى أصحابها والماء إلى مجراه  "سنلتقي ذات يوم قرب مائنا العذب.نسقي أشجارنا كلها وننتصر." (14).
ولعل الأمل في العودة هو ما يكسر بنية الانغلاق المهيمنة على المجموعة، ويفتحها على شساعة الآتي والغد الأفضل..

الهوامش:
الجسر- قصص- عايدة النوباني ..منشورات مركز أوغاريت الثقافي رام الله.2009
1) قصة الجسر ص: 47
2) نفسه ص:55
3) قصة ليل ص: 32/33
4) قصة صراع ص:23
5) قصة صورة ص:17
6) قصة ستون عاما ص:8
7) قصة عشاء ص:15
8) قصة صراع ص:27
9) قصة الجسر ص:54
10) قصة مريم ص:71
11) قصة ستون عاما ص:7
12) قصة ليل ص: 34
13) نفسه
14) نفسه ص:33




mercredi 24 août 2016


ذاك السؤال



بدا حائرا وهو ينقل عينيه بين البالون الهوائي وبطن أمه..حتى إذا استوى السؤال في ذهنه الصغير، قال:
- من نفخك؟
لكنها تلعثمت وهي تفوه بكلام غامض، فازدادت حيرته..
وابتلع سؤاله الثاني.







الرقص تحت المطر
(قصص قصيرة جدا)

mardi 23 août 2016


            هذا المساء                    



ستأتي امرأة هذا المساء
وتبدأ في التبرم من حياة مضنية
سأدعها تحكي آلامها حتى آخر قطرة..ثم أسخر منها طبعا، كأن أقول لها:
- خذي ردفيك بعيدا عن أريكتي..
هل تفطن آنذاك إلى أن بي جلطة في الروح
أني ميت منذ فترة بعيدة
وتطلق على ما تبقى مني رصاصة الرحمة؟



               مثل فيل يبدو عن بعد
                                                      (قصص قصيرة جدا)

dimanche 21 août 2016


 شاعران


  


كان شاعرا رسوليا
يلهج بالحرائق والأبنية المنهارة
وامرأة غامضة الملامح، كقديسة من الزمن الآتي
حين نبذه الجميع
وانتقلت زوجته إلى أحضان صديقه القديم
الناقد الذي أطلق على أشعاره الرصاصات الأولى
وقيد صورته إلى كليشيهات مستهلكة
بعد أربعمائة عام
سوف يونع في مسارات الحريق شاعر رسولي آخر
يتمسك يه كما يتمسك الإنسان بحلم لا غنى عنه
ينفض عنه الغبار العالق
ويهديه للبشرية كقارة سادسة

مسكونة بامرأة وحيدة غامضة الملامح وآسرة


                                              قط شرودنجر
                                                                                        (قصص )


vendredi 19 août 2016

 


اقصص رؤياك



بين الحضور والغياب يتأسس فعل الحكي..
ومن توق أزلي إلى الاكتمال تنسل خيوطه فتلتحم الجماعات وتضاعف الذوات وتصبح اللحظة الأخيرة لحظة مرجأة على الدوام.
كل حكي هو خطوة في الاتجاه المعاكس للموت
وفي نفس الوقت خطوة باتجاه لقاء ما..أو وعد بلقاء: أنا أكتب لأنني أعرف أنك هناك، تتربص بي وتتحين الفرصة كي تقرأني.
ولأنك هناك، علي أن ألبس حكايتي أجمل ما لدي..أقص ضفائرها، أقصقص زوائدها وأتقصى أنفاسها بشكل يضمن متابعتك لي وبقاءك إلى جانبي حتى النفس الأخير..
لأجل ذلك علي أن أنتقل من بساطة الحكي إلى صنعة القص..أنتقل من إنتاج الدلالة إلى كيفية إنتاجها..وأنقل الرهان من إشباع حاجة إلى خلق متعة.
إن قارئ القصة (والأدب عموما) لا يبحث عن معرفة العالم (لأن هناك حقولا معرفية وعلمية أخرى تتيح ذلك بشكل أفضل) لكنه يبحث عن حلم ما..لذة منشودة وامتداد لكينونته المعزولة والمطوقة بالسؤال ضمن مسارات الحيوات المعروضة أمامه بين دفتي كتاب (الدفتين اللتين ستأخذان الشكل الراهن المعروف بانتشار الأنترنيت والكتابة الرقمية).
والقصة تتيح ذلك بشكل أمثل..
لأنها لا تهتم بالعادي، والفائض عن الحاجة..هي تذهب رأسا إلى قلب الأشياء حيث تكتسي اللحظة القصصية أهمية كبرى استثنائية بالمقارنة مع الماقبل والمابعد..لحظة لقلب المصائر أيضا رأسا على عقب.
هكذا تبدو القصة في النهاية محطة لقاء بين عزلتين: عزلة الكاتب وعزلة القارئ..لقاء ينبغي أن تظلله المتعة.
مسيرة الإمتاع تبدأ حتما من البداية، حيث تستحيل كل كتابة إلى "كاماسوترا للغة" وقلب للعالم موضوع في كف القارئ ومتروك لنبضه.
فكيف يمكن التدليل على نبض قلب العالم بلغة باردة، محايدة..لغة صماء منقولة على وجه الإستعجال أو الضرورة من الطابق الأول للغة؟
ينبغي أن تكون لغة نابضة بالحياة..واشية بالافتتان..افتتان الكاتب بها، مغازلتها ومداورتها بحيث لا تبقى أية شعرة نشاز في تماوج الضفيرة.
لغة لا تستحيي من الاغتسال في منابع الشعر الدافقة قبل تمريغ جسدها الغض في باحة السرد.
أذكر دوما المقولة التالية:
"القصة كسباق الخيل أهم ما فيها البداية والنهاية"
صحيح أن كل كلمة في القصة، كل مكون أو مقطع سردي ينبغي أن يكون جديرا بالوجود، أي ضروريا لتنضيد البناء السردي وإنتاج الأثر..لكني أجدني ميالا بشكل خاص إلى النهايات الجميلة..النهايات الناجحة التي –بعيدا عن أي افتعال- تسبغ على كل ما سبق ظلا آخر، بترسيخ المعنى أو إحداث قلب مبرر لأفق الانتظار، أو بكل بساطة ختم القصة بما سيعتبره القارئ الختم الأمثل للنص المقروء.
النهايات الشبيهة بضربة المخلب الأخيرة.
كانت أمي حكاءة ممتازة..ولكثرة ما حكت لم تعد تقوى على مقاومة رغبة متزايدة في أن تصير هي نفسها موضوع حكاية..كثيرا ما قالت لي:
أنت تكتب القصة فلماذا لا تكتب قصتي؟
- فهل القصة مجرد سرد حياة؟ هل هي رصد للوقائع يحاكي الواقع؟
هل هي لسان أو عين أو قلب؟
أرثي أحيانا لكاتب يدعي أنه كاتب واقعي، لأن ذلك في أحسن الأحوال لا يعني شيئا..فكل كتابة قصصية، مهما بدت مغرقة في الحلمي والفانطاسي واللاواقع، هي كتابة واقعية بشكل ما تستمد شرعيتها من نسيجها الداخلي، لا غيره.وإذا كان المقصود بالواقعية "النزول" إلى قعر المجتمع ورصد أحوال المشردين والكادحين..فإننا لن نكون قد تخلصنا من سوء الفهم.
فكتابة القصة ليست رصدا لواقع
إنها انفتاح على جرح..
وتحريك له بشكل يجعل منها الجرح ذاته..لذلك فمصيرها أن تنزف أمام عيني القارئ حتى تفرغ من دمها..حتى النهاية.
والقصة بهذا المعنى هي المعادل الفني والجمالي لرحلة الإنسان القصيرة على الأرض.الإنسان ما إن يولد حتى يبدأ خطوته الأولى باتجاه الموت.والقصة ما إن تلفظ حافزها الأول حتى تتدحرج نحو نهايتها.فكلاهما القصة والإنسان رحلة باتجاه الغروب.
ويجدر بهذا الصدد أن نميز بين موقفين إزاء الموت تقفهما القصة بالنظر إلى المضمون أو الشكل.فهي كمضمون دفع للموت ورحلة في الاتجاه المعاكس، لكنها كشكل تدرج باتجاهه وارتماء في أحضانه.
من هنا ذاك الحضور المتواتر لموضوعة الموت في منجزي النصي حتى إنه يبدو كما لو أنه دفع للموت بالتأكيد عليه وترسيخ لحضوره..كأنه مداواة للداء بالذي هو الداء.
وبالمقابل –كوجه آخر للعملة- تقف الحياةعلى الطرف النقيض، ساخنة ولذيذة (حتى وهي ملأى بالمتاعب والشقاء الإنساني)..كفرخ دافئ يدافع بالصوصوة نقيضه المتوعد.وأقول "الطرف الآخر" تجاوزا لأن تيمتي القصة هاتين: الحياة/الموت هما في جوهر كل عمل إبداعي، تدفع إحداهما الأخرى، تغطيها أو تستدعيها وترافقها يدا في يد، بحيث يستحيل فعل الحب نفسه –كأجلى تمظهرات الحياة- إلى طقس تكفيني وخوض في تضاريس "جثة"..
"لقد كتبت كل القصص التي تحتملها الأرض واكتملت دورة الجنس"، لكن العطش إلى القصة لاينطفئ..ومع كل قصة جديدة، كل انفتاح جديد على الجرح، خفقان آخر لقلب العالم في وجه الموت.
فما الأفضل: الموت حكيا أو الموت بغياب الحكي؟
أيها القاص اقصص رؤياك ومت.

mercredi 17 août 2016


  الرقص تحت المطر   

في محل لبيع المفروشات وقطع الديكور المنزلي، وقع بصرها على اللوحة:
رأت مطرا أسود يسقط على المدينة
اتضح أنه في الحقيقة رجال بنفس السمت، ونفس القبعة والمعطف الأسودين تهمي بهم السماء.
ارتجف جسدها من فرط الانفعال..ودت لو تتعرض للمطر الجميل، وتضع دستة رجال في الجيب، كلما تنمّر أحدهم تضربه بالآخر..
لو يسقط واحد على الأقل في يدها تنهي به زمن العنوسة الذي طال، وتفرح بأيامها المقبلة
- إنها لوحة للفنان "ماجريت".. الذي يعتبر...
لم يكن لها مزاج لسماع البقية
كانت تتمتم في ابتهال:
- سر يا "ماجريت" لهلا يحرق فيك شي عظم.
و تحلم
بالرقص تحت المطر.


                              الرقص تحت المطر 
                                       قصص قصيرة جدا  

samedi 13 août 2016

أين الأغنام يا مالك؟       



1)


الآن وقد عبرت إلى هناك, أستطيع أن أجزم دون مواربة, بالحقيقة التالية:
إن كلبا يعبر الطريق لا يفعل ذلك أبدا بشكل عفوي, فلا شئ عفوي في الحياة, وما يبدو عاديا حد الإبتذال ليس مفصولا بالضرورة عن الوقائع العظيمة للتاريخ..
كل كلب يعبر الطريق إنما يفعل ذلك بغرض الإيذاء.

2)

كان المطر قد توقف..
وتوقفت ماسحتا الزجاج الأمامي عن الرقص..فتبدت الطريق أمامي شبيهة بعاهرة مصابة بالسفيليس ودائمة التحفز لإرسال شتيمة مقذعة لأول قادم.
الطريق لا تمضغ اللبان..
لكنها تصطاد الزبائن, فتنيم البعض في العسل, وترسل البعض الآخر إلى حتفه.هي الآن قشرة موز تحت العجلات, وبعد قليل تستحيل إلى سيف يشطر الدوار شطرين..هناك, سأقلص من السرعة, وأنحرف عبر الطريق المتربة باتجاه الضيعة, حتى أصير في مواجهتك يا مالك..وستعلم آنذاك أن العاهرة قد أوصلتني مرة أخرى إليك, وأن الوقت ليس وقت شتيمة, بل وقت الشد على الخناق.

3)

" أين الأغنام يا مالك؟"
كلما طرحت عليه السؤال رد بنفس الجواب, وقد زوى ما بين حاجبيه وتأهب للعراك..يكون برفقته كلب أو اثنان يلفان حوله ويهران في وجهي, فأقبل على مضض مبرراته المعلنة وأرجئ الوعيد إلى حين.
لكن غض الطرف لم يعد مقبولا..
وقد بدأ الآخرون يتململون من التذمر ويبرطمون بذلك الكلام الشبيه بدمدمة الطبيعة عند الغضب.
" ويا مالك أين الأغنام؟"
نفس الجواب عن الأمراض المتفشية والقضاء والقدر وسوء الطالع..ثم نفس التقطيبة التي تزرع بيننا سحابة من الغبار, ومن الريبة والتنافر المتعاظمين.

4)

توقف المطر..
وركنت ماسحتا الزجاج إلى النوم..في حين ضخت السرعة العالية كمية إضافية من الأدرينالين في دمي, أو لعل ذلك على الأرجح بسبب الدنو من مالك..
البئيس !
لن أسمع منه شيئا..ولن أبالي بتقطيبة الجبين, لأن الوضع صار أكثر تقطيبا منه, والطحين الذي نتقلب فيه ظهرا عن بطن يهدد برمينا في زيت القلي.

5)

ثم رأيت الكلب..
على مشارف الدوار, قرب بيت طيني معزول.كان يريد عبور الطريق..ولم أكن أعلم أن وراء العبور قصدية مبيتة للإيقاع بي..الأمر كان مفاجئا بالطبع, فالكلب –حتى لو كان مسالما- لن يشهر لافتة كتب فيها:
تريث من فضلك .. سأعبر

إنما يعن على حين غرة بمنطق استشهادي, استمده دون شك من معاشرته الطويلة للآدميين, ويحركه الحس الغابوي المتخفي تحت رداء الصورة الداجنة للكلب الذي يبصبص بذيله فرحا بمقدم السيد.
كنت أفكر في مالك والأغنام..موسيقى صاخبة كما لو أنها طبول حرب تطن داخل الرأس, وفي الدم قرص فوار..ثم رأيته فجأة أمامي, فأدرت المقود بدرجة انحراف تجاوزت الحد المعقول,وبعدها.. لم أعد أتحكم في السيارة..دارت ثلاث دورات وارتمت على أعتاب شجرة كانت بالمرصاد.

6)

بعد فترة بلبلة لم أميز عمرها, وصلت إلى هناك, فوجدت مالكا في الاستقبال
- مرحبا بنزيل الدار
قال بنبرة أقرب إلى الشماتة.
فغمتني رائحة نفادة لم أخبرها أبدا, وأصوات استغاثة..وبدت كل الجهات جهة واحدة والزمن مثل نطفة مجمدة..
الحمرة الطاغية..
والحرارة التي لا تطاق..
وقبل أن أنبس بحرف, رأيت خاطوفا كمنقار صقر خرافي يدهمني, ثم وجدتني أرتفع في الهواء الحار إلى ما لا نهاية, وألم عظيم يعتصر الجسد.


                                       الإقامة في العلبة
                                              (قصص)


lundi 8 août 2016


كوجيتو


أي خيال خلاق فتّق لدى بورخيس صورة خريطة في حجم امبراطورية !
سأتصور – مسايرة له- خريطة للمغرب في حجم المغرب نفسه..ألا يترتب عن ذلك أنني أصوغ عالما لا مكان لي فيه؟ : فإذا كنت أنا من يتصور وجود خريطة مماثلة، كيف لي أن أكون داخلها وخارجها في نفس الوقت؟
يحاول الملاحدة البرهنة على عدم وجود الله بطرق شتى..أما بورخيس، ومهما كانت الدلالات التي خرج بها القراء لمستوى تجريد العالم في قصته، فإنها بمثابة كوجيتو جديد مؤداه:
أنا أتخيل إذن أنا غير موجود.
إنها تبشير بعالم يظلله الغياب.. تتفتت فيه الذات قبل تفتت الخرائط والأمبراطوريات.





مثل فيل يبدو عن بعد
                                                  (قصص قصيرة جدا)