samedi 19 mars 2016

     قراءة في مجموعة "مثل فيل يبدو عن بعد" لحسن البقالي

                                                        الكاتب: سعيد السوقايلي  
 
لا أبتغي من وراء قصص البقالي المندسة في مجموعته" مثل يبدو عن بعد" مثل حبات لؤلؤ قابعة في محار الأعماق، تنتظر غطاسا محترفا، لا أبغي سوى المتعة العاشقة وهو ينضد شخصياته وأزمنته وأمكنته ونهاياته الشائقة بحنكة قاص كبير، سيكون له الفضل الكبير في تدليل صعاب وعرة لمقاربة هذا الجنس القزم المثير للجدل حضورا وجمالية وتلقيا، طبعا سأترصد ما جادت به عدستي المتواضعة أمام قصص لها من التقنيات والخصائص ما يجعلها غاية في الصنعة السردية المحكمة. وفي مايلي أهم المحطات المؤثثة لفضاءات النصوص:

فضاء الغلاف والعنوان:
يتماهى عنوان المجموعة مع لوحة الغلاف في كثير من الايحاءات الدالة، بدءا بالألوان المتناغمة إلى المشهدية التشكيلية المؤثثة للغلاف، يبدو المشهد ككل ضاربا إلى اللون الأحمر القاتم في لحظة غروب، وهو ما يدل على درجة الإحتقان بأفول زمن ما، ولعله( زمن سردي)، بكل عناصره الموجودة في الأفق، السماء، مرآة الماء، الشجرة السامقة العجفاء، بينما يقف فيل مخطوط بفنية تشكيلية من حروف لاتينية( ربما يؤشر على مرجعية برانية لجنس ق ق ج)، يقف شامخا وثقيلا وضخما على مرأى الأفق باللون الأسود، على حد زومية الصورة، الفيل هنا إنما هو إحالة إلى جنس ق ق ج تصمد واقفة مخاتلة أمام غروب ما، احتقان ما، وبالتوازي مع العنوان المكتوب بالأصفر الذي استمد اشعاعيته البراقة الصارخة من هالة شمس بعيدة تكاد تخبو مواربة وجه الفيل الضخم، في اشارة إلى اشراقة الق ق ج في هذا الفضاء القاتم الآفل، وبفنية عالية نرى اللون الأبيض الخفيف لقرص الشمس وقد استعير منه لون اسم القاص حسن البقالي في أعلى الغلاف بشكل أفقي كرمز للديمومة والمسير قدما، وأيضا اسم جنس النصوص " القصة القصيرة جدا" وقد نزل عموديا من رحم الفيل كمؤشر على إجبارية ق ق ج وخطابها النازل على الرؤوس اثباتا ومشروعية، بكل ما تحمله ضخامة الفيل( أضخم كائن أرضي راهن) من ثقل وحضور في زمن استغبت فيه( من الغابة) الأجناس الأدبية على بعضها البعض.

الدفاع عن هوية ق ق ج: 
تصدرت المجموعة مقدمة نظرية للقاص حسن البقالي، بل يمكن اعتبارها بيانا جامعا مانعا لمفهوم ق ق ج بجميع شرائطها وعناصرها ومحدداتها، ولا يسعنا هنا إلى أن  نشير إلى تمثيل جميل ودقيق ورد في المقدمة، واصفا هذا الجنس بأنها " ليست المهر الذي لن يلبث أن يصير حصانا، إنها فرس من فصيلة "البوني" مكتملة في صغرها، متناغمة في مكنوناتها، وصارخة في جماليتها" ص7، القصة القصيرة جدا عنده هي تلك النقطة الضئيلة السوداء البعيدة على امتداد البياض، فهي مثل فيل يبدو عن بعد، كلما اقتربت منها صارت تكبر بدلالتها المكتنزة، وأبعاضها الصارخة، وهذا ما يعجز فيتا سحر مكنوناتها وبوحها، وكدليل على رهانه القاطع لإتباث مشروعتيها بين الأجناس الأخرى، صدر نصوصه بواحدة بعنوان" قصة" إكراما وإجلالا، يقول:( أطمح إلى كتابة قصة استثنائية، أقصر قصة يمكن أن تكتب...مضغوطة إلى أقصاها، بحيث تصير مجرد نقطة سوداء في امتداد البياض..نقطة شبيهة بفيل يبدو عن بعد.) ص 11، يبدو الهاجس الأكبر، والرهان النهائي هو القصر، الخاصية الأولى، قبل أي كلام في ق ق ج ، وذلك ما يؤشر على أهم محدداتها الأكثر جدلا بكلمة "جدا"، حتى أنه أخذ على عاتقه التنبيه إلى الاختيار الواعي والتفريق بين الغث والسمين فيها للتأكيد على أصالتها، وذلك ما فعله في قصة"كما يصنع لصوص الخراف"، حيث يختار أجمل وأبلغ القصص من أجل عرضها أينما حل وارتحل، كيف لا وهي شهرزاد المعاصرة، وهنا إشارة قوية إلى أن ارهاصاتها بادية من جهتنا في التراث العربي القديم، حيث مع شهرزاد تكمن المتعة والقصر والدهشة أثناء الحكي، يقول في قصة " كما قالت شهرزاد":( قال لها: عيناك كالبحر/..../قال:/ هذا أوان الحكي/ بعد حين كانت في كامل أهبتها، عيناها الواسعتان مشرعتان على المدى../ أخذ الإبرة من مربضها/ وبتركيز شديد جعل يخط بها على المؤق تفاصيل الحكاية.) ص13.

الشخصيات:
يصعب القبض على شخصيات القصة ق ج، لأسباب عديدة، أذكر منها أنها لا تشبه شخوص الرواية أو القصة الطويلة، تتمتع بامتيازات الحكي عنها وتوصيفها من لدن السارد، إضافة إلى حضورها الفاعل على طول الحكي والمواقف والأمكنة وغير ذلك، الشخوص، إذن، في ق ق ج شخوص ( مقموعة) للتعريف عن نفسها وحالاتها، هزيلة الحضور بالمعنى السردي، اللهم ما يشفع للتعريف بها، بعض أفعالها وسلوكاتها ومواقفها عبر كلمات النص، ولا شك أن هذا الضمور، هو بالضرورة، خاضع لقوانين كتابة الق ق ج ، هو ذلك الذي يقول عنه تشيخوف : ( لا ينبغي أن يكون قاضيا، يحكم الشخصيات وحواراتها، ولكن يجب أ، يكون شاهدا غير متحيز، أي يجب أن يكون على مسافة من الحدث والشخصيات)؛ وإذا ما رجعنا إلى قصص البقالي، ندرك هذا الأمر جيدا، حيث إنه يعرض شخوصه المتنوعة في حياد تام، غير آبه من تكون هذه الشخصيات، فنجده يحبك الأحداث والمواقف والحالات النفسية، ويترك البقية للقارئ، ليكتشف بنفسه من تكون هذه الشخصية، ولعل هذه من تقنيات ومن حسنات ق ق ج، حيث يشارك القارئ في مواجهة كتابة/ قراءة العمل وفهم مقصديته، دون أن يعلم أنه ينشط جهازه التأويلي، هنا طبعا تحضر بقوة جمالية التلقي، على العموم فشخصيات حسن البقالي تتأرجح بين حالات نفسية واجتماعية متباينة، وبين هوياتها الصرفية، ما بين متكلم( الكتاب طبعا) وغائب ومخاطب،فعل سبيل الحصر، يحضر البقالي بضميره المتكلم والغائب في نفس الآن، وهذه لعلها من التقنيات التي تضفي على القص مخاتلة على القارئ، إذ يحضر أحيانا متكلما بصفة الغائب، أو غائبا بصفة المتكلم كما في قصة (كما قالت شهرزاد)، ف: قال لها : عيناك كالبحر..إنما الكاتب نفسه يخاطب ق ق ج، أو في قصة ( قراءة نوعية) التي يقول فيها: ( الكتاب بين يدي/ وصورة الكاتبة جذابة على صدر الغلاف/ ما الفائدة من تقليب الصفحات...؟! )ص 18، فالضمير الظاهر في كلمة "يدي" متكلم، لا يدل بالضرورة على الكاتب، وإنما يدل على شريحة واسعة من القراء المبتذلين ذوي الثقافة السطحية والقشور، وبذلك يمكن أن بلحظ حضور الغائب عبر المتكلم؛ من جهة أخرى نلمس شخصيات غائبة مضمرة وعامة، شخصيات مجهولة تماما، تدل على نوعية من الناس العوام، حيث المواقف والسلوكات الهابطة بادية على ملامحها من ازدراء وضغينة وتربص جشع، ولعلها من سمات إنسان مبتذل مقهور، يتنفس واقعا مزريا وثقافة ناقصة، وهذا يتضح جليا في "شعور متبادل" و" بيننا "، ففي الأولى يقول :( نظر إليها/ نظرت إليه/ كان يعرفان بعضهما/ ويعرفان ألا شيئا يجمع بينهما/غير نظرات مثقلة بازدراء متبادل وحقد مكين)ص22، بادية هي القيم المنحطة التي مافتئ البقالي يذكر بها عبر نصوصه، وكما لو أنه يذكرنا، استنكارا، بزوال الحياة الطافحة بقيم الخير والمحبة والتسامح.
وهناك أيضا صنف من الشخصيات الغريبة والضالة والمحبطة وسط عالم غريب ينوء تحت التيارات والإيديولوجيات المعاصرة التي أماتت الإنسان عقلا ووجدانا وملة، ففي نص" التوحيدي" يصف شخصياته بالعجول لصخب لهوها وحديثها وآرائها، سرعان ما تكتشف أنها تعيشفي اللاجدوى والعياء والجوع والغربة، حين تطل عليها بشكل سوريالي مفاجئ شخصية التوحيدي مغمغما " أنا الغريب، أنا التوحيدي" ثم اختفى.ص 16. أ, في قصة "نفاذ صبر" تصل الذروة بان تغتال الشخصية أحلامها نكاية بعالم بئيس، ونكاية بنفسه التائهة( أقتلع ما بداخله من أحلام/ رصفها أمامه مثل فراخ أجهدتها العتمة/ وأطلق الرصاص ) ص 43.
 وعبر نصوص أخرى عديدة، يحتفي البقالي بشخصيات معلومة معروفة، تناصا ومساءلة ومعارضة، وعيا منه باستعراض موسوعيته في إعادة النظر لبعض المفاهيم العلمية والفلسفية..أو إشراكا لثقافة القارئ، ولعل هذه أيضا من سمات الق ق ج التي تخاطب فيه ثقافته ودرايته أيضا، واضعا إياها أمام الإشكالات الفكرية غير المطلقة والقابلة للنقاش والمساءلة، فمن ديكارت إلى بورخيس إلى داروين والتوحيدي وآدم وابن المعتز.. إلى أخرى معروفة ذات حضور فاعل في المجتمع كالجندي والفنان والكاتب التجريبي والزعيم وقائد الجيش وغيرهم، تتوزع أدوار هذه الشخصيات بين فروج الحكي لتؤثث لنفسها مكانا تبوح فيه عن أفكارها وأفعالها... تحت سياط السخرية الطافحة للسارد وقلبه للمفاهيم والقناعات  التي تسلم بها، إذ إيمانا منه يرى البقالي أن العالم يعرف تقلبات وعواصف حثيثة من عصر لأخر، فلم الإيمان بكل شيء نسبي، ففي قصة " كوجيطو" تبدو الرؤية الفلسفية غاية في العصيان على الفهم، فكما لو أننا أمام نص فلسفي تأملي وليس بقصة، وهنا تكمن صعوبة فهم بعض نصوص البقالي التأملية.. بل يتجاوز الأمر إلى ساءلة ما علمي رياضي وفلسفي، نجده ينادد كوجيطو ديكارت ونظرية الخيال لباشلار، ليعملهما في مجال الأدب، هذا العلم الإنساني الدبق والعصي على لملمته في مفاهيم علية دقيقة، حيث يصرح بكوجيطو جديد هو: (أنا أتخيل إذن أنا غير موجدود)ص 14،في سخرية تامة لواقع المثقف إزاء العلم أجمع، وفي نص "كاتب تجريبي" يقر بنسبية الحياة، والتأكيد على أن البؤس الإنساني رهين بدرجات الكمال ، كما يرد أيضا غربة الإنسان المعاصر في نصه التوحيدي إلى الصخب والغباء والخواء:( انتبهنا إلى أننا غرباء عن بعضنا... وكل ما نصنعه أننا نداري الغربة بالصخب) ص 16، هذا فيض من غيض، وثراء فاحش في عرض شخصيات متنوعة ومتعددة، دبقة وعصية، مضمرة وظاهرة بقدر يسير، ينم على دربة الكاتب في قولبتها بشكل مبأر تاشيا ووفاء لتجربة القص القصيرة جدا عنده.

المكان:
لا يمكن تصور قصة بلا حدث أو شخصيات، مثلما لا يمكن تصور أحداث وشخصيات بلا أمكنة، فالمكان هو الحلبة أو الوعاء الذي يعطي للقص أبعاده الملموسة، المكان إذن هو جغرافيا السرد، وبوصلته االدقيقة والتي من دونها نضيع حتى في القبض على مقصدية القصة ودلالاتها، وإلا سقطت في العدم، ليس هنا من فراغ، فحتى الطبيعة لا تقبل الفراغ كما يقال، مشيرين بذلك إلى حتمية المكان في القصة، ولو في تجلياتها الأكثر عصيانا وغموضا على الإدراك، من هنا يمكننا الحديث، ونحن بصدد المجموعة، عن أمكنة متنوعة، بعيدة أو قريبة، ظاهرة أو مضمرة، ملموسة أو افتراضية، فبجرد صغير ومحصور، على كثرة الأمكنة في قصص المجموعة، نعاين أمكنة من قبيل: البياض، المدى، المهرجان، الخدر، خريطة الإمبراطورية، الجنة، الكون، الحلبة، أنفاق الداخل، حديقة عمومية، مدارس، حانات، الغابة، الفم، الكف، غابات السافانا...نلمس بهذا المعجم المكاني الزاخر تلون المكان في المجموعة، فهناك مثلا:
المكان الورقي: كما في "قصة" حيث حلبة الحدث هي الورقة ذلك البياض الذي يحضن الق ق ج مثل نقطة سوداء شبيهة بفيل عن بعد.
المكان المفتوح: في قصة "كما قالت شهرزاد"حيث ينفتح المكان على مصراعيه( عيناك كالبحر.. عيناها المشرعتان على المدى..) ص 13،أو الصحراء كما في قصة "قطرة": ( لقد قتله/ كانت هناك قطرة وحيدة في صحراء التيه/ أحدهما فقط يستحقها/ بجدارة قاتل حقيقي)ص 42 ، أو في قصة "الزهيمر"( يغالب هلع المسافات المفتوحة بخطو متهدج/يمشي../ويواصل المشي../فالطريق أحيانا خير من الوصول)ص46.
المكان المغلق: حث ينكمش الحكي داخل جدران عينية أثناء القراءة، كما في "ضريبة"ص32 و"هما"ص 60، ففي الأولى يدخل الزعيم إلى غرفة التحميض ويعالج الصور.. أما في الثانية ( الريح تعول بالخارج../في الغرفة القديمة زوجان يرقدان ظهرا لظهر).
المكان الحلمي النفسي: كما ي قصة "البطل"و"نفاذ صبر"، المكان ليس حقيقيا ولا أثيريا، بل هو مكان مبأر في أقصى منطقة في اللاوعي، مكان غير ملموس وغير بعدي وغير فيزيائي، مكان منفلت متذبذب يراهن على التداعيات المهزوزة للشخصية، يقول في "البطل": خاض حروبا عديدة انتصر فيها جميعا../ وحين أفاق ..كانت آثار معركته الأخيرة بادية/ في شكل بلل على السروال)ص34؛ أما في "نفاذ صبر" فيحضر الزمن النفسي جليا، مامن أبعاد فيزيائية، إن هي إلا تهيآت نفسية أشبه بتخيلات مرضى العقل والنفس، وهذا النوع من المكان نادر إلا عند السحرة والدجالين وقارئي الأفكار والمتصوفة أصحاب الفتوحات والكرامات أو صانعي أفلام الخيال العلمي، يقول:( اقتلع ما بداخله من أحلام/ رصفها أمامه مثل فراخ أجهدتها العتمة/ وأطلق الرصاص)ص43. 
المكان المتقاطع:حيث يتقاطع المكان الواقعي بالمكان الكمي في جدلية رغبة من الكاتب ي مقايضة الحلم بالواقعكنوع من التسامي على واقع مرير نزوعا نحو الكمال الروحي، ففي قص" تبادل" يتقاطع المكانان ويتجادبان ما بين سرير النوم وفضاء الحلم وأثيرية السماء، يقول:( حلمت بأني شخص أخر../وفي منطقة تقاطع الحلم بالواقع تبادلنا الموقعين:/هو الآن أسير سرير وبقايا نعاس../وأنا جناح من ضوء مفرد في السماوات البعيدة.)ص51.
المكان الروحاني أو المكان الخالد: ويتمثل في قصة"كاتب تجريبي" حيث يلقي بهذا الأخير في الجنة ذلك المكان يقبل الروح رافضا البدن الفاني الناقص :( مرت على جفنيه غمامة ألقت به في الجنة./رأى نفسه وحيدا وخالدا) ص15.
المكان الإفتراضي أو الرقمي:وهو المكان الذي عوض قديما عوالم وفضاءات الجن والسحر والحوريات ليحضر بقوة مع التطور التكنولوجي الرقمي، فأصبح فضاءا جديرا بركوبه والانتشاء بعوالمه الافترضية لما تمنحه التقنية الرقمية من قوة علمية(ساحرة) في التخيل والإبداع، كما في قصتيه "الشبيه"و"تنبيه"، أختار الثانية لبلاغتها الرقمية وأبعادها الافتراضية:( سأنقر على اسمك بفأرة غاضبة/ أحذفك من قائمة المفضلات/ وأرمي بك في سلة المهملات/ أعطني مبررا واحدا كي لا أفعل ذلك/ أو حصن نفسك ضد سم الفئران)ص79.

الزمان:
من الصعب فرز أزمنة البقالي وفكها، فهي تتداخل، تتقاطع أحيانا أو تتناظر، أو تتسارع أو تتباطأ محدثة عصيانا سرديا داخل القصة، ويحدث حالة استنفار زمنية لا يشد معها القارئ أنفاسه، وتلك سمة البقالي عبر نصوصه التي تحيلنا بعضها، بشكل متشابك، إلى الواقعية السحرية أ, الحلمية التي تتمظهر في القص الأمريكي-لاتيني، أزمنة البقالي متعددة، تتباين حسب ما يلي:
الزمن الروحي: في قصة التوحيدي، الذي كعادة المتصوفة، يسافر عبر الزمن، ويسيح سياحة روحية قافزا على محطات زمنية، حيث دخل إلى جلبة صاخبة لأشخاص معاصرين وهم في أحاديث مبتذلة ( عليه آثار سفر طويل وجوع إلى المعنى.جاس بين الوجوه بعينين قلقتين، وغمغم:"أنا الغريب..أنا التوحيدي، ثم اختفى) ص16.
الزمن اللولبي:حيث يتلولب الزمن في الحكاية إلى ما نهاية بين شخصين، التقيا في حديقة عامة، الأول قضى مآرب هجينة ومبتذلة، والثاني كان عاكفا على كتاب عن شخصين تقابلا في حديقة عامة، ولم يكن الشخصان سوى المذكورين سالفا، وهكذا إلى ما نهاية، كما تشير قصة"لا نهاية" ص17.
الزمن المباشر: تحيلنا القصة على نقل مباشر لأحداثها، وهذه تقنية معلوماتية عبر البث المباشر، حيث يسرد الكاتب وقائع على المباشر كما يبدو في أفعال القصة:( ستأتي امرأة هذا المساء، وتبدأ في التبرم من حياة مضنية، سأدعها تحكي آلامها حتى أخر قطرة...ثم أسخر منها طبعا، كأن أقول لها: - خذي ردفيك بعيدا عن أريكتي..) ص19.
الزمان المتسارع: كما يبدو في قصة الفنان، يتسارع الزمن حثيثا ويفعل فعله العضوي بشخص الفنان أمام بورتريه الشخصي: ( بعد نصف قرن لم يبرح الفنان صورة الشاب الذي كانه، وبالمقابل أصبح البورتريه عجوزا بألف تجعيدة وظهر متهدل..داهمته الشيخوخة دفعة واحدة.. وأزفت ساعة الرحيل)ص 21.
الزمن التناظري: وجها لوجه، يقف الزمن الماضي  كمؤثر سلبي أمام الزمن الحاضر، تحت مبدأ السببية، حيث أفعال أو أوقات ماضوية تلقي بظلالها السوداء على موقف راهن زمنيا بين الكاتب نفسه وشخص أخر، يقول: ( ربما بدر مني فعل ما / في يوم لا أذكره أو حياة سابقة/ أغاظ الشخص الذي يجلس قبالتي/ هذا ما استنتجته على الأقل من نظراته التي تتوعدني) ص 24.
الزمن المطلق:باد في قصة"دم السلالات" والتي تحكي عن رغبة آدم في إدراك الخلود والمطلق السعيد ليقع في فخ المحرم وقد انطلى ذلك على سلالته التي ماتفتأ ترنو وتتطلع إلى السماء حتى أحدثت ثقبا في الأوزون.
الزن السابق/ اللاحق/ الحلمي: هنا تتداخل الأزمنة دفعة واحدة في كل من القصص التالية " أصل الأنواع" ص29،"البطل"ص34، "جد وحفيد"ص 37، يتسلسل الزمن فيها عبر ذكر أحداث وقعت في الماضي وتؤثر في زمن لاحق حاضر لينهي السارد تفاصيل القصة بزمن حلمي مهيمن على الأحداث السابقة كما في قصة"أصل الأنواع" التي سأكتفي بمضمونها لطولها النسبي، حين كان داروين يعاين، في إحدى الغابات الإفريقية، زعيم القردة، يبدو المشهد، بداية، صادما، حين كان يحاول كبير القردة عبثا التواصل مع القطيع بالأصوات والحركات والإشارات، دون جدوى، وإذا به ينتصب، كبشري، ويصيح: تبا لكم من قردة بليدة..وسط دهشة الجميع، وفطنة داروين إلى الحلقة المفقودة، ليفيق أخيرا من نومه وحلمه ويحرر "أصل الأنواع".
الزمن التاريخي: يحضر هذا اليوم إحالة إلى فترة تاريخية من حياة العرب السياسية، واشكالية الحكم فيها حيث الخوف باديا على أحد الحكام العرب القدامى من ضياع ملكه، فابتدع أسلوب الاحتكار والتملك القبلي للسلطة ومبدأ التوريث، في قصة"عقدة ابن المعتز" يقول:( لدارسي التاريخ أن يمعنوا في الباروديا العميقة التي صاغها ابن المعتز لنظام الحكم عن غير قصد: كان خليفة بين يوم وليلة. فما من حاكم عربي إلا أصابه الذهول إزاء هذه الحالة: كيف يعقل أن يحكم المرء يوما واحدا يفضي إلى حتفه..؟! . تحقق أمر كهذا هو بالنسبة إليهم مرادف للجنون..لذلك أبدعوا مبدأ التوريث.) ص31.
الزمن الصاعد الحلمي: في قصة" رحلة"، يتصاعد الزمن عبر أحداث متعاقبة ليصب في زمن حلمي تعبيرا على أن الاستسلام أيضا للأحلام التي لم تعد وردية كفاية، ولم تعد المعاناة مع الواقع فحسب بل تعداه إلى الحلم أيضا، يقول:( هيأ الشيخ راحلته، ودع أهله، وغادر بحثا عن امرأة وعد بها في حلم./ عبر فلوات عديدة./ وداهمته أخطار كادت تفتك به./ وحين أنهكه الترحال رأى في حلم آخر نبتة صبار شائكة تفتح له أدرعها./ عرف أنه وقع ضحية مكر ما./ توضأ../ صلى ركعتين لله واسع القدرة../ ونام ي حضن النبتة.)ص40.
الزمن التقابلي السريع: يتقابل زمانان في قصة "الطريق" بشكل تناظري، كل زمن له خط ومسار مغاير بدءا من درجة الانطلاق ليلتقيا بأقصى سرعة في نقطة، ستفعل فعلها بالحدث الرئيس، مشيرة إلى أن للصدفة مساوئ أيضا، هناك طبعا قرائن تؤشر على هذا الزمن التقابلي السريع مثل ( السرعة القصوى، السرعة المسجلة على العداد )، الأمر هنا أشبه بانفجار كبير بين قطارين سريعين، التقيا للتو، دون أدنى معرفة سابقة أو نوايا مبيتة، الزمن هنا فاعل رئيس في إبراز بؤرة الحدث المتوترة، يقول:( على الطريق سيارة بسرعة قصوى، وعلى مقربة من اللهفة امرأة تنتظر../ بالسرعة المسجلة على العداد يأمل السائق أن يرتمي قريبا في الحضن السخي../ وعلى الجهة المعاكسة شخص آخر يسوق سيارته بنفس السرعة، على أمل لقاء امرأة لا تقل شوقا..هي في الواقع زوجة السائق الأول../ سيلتقيان عند منعرج ما، دون أن يعرف أحدهما بوجود الأخر أو نواياه../ وحدها الطريق تعرف ما يجري../ هي الحبلى بالمفاجآت.) ص 58.
الزمن المبتور: يتقدم الزمن في قصة ( وأنت) بأحداث القصة، خالقا توترا وتشويقا لدى القارئ، ليتوقف ويبتر فجأة، معلنا عن نهاية ناقصة، وعيا من السارد بإشراك القارئ في استشراف نهاية ما، أو تصرف حكيم..يقول :( حلكة شديدة../ ووابل من المطر ينهمر على الزجاج الأمامي للسيارة..ثم صوت ارتطام..صرخة مكتومة../ ولا شيء/ من المحتمل أنني خلفت جثة ورائي../ هل كان على أن أتوقف للتأكد؟/ أنت مثلا، ماذا تعتقد؟!) 59.
الزمنالزمن المسترسل البطيء: في قصة "حالة سيكولوجية " ص74، يسترسل الزمن راسما خطا سرديا بطيئا، متوترا، تنشد معه أعصاب القارئ حين يغمر الشخصية سكون وانتظار قاتلين، ووقت ووحدة بطيئين، ترقبا لجرس ما دون جدوى، سوى دارية السكون المتكرر.

النهاية:
بعيدا عن النهايات السعيدة أو الحزينة في السرد الأخر ( الرواية والقصة القصيرة)، تتنوع النهايات ف ق ق ج، خاصة عند حسن البقالي، تماشيا ومواضعة مع ما تعارف عليه في هذا الجنس الجديد،من قصر وقزمية، تأنف نمطية النهايات المعتادة، وإلا عرفت نشازا سرديا على مستوى الحبكة، فكان من الضروري تنويع النهاية بخلق نماذج منها غير مألوفة، وهذا سر سحرها وجاذبيتها، وقد تعارف على أن النهاية أو القفلة هي أهم عنصر حساس في ق ق ج، فهي في وقعها في نفسية المتلقي مثلما تفعلها قصيدة الهايكو الجيدة،  نلمح في قصص البقالي نهايات من قبل:
نهاية عادية: حيث قفلة القصة نهائية ومنتهية مكتفية تفضي إلى احتمالات أخرى، كما في قصة " كما يصنع لصوص الخراف"،"التوحيدي"، "هذا المساء"، "دم السلالة"، أو كما تشير العبارة التالية:( فانتبهوا إلى ثقب في الأوزون) "دم السلالة" ص28، أو في "أصل الأنواع":( وشرع في تحرير أصل الأنواع) ص30، أو في"عقدة ابن المعتز":( لذلك أبدعوا مبدأ التوريث) ص31.
نهاية صادمة: في قصة" البطل" ونهايتها صادمة: ( وحين أفاق..كانت آثار معركته الأخيرة بادية في شكل بلل على السروال) ص34، أو قصة "تحول" :( أنت محق..أنا سميرة ..سمير سابقا)ص49.، أو في قصة " قائد محنك":( قسم الجيش نصفين وقال: اقتتلا)ص35، أ, في قصة"نبوءة":( أخذوا أمهم إلأى غابة بعيدة وتخلصوا منها هناك) ص39.
نهاية مغلقة: حيث تنغلق النهاية على ذاتها في قصة "رحلة": ( صلى ركعتين لله واسع القدرة..ونام في حضن النبتة) ص 40.
نهاية مفتوحة: في قصة "وضع اشكالي":( وعليه..يجدر بالقارئ أن يضع مختلف السيناريوهات المحتملة لوضع مماثل) ص52. أو قصة" الطريق" ص58:( وحدها الطريق تعرف ما يجري.. هي الحبلى بالمفاجآت) . أو في قصة"وأنت"ص59:(هل كان علي أن أتوقف للتأكد؟ أنت مثلا، ماذا تعتقد..؟!
النهاية الصادمة اللذيذة: بادية بشكل شيق ومثير في قصة"العين" ص71، المقتبسةعن واقعة حقيقية لامرأة أمريكية تتابع سرقة منزلها على المباشر انطلاقا من كاميرا بيتها وهي بمقر عملها، حيث اللص الشاب يدخل غرفة النوم، يعبث بأشيائهأ، يقترب من الدولاب، السرير ، لتنتهي القصة هكذا ( أرتعش من تداعيات المشهد..لكنه وسيم..لو أنني كنت هناك).

تقنيات السرد:
الإيقاع السردي: لا زلت أذكر، ذات لقاء مع القاص حسن البقالي، عبارة غاية في الأهمية:" سيضيف الشعراء الكثير إلى ق ق ج"، الأمر صحيح إلى أبعد ما يكون، لما يعرفه هذا الجنس السردي اللطيف من مصاهرة مع قصيدة النثر في كثير من التزاوجات منها التكثيف والإيجاز والترميز وانفكاك الحبكة أحيانا، وهي استعارة تقنية من التوتر الذي تعرفه قصيدة النثر نفسها، إضافة إلى التشظي والتشذير والتوازي والتكرار ونظام التسطير المتقطع للنص وغيرها من محددات الشعر؛ عودة إلى الحضور الشعري في السرد، أسجل أن البقالي وهو يقر بفضيلة الشعراء على الق ق ج، أنه، وهو ليس بالشاعر، قد حفلت نصوصه بتلك التقنيات الغزيرة،فتح بأنك إزاء قصائد نثر خالصة، وهذا في رأيي سيطرح أزقا نقديا خطيرا، يعصف بالقناعات السائدة حول مسألة الإيقاعية في الشعر وحده، بل بات الحديث، منذ الآن فصاعدا، بأن لمعشر السراد باع طويل في الإيقاع سرديا بالنصوص القصصية، ولم لا نقول بإيقاعية النثر أيضا، إنه إشكال جديد، لم يلتفت إليه أحد بالشكل الصريح، وفي ما يلي أوجز أهم تقنيات التي تتقاطع مع الشعر:
السرد: صيغ ووصف السرد في قصص البقالي عبر مشاهد ولقطات ولوحات وتفاصيل خلقت أصنافا من الحبكة تارة أحادية الحدث، أو مركبة ومزدوجة لأحداث متماسكة تتعاضد وإن تداخلت فيها الأمكنة والأزمنة، ضمن حكي مدبج ومصوغ كسبائك غاية في الإتقان.
التجاور والتناوب: نلحظ تجاورا لمشاهد وصور كما في قصة"بننا" :( بيننا واجهة زجاجية/ أراه من خلالها ولا يراني/ هو يضع أصبعه في خيشومه يزيل آتار مخاط../ وأنا في الخفاء أرقبه مثل إله صغير جشع.) ص23، يبدو المشهدان مختلفين بين مكانين متجاورين تفصلهما واجهة زجاجية، ومشهدين متناوبين ( صورة الأخر وهو) وفي المقابل صورة السارد المترقب.
التكرار والتوازي: هناك تكرار لبعض الألفاظ أو الجمل أو الصور تؤدي دلالات متماثلة أو مختلفة وهي تقنية شعرية تروم خلق إيقاع مضبوط داخل السرد كما في قصة"الفراشات":( لم تكن الفراشات تحذرنا/ الفراشات الملونة الجميلة/ الفراشات الهشة/ الفراشات الجميلة الهشة) ص 50.
التسطير السردي:لا شك أن تقنية التسطير ( السطر الواحد) هي واحدة من خصائص الشعر والتي تفكك بنية القصيدة مانحة إياها نوعا من التوتر وانحلال المقصدية، ثائرة بذلك على قانون التماسك الأرسطي والمنطقية في بناء النصوص ككل، نلمس حضورا شبه كلي في قصص البقالي، حيث نظام التسطير في كل سطر، فكأنما أمام قصائد شعرية، هذه التقنية تعاضد مبدأ التجاور والتكرار والتوازي بين صور وكلمات ومشاهد القصص، نتوقف مع هذا في قصة " نفاذ صبر" فالعوازل دالة على تقنية التسطير، يقول:( اقتلع ما بداخله من أحلام/ رصفها أمامه مثل فراخ أجهدتها العتمة/ وأطلق الرصاص) ص 43.
جمالية الصورة  أو التقاطع مع القصيدة:هناك قصص ضمن المجموعة، يمكن القول أنها قصائد، بل تتجاوز قصائد المجنسة قبليا في قصديتها وشعريتها، لمل تحفل به من صور شعرية رائعة، كاملة في إيقاعها ورمزيتها وبلاغتها وسرياليتها الضاربة في خرق المألوف كما تفعل تماما بعض قصائد النثر، ويمكن هنا تسجيل منعطف لافت في علاقة الأجناس، هل يمكن القول بانمحاء الأجناسية بين النصوص والخطابات؟ وهل ستتداخل النصوص في ما بينها حتى لا نستطيع مع ذلك تفريقا وتفكيكا؟؛ على العموم نلمس تلك الشاعرية العالية، ولولا التجنيس على الغلاف، في قصص من مثل " ماذا يحدث حين تترك فمك مفتوحا أثناء النوم" ص56، أو "رائحة الأسلاف"ص68، أو "الألم" والتي سأختارها لعمقها وفتنتها:(تحسست ألمي/ كان مثل نواة حبة المحامي عظيما في تجاويف القلب/ نزعته / جففته جيدا ودققته/ ذروته للريح/ لم أرتح إلا هنيهة / صرت بعدها أتنفسه عبر الهواء)ص73.
 بقي أن أقول أني لم أقل كل شيء لأنه بقي كل شيء حول هذه المجموعة الرائدة في الق ق ج، غنية وثرية، تحتاج إلى وقفات نقدية عميقة، وإلى قارئ كاسر، ببساطة إنها نصوص أتت من مستقبل الق ق ج لترخي بظلالها في راهنها الذي يجرب أكثر مما يقعد، كان لابد لها أن تحضر راهنا لتدلل صعابا جمة لمن يخطبون ودها على حد قول حسن البقالي.

سعيد السوقايلي


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire