![]() |
'عندما يطير الفلاسفة' لمحمد آيت حنا
ثمة من الكتاب من يولد راشدا. ويتأكد آنذاك أن العبرة ليست بمراكمة الانتاجات وسنين العمر، بقدر ما تكمن في النفاد إلى الجوهر العميق للأدب من خلال نظرة تزاوج ما بين أصالة الموهبة وثراء المعرفة بالأسس والمواضعات ومسارات التجاوز.
ولعل من هؤلاء القاص المغربي محمد آيت حنا الذي بشر بزمن يطير فيه الفلاسفة، ويقيض فيه للإنسان أن ينزع الجبة المعهودة للحياة ويتناسخ في حيوات متعددة، ما دامت الأيقونة: ضامنة الوجود مميزة بتفردها 'هناك أصل / أيقونة لكل جنس من الموجودات، لكن هذا الأصل / الأيقونة أبعد ما يكون عن المثال كما فهمه أفلاطون: فالأيقونة ليست أشرف ولا أكمل من غيرها من الموجودات، فهي أيضا تنشأ وتصير وتفنى، غير أن لها ميزة واحدة هي ميزة الوحدة والتفرد، فلا وجود لأيقونتين من نفس الجنس وإلا صار الوجود إلى عبث...'(1)
لا شيء عند آيت حنا كما يبدو في الواقع السابق لزمن القص، ولا شيء يخضع - ضمن المعمار الفني للقصة - للمصادفة، حتى لو كانت 'مصادفة سيامية'. إن أقل المحكيات إثارة للاهتمام، وأدنى برعم يتفتق عن سؤال طفل يمكن أن يفضي عبر سلم من المراقي المؤثثة بشكل محبوك لأرض القص، إلى قضية كونية ينكشف فيها الأساس النفعي للعلاقات الدولية والتراتبية التي تطبع وجود الكيانات الدولية بانتماءاتها المختلفة وتوزعها ما بين الشمال والجنوب.
لكن الأكيد أن محمد آيت حنا ليس ممن ينوء تحت ثقل الهم السياسي، حتى لتكاد القصة تصبح رافعة بناء خارجي. فما يشغله أكثر هو الهم الإنساني، والأسئلة التي تحفر في الذات الإنسانية كوحدة نفسية وفكرية وعقدية، موصولة أو مقطوعة عن الكائنات الأخرى، ومنخرطة أساسا في إيجاد نظائر فنية للواقع.
هناك، في قصص آيت حنا، مكر حيث تبدو البساطة، وعمق تحفره المناصات، حيث تزهر المرجعيات القرائية على حافة طريق السرد / مما يحتم على القارئ أن يدخل مسلحا باليقظة ومهيأ للامتوقع.
فما الذي يحدث عندما يطير الفلاسفة؟
أكثر القصص انفتاحا على عتبة العنوان هي قصة 'الفيلسوف الطائر' التي تحكي واقعة انتحار الفيلسوف الفرنسي 'جيل دولوز' ارتماء من نافذة شقته الباريسية.وإذا كانت موضوعة الانتحار، منظورا إليها من زاوية سوسيولوجية، من منظور الفرنسي الآخر عالم الاجتماع 'إميل دوركهايم' على سبيل المثال، تحيل على الإشراطات الاجتماعية، وتمنح الانتحار أوجها متعددة هي الأنماط الأربعة (الانتحار الأناني والغيري والفوضوي والقدري) فإنها عند آيت حنا ذات خلفية فلسفية بنكهة غرائبية، حيث الانتحار هو المآل الحتمي لرحلة ذهنية تأملية تصف الطائر والمفهوم كأقنومين متجاذبين، وحدها الذات المتفلسفة بإمكانها لحمهما ومنحهما المعنى الحقيقي من خلال فعل الطيران: 'وفجأة أشرقت في باله تلك الفكرة / الحل، لقد اكتشف أنه هو نفسه العنصر الثالث، البعد الثالث في العلاقة،إنه هو خالق المفهوم، وهو الذي يمنحه القدرة على الطيران، بل إنه هو الذي يحمله ويحلق به قاطعا الأقاليم وطاويا المسافات: إن الفلاسفة طيور بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس ذلك قطعا على سبيل المجاز'(2).
على أن التحليق يصير تحليقا في الزمن، وعودا إلى الماضي من أجل تعديل مساره وتصحيح أخطائه، بناء على فكرة استنساخ معدلة تتجاوز تناسخ الأرواح والحيوات المتعددة إلى 'استنساخ لحظات معينة من التاريخ. فالتاريخ يعيد نفسه حتى يمنح لبعض الناس فرصة تصحيح أخطاء ارتكبها غيرهم في زمن سابق'(3)
هكذا يتولى الفنان الشاب، الذي درج على إتلاف لوحاته في رحلة بحثه القلق عن النسخ الأصلية للموجودات (الأيقونات) مهمة تصحيح ما أفسده ليوناردو دافنتشي، حين رسم الموناليزا وافتتن بلوحته، مهملا السيدة الجميلة التي كانت موديلا للوحة، وجاعلا من الفن بديلا للواقع يتجاوزه ويستغني عنه. الفنان الشاب الذي أعاد إنتاج الوضعية الثلاثية التي قدمت لتاريخ الفن العالمي لوحة كالموناليزا، انتهى إلى دفع الأثر 'البيغماليوني' منتصرا للإنسان على الفن، وللمرأة على اللوحة، حيث يردف المرأة على ظهر حصانه ويعدو هاربا بها، بعد أن يترك اللوحة لدهشة الزوج والخدم.
إن الأنا لدى آيت حنا هو دوما آخر.. هو ملتقى حيوات وثقافات ووضعيات اجتماعية واقتصادية ترسخ تعقيد الذات البشرية وهجنتها. يمكن أن يتم اللقاء في حافلة حيث يؤدي تلاحم الأجساد وانضغاطها بالشخصيتين الرئيسيتين في قصة 'مصادفة سيامية' إلى كائن واحد غريب وهجين، أو في مطار، حين تضطر أحلام الهجرة الشخصية الرئيسية إلى تقمص شخصية كلب بأن يستبدل بصورته صورة كلب كندي نافق، كي يعبر إلى كندا.. أو في كتاب هو بالتحديد مجموعة 'عندما يطير الفلاسفة' التي اضطر الراوي إلى اللوذ بدفتيها والاختباء فيها من الجمهرة الغاضبة، عشاق التلفزيون والحياة على هدي مبدأ 'ريموت كونترول لكل مواطن' كقيمة مبتذلة مضادة للقيمة الأصيلة اللصيقة بعالم الكتاب.
والآن
كيف يطير الفلاسفة؟
لعل من أهم المميزات التقنية التي نهضت عليها المجموعة، الملمح البورخيسي الذي يتنفسه القارئ أحيانا، والمتمثل في تليين عريكة الشكل المقالي واعتماده مكونا سرديا يطعم المحكي بنكهة التحليل والاستدلال والتأمل.. 'المهم أن الإمبراطور بعد تأمل طويل في شؤون الخلق اهتدى إلى أن أصل كل الشرور هو المرايا وكل ما يعكس الأشكال من أجسام. لا أحد يعير قيمة الآخرين ما لم يعرف قيمة نفسه: الناقص يحقد على الكامل والكامل يزدري الناقص. تلك سنة الحياة'(4).
وطبيعي أن تجاور المحمولات وانتظامها وفق الشكل المقالي يقف على طرفي نقيض مع الحوار (كأحد المكونات النصية وبعيدا عن المفهوم الباختيني). ولذلك، قلما يجد القارئ حوارا في قصص آيت حنا. وحين يوجد ـ استثناء - تكون له الهيمنة على باقي المكونات، ويشكل العمود الفقري للقصة، فتنتظم المحمولات ضمن تركيب نصي يتحاور ويتناص مع نص سابق(le grand chaperon rouge) أو يعترش سلما يصل الجزئي بالكلي والفردي بالكوني والمستغَل بالمستغِل (وقل اعملوا).
وتحضر السخرية أيضا كإحدى أعلى درجات الانتقاد لخراب الذات وخواء العالم، بوصفها 'مجازا بلاغيا وأسلوبا في البناء والتركيب'(5)
في قصة 'أخلاق الكلاب' ينتهي شخص وكلبه إلى مواجهة حقيقية في صراعهما من أجل البقاء، على جزيرة خالية، تؤول إلى أن يأكل الشخص كلبه. لكن التبئير من زاوية الشخص يطبع الخطاب القصصي بنبرة سخرية ملحوظة تقوم على التنافر ما بين الدال والمدلول، والتعارض ما بين التلفظ والفعل 'الكلاب مخلوقات غدارة ومخادعة، تعطيك الأمان وتأتي إليك خاطبة ودك...ثم وقت الشدة تلبس لك جلد النمر وتعض يدك التي مدت إليها بالإحسان' (6)
إن الإيتوس الساخر الذي يميز الخطاب هنا يشفع بالضرورة بآلية القلب الدلالي antiphrase لتحقق الدلالة النصية، حيث يتضح مع تتالي سرد الأحداث والمحكيات أن الإنسان أحق بالتوصيفات المسندة إلى الكلاب.
تلك القدرة الكلبية للإنسان على تخطي الصعاب وانتهاك القيم في سبيل سد الرمق والبحث عن عيش كريم تتأكد من خلال قصة 'كلب كندي' حيث يتم استبدال الوضعية من وضعية من يأكل كلبه إلى من يحل مكان الكلب ويتقمص شخصيته لأجل العبور إلى كندا: 'لكننا ما إن وصلنا إلى باب المطار حتى طالبتني بالتزام الصمت حتى لا يشك في أمري أحد، بل وتمادت بأن وضعت في عنقي طوقا أمسكت سلسلته بيدها وأمرتني بأن أمشي على يدي وقدمي حتى نتقن اللعبة'(7).
وترتبط السخرية في بعض القصص بالفانطاستيك.. ذاك المسرب الجانبي الذي يستريح فيه الأدب من سفره الطولي عبر الطريق السيار للوغوس والهابيتوس..طريق العادي والواقعي والمألوف..وإذا كانت إحدى أجلى تمظهرات الفانطاستيك في المجموعة هي أنسنة الحيوان، فإنه يصبح حديقة مزهرة وعامرة بالحياة والمعنى في قصة 'متر على مترين'..هناك تستحيل البقعة الضيقة التي اقتطعها العم من الزقاق الضيق أصلا، وسيّجها.. تستحيل إلى حديقة غناء.. مرج تتوارد عليه الطيور بألوانها وأنواعها، بما فيها الطيور المنقرضة والعائدة إلى زمن النبي سليمان. أليس العم بشكل ما رمزا للكاتب أيضا.. ذاك الحرفي الذي يسيج كتابته بحدود النوع الأدبي، لكن السياج لا يلبث أن يسقط لأن كل كتابة حلم وتبشير بالجمال وتجاوز، سيسارع الساسة في لحظة تاريخية ما إلى وأده؟.
مهما يكن، فضمن هذا المنظور الفانطاستيكي للعالم، سيكون عاديا أن يلبس شخص وجه كلب، ويحتمي آخر بدفتي كتاب ناطق، ويصنع العم جنة لانهائية للحلم والطيور..وبودنا أن ننهي هذه القراءة المقتضبة بشهادة الكاتب سعيد بوكرامي المتصدرة للمجموعة حيث يقول إنها 'تجربة متميزة منفتحة على التراث العربي والعالمي الحداثي.. (كيتش) قصصي حقيقي يجاور ما لا يجاور بين السرد والموسيقى والرسم والفلسفة..(8)
هوامش:
1. 'عندما يطير الفلاسفة' محمد آيت حنا- منشورات أجراس 2010 ص:55
2. نفسه ص:40
3. نفسه ص:62
4. نفسه ص:65 / 66
5. شعرية السخرية في القصة القصيرة - محمد الزموري ـ منشورات مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس- ص:79
6. 'عندما يطير الفلاسفة' ص:17
7. نفسه ص:24
8. نفسه ص:9
كاتب مغربي
ثمة من الكتاب من يولد راشدا. ويتأكد آنذاك أن العبرة ليست بمراكمة الانتاجات وسنين العمر، بقدر ما تكمن في النفاد إلى الجوهر العميق للأدب من خلال نظرة تزاوج ما بين أصالة الموهبة وثراء المعرفة بالأسس والمواضعات ومسارات التجاوز.
ولعل من هؤلاء القاص المغربي محمد آيت حنا الذي بشر بزمن يطير فيه الفلاسفة، ويقيض فيه للإنسان أن ينزع الجبة المعهودة للحياة ويتناسخ في حيوات متعددة، ما دامت الأيقونة: ضامنة الوجود مميزة بتفردها 'هناك أصل / أيقونة لكل جنس من الموجودات، لكن هذا الأصل / الأيقونة أبعد ما يكون عن المثال كما فهمه أفلاطون: فالأيقونة ليست أشرف ولا أكمل من غيرها من الموجودات، فهي أيضا تنشأ وتصير وتفنى، غير أن لها ميزة واحدة هي ميزة الوحدة والتفرد، فلا وجود لأيقونتين من نفس الجنس وإلا صار الوجود إلى عبث...'(1)
لا شيء عند آيت حنا كما يبدو في الواقع السابق لزمن القص، ولا شيء يخضع - ضمن المعمار الفني للقصة - للمصادفة، حتى لو كانت 'مصادفة سيامية'. إن أقل المحكيات إثارة للاهتمام، وأدنى برعم يتفتق عن سؤال طفل يمكن أن يفضي عبر سلم من المراقي المؤثثة بشكل محبوك لأرض القص، إلى قضية كونية ينكشف فيها الأساس النفعي للعلاقات الدولية والتراتبية التي تطبع وجود الكيانات الدولية بانتماءاتها المختلفة وتوزعها ما بين الشمال والجنوب.
لكن الأكيد أن محمد آيت حنا ليس ممن ينوء تحت ثقل الهم السياسي، حتى لتكاد القصة تصبح رافعة بناء خارجي. فما يشغله أكثر هو الهم الإنساني، والأسئلة التي تحفر في الذات الإنسانية كوحدة نفسية وفكرية وعقدية، موصولة أو مقطوعة عن الكائنات الأخرى، ومنخرطة أساسا في إيجاد نظائر فنية للواقع.
هناك، في قصص آيت حنا، مكر حيث تبدو البساطة، وعمق تحفره المناصات، حيث تزهر المرجعيات القرائية على حافة طريق السرد / مما يحتم على القارئ أن يدخل مسلحا باليقظة ومهيأ للامتوقع.
فما الذي يحدث عندما يطير الفلاسفة؟
أكثر القصص انفتاحا على عتبة العنوان هي قصة 'الفيلسوف الطائر' التي تحكي واقعة انتحار الفيلسوف الفرنسي 'جيل دولوز' ارتماء من نافذة شقته الباريسية.وإذا كانت موضوعة الانتحار، منظورا إليها من زاوية سوسيولوجية، من منظور الفرنسي الآخر عالم الاجتماع 'إميل دوركهايم' على سبيل المثال، تحيل على الإشراطات الاجتماعية، وتمنح الانتحار أوجها متعددة هي الأنماط الأربعة (الانتحار الأناني والغيري والفوضوي والقدري) فإنها عند آيت حنا ذات خلفية فلسفية بنكهة غرائبية، حيث الانتحار هو المآل الحتمي لرحلة ذهنية تأملية تصف الطائر والمفهوم كأقنومين متجاذبين، وحدها الذات المتفلسفة بإمكانها لحمهما ومنحهما المعنى الحقيقي من خلال فعل الطيران: 'وفجأة أشرقت في باله تلك الفكرة / الحل، لقد اكتشف أنه هو نفسه العنصر الثالث، البعد الثالث في العلاقة،إنه هو خالق المفهوم، وهو الذي يمنحه القدرة على الطيران، بل إنه هو الذي يحمله ويحلق به قاطعا الأقاليم وطاويا المسافات: إن الفلاسفة طيور بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس ذلك قطعا على سبيل المجاز'(2).
على أن التحليق يصير تحليقا في الزمن، وعودا إلى الماضي من أجل تعديل مساره وتصحيح أخطائه، بناء على فكرة استنساخ معدلة تتجاوز تناسخ الأرواح والحيوات المتعددة إلى 'استنساخ لحظات معينة من التاريخ. فالتاريخ يعيد نفسه حتى يمنح لبعض الناس فرصة تصحيح أخطاء ارتكبها غيرهم في زمن سابق'(3)
هكذا يتولى الفنان الشاب، الذي درج على إتلاف لوحاته في رحلة بحثه القلق عن النسخ الأصلية للموجودات (الأيقونات) مهمة تصحيح ما أفسده ليوناردو دافنتشي، حين رسم الموناليزا وافتتن بلوحته، مهملا السيدة الجميلة التي كانت موديلا للوحة، وجاعلا من الفن بديلا للواقع يتجاوزه ويستغني عنه. الفنان الشاب الذي أعاد إنتاج الوضعية الثلاثية التي قدمت لتاريخ الفن العالمي لوحة كالموناليزا، انتهى إلى دفع الأثر 'البيغماليوني' منتصرا للإنسان على الفن، وللمرأة على اللوحة، حيث يردف المرأة على ظهر حصانه ويعدو هاربا بها، بعد أن يترك اللوحة لدهشة الزوج والخدم.
إن الأنا لدى آيت حنا هو دوما آخر.. هو ملتقى حيوات وثقافات ووضعيات اجتماعية واقتصادية ترسخ تعقيد الذات البشرية وهجنتها. يمكن أن يتم اللقاء في حافلة حيث يؤدي تلاحم الأجساد وانضغاطها بالشخصيتين الرئيسيتين في قصة 'مصادفة سيامية' إلى كائن واحد غريب وهجين، أو في مطار، حين تضطر أحلام الهجرة الشخصية الرئيسية إلى تقمص شخصية كلب بأن يستبدل بصورته صورة كلب كندي نافق، كي يعبر إلى كندا.. أو في كتاب هو بالتحديد مجموعة 'عندما يطير الفلاسفة' التي اضطر الراوي إلى اللوذ بدفتيها والاختباء فيها من الجمهرة الغاضبة، عشاق التلفزيون والحياة على هدي مبدأ 'ريموت كونترول لكل مواطن' كقيمة مبتذلة مضادة للقيمة الأصيلة اللصيقة بعالم الكتاب.
والآن
كيف يطير الفلاسفة؟
لعل من أهم المميزات التقنية التي نهضت عليها المجموعة، الملمح البورخيسي الذي يتنفسه القارئ أحيانا، والمتمثل في تليين عريكة الشكل المقالي واعتماده مكونا سرديا يطعم المحكي بنكهة التحليل والاستدلال والتأمل.. 'المهم أن الإمبراطور بعد تأمل طويل في شؤون الخلق اهتدى إلى أن أصل كل الشرور هو المرايا وكل ما يعكس الأشكال من أجسام. لا أحد يعير قيمة الآخرين ما لم يعرف قيمة نفسه: الناقص يحقد على الكامل والكامل يزدري الناقص. تلك سنة الحياة'(4).
وطبيعي أن تجاور المحمولات وانتظامها وفق الشكل المقالي يقف على طرفي نقيض مع الحوار (كأحد المكونات النصية وبعيدا عن المفهوم الباختيني). ولذلك، قلما يجد القارئ حوارا في قصص آيت حنا. وحين يوجد ـ استثناء - تكون له الهيمنة على باقي المكونات، ويشكل العمود الفقري للقصة، فتنتظم المحمولات ضمن تركيب نصي يتحاور ويتناص مع نص سابق(le grand chaperon rouge) أو يعترش سلما يصل الجزئي بالكلي والفردي بالكوني والمستغَل بالمستغِل (وقل اعملوا).
وتحضر السخرية أيضا كإحدى أعلى درجات الانتقاد لخراب الذات وخواء العالم، بوصفها 'مجازا بلاغيا وأسلوبا في البناء والتركيب'(5)
في قصة 'أخلاق الكلاب' ينتهي شخص وكلبه إلى مواجهة حقيقية في صراعهما من أجل البقاء، على جزيرة خالية، تؤول إلى أن يأكل الشخص كلبه. لكن التبئير من زاوية الشخص يطبع الخطاب القصصي بنبرة سخرية ملحوظة تقوم على التنافر ما بين الدال والمدلول، والتعارض ما بين التلفظ والفعل 'الكلاب مخلوقات غدارة ومخادعة، تعطيك الأمان وتأتي إليك خاطبة ودك...ثم وقت الشدة تلبس لك جلد النمر وتعض يدك التي مدت إليها بالإحسان' (6)
إن الإيتوس الساخر الذي يميز الخطاب هنا يشفع بالضرورة بآلية القلب الدلالي antiphrase لتحقق الدلالة النصية، حيث يتضح مع تتالي سرد الأحداث والمحكيات أن الإنسان أحق بالتوصيفات المسندة إلى الكلاب.
تلك القدرة الكلبية للإنسان على تخطي الصعاب وانتهاك القيم في سبيل سد الرمق والبحث عن عيش كريم تتأكد من خلال قصة 'كلب كندي' حيث يتم استبدال الوضعية من وضعية من يأكل كلبه إلى من يحل مكان الكلب ويتقمص شخصيته لأجل العبور إلى كندا: 'لكننا ما إن وصلنا إلى باب المطار حتى طالبتني بالتزام الصمت حتى لا يشك في أمري أحد، بل وتمادت بأن وضعت في عنقي طوقا أمسكت سلسلته بيدها وأمرتني بأن أمشي على يدي وقدمي حتى نتقن اللعبة'(7).
وترتبط السخرية في بعض القصص بالفانطاستيك.. ذاك المسرب الجانبي الذي يستريح فيه الأدب من سفره الطولي عبر الطريق السيار للوغوس والهابيتوس..طريق العادي والواقعي والمألوف..وإذا كانت إحدى أجلى تمظهرات الفانطاستيك في المجموعة هي أنسنة الحيوان، فإنه يصبح حديقة مزهرة وعامرة بالحياة والمعنى في قصة 'متر على مترين'..هناك تستحيل البقعة الضيقة التي اقتطعها العم من الزقاق الضيق أصلا، وسيّجها.. تستحيل إلى حديقة غناء.. مرج تتوارد عليه الطيور بألوانها وأنواعها، بما فيها الطيور المنقرضة والعائدة إلى زمن النبي سليمان. أليس العم بشكل ما رمزا للكاتب أيضا.. ذاك الحرفي الذي يسيج كتابته بحدود النوع الأدبي، لكن السياج لا يلبث أن يسقط لأن كل كتابة حلم وتبشير بالجمال وتجاوز، سيسارع الساسة في لحظة تاريخية ما إلى وأده؟.
مهما يكن، فضمن هذا المنظور الفانطاستيكي للعالم، سيكون عاديا أن يلبس شخص وجه كلب، ويحتمي آخر بدفتي كتاب ناطق، ويصنع العم جنة لانهائية للحلم والطيور..وبودنا أن ننهي هذه القراءة المقتضبة بشهادة الكاتب سعيد بوكرامي المتصدرة للمجموعة حيث يقول إنها 'تجربة متميزة منفتحة على التراث العربي والعالمي الحداثي.. (كيتش) قصصي حقيقي يجاور ما لا يجاور بين السرد والموسيقى والرسم والفلسفة..(8)
هوامش:
1. 'عندما يطير الفلاسفة' محمد آيت حنا- منشورات أجراس 2010 ص:55
2. نفسه ص:40
3. نفسه ص:62
4. نفسه ص:65 / 66
5. شعرية السخرية في القصة القصيرة - محمد الزموري ـ منشورات مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، مكناس- ص:79
6. 'عندما يطير الفلاسفة' ص:17
7. نفسه ص:24
8. نفسه ص:9
كاتب مغربي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire