lundi 28 mars 2016



 ..المختارات الأدبية عمل محفوف بالمطبات 
.فعلى الذي يختار "الأروع" أو "الأجمل" أن يكون جميلا
بخلاف ذلك، لا يعدو الاختيار أن يكون مهزلة أو تصفية حساب

حسن البقالي 2013

dimanche 27 mars 2016


جبة بورخيس
  
                              إلى روح د.عبد الغفار مكاوي






(1)

ليس هناك ما يشير إلى السنة بالتحديد، لكنني أجزم، فيما يشبه البداهة، بأننا في آخر العقد الأول من الألفية الثالثة..
هواء رطب يحيل إلى بدايات الخريف، ويوقظ في العظام الخلايا النائمة لروماتيزم متربص.. أسوي البطانية على ركبتيّ، وأزداد التصاقا بالأريكة.
كأنها اليقظة
التلفزة تعرض برنامجا وثائقيا عن الفن.. يقول راوي البرنامج إن لوحات "جيروم بوش" شبيهة بدلاء تهوي إلى الجحيم، قبل أن تعود محملة بالكائنات الشوهاء والمسوخ.. أنسى ما يقوله الراوي وأنشغل بعوالمي الداخلية، أقتفي أثر حلم عن قط اسمه توماسينو يرث ثروة هائلة عن صاحبته العجوز المتوفاة، وطبعا لا يدري أنه ورث إلا حين أتجسد فيه.. أنا اللحظة القط الذي ورث، والذي يحلم بأكثر من الحليب والبسكويت.
هو الحلم إذن
حلم مزدوج.. زهري اللون (ما تزال لدي بقايا ارتسامات عن اللون الزهري الذي كان يسم ستائر منزل قديم) يقطعه جرس مرفوقا بصوت يعلو بالنداء:
- السيد بورخيس.. السيد بورخيس
- من بالباب؟
- سيدي.. لقد أتيتك بالقطة التي تبحث عنها منذ مدة
- حقا؟
- من نوع شيرازي.. صحيحة ومعافاة، ذات شعر طويل ناعم وعينين عسليتين
- الباب مفتوح، أدخلها.. هناك سمك بالثلاجة، وماء.
سمعت أكرة الباب تدار، والباب يفتح ووقع قدمين وتردد أنفاس ونية مشوبة بنزوعات شريرة.. ساورني خاطر يقارب اليقين بأن الرجل الذي يحاذيني الآن، في طريقه إلى المطبخ، ليس غريبا عني كليا، وبأن دخوله شقتي ليس لمجرد الإتيان بقطة شيرازية مفترضة. فما الذي يريد؟ وللحظة خلت أنني في مكان آخر، وأن الذي يجلس هناك ظلي فقط، الذي لا يعنيه تماما ما قد يحدث..
- أين الثلاجة؟
- هناك..
 كان الراوي يقول إن المسوخ ليست في النهاية سوى تجميع غير واقعي لعناصر واقعية، وإن ذلك ما يصنعه الفن عموما، حتى في أشكاله الأكثر تطرفا وإيغالا في الفانطاستيك.. بدا لي أن الرأي لم يكن مجانبا للصواب، لكنه مجرد مظهر واحد لحقيقة برؤوس متعددة، فما حدود الواقعي وغير الواقعي فيما أعيشه اللحظة؟
- كل شئ على ما يرام يا سيد بورخيس.. مع السلامة
- مع السلامة.. لكن أخبرني، هل للقطة اسم؟
- بالتأكيد.. اسمها "ماريا قداما".*

(2)


اسمي بورخيس
خورخي لويس بورخيس
وغير المهتمين بشؤون الأدب يلقبونني بأعمى الطابق الثالث بعمارة الحبوس.
هناك وقائع لا يتم إدراكها بالشكل الصحيح إلا ضمن نظام من الإشارات والصيرورات المتواشجة.. ولعل استعراض بعض نثار حياتي الشخصية المفتقرة إلى ذروات وأمجاد، يفسر ولو جزئيا المآل الذي صرت إليه منذ تلك السنة الفارقة.. سنة 1986، والذي بدا للبعض انقلابا حقيقيا.
كان العالم يتابع المونديال
كأنما الأرض سهت عن دورانها حول الشمس، وجعلت تدور حول كرة محملة بالهواء، والفتى الأرجنتيني يسرق الأضواء بتتالي المباريات، بينما الأرجنتيني الآخر.. الكاتب الكوني الشاهق يحتضر في غرفة بجنيف. ربما مات "ميتة لذيذة" ذاك "الساحر حتى النهاية"، كما صرخ بذلك رفيقه "هكتور بيانسوتي"، لكن الخبر نزل علي ككارثة لا تحتمل.. لبثت دهرا خارج أي يقين.. كأنما أتفرج على موتي الشخصي من خلال ثقب ما.. مصدوما مذهولا من أثر حداد غلف العالم فجأة، مثل خيمة سوداء لا نهائية وغير محتاجة إلى تبرير.
وحين أفقت من ذهولي، كنت قد اتخذت القرار
قرار أن أصير بورخيس.


(3)


إن التاريخ المعاد، سواء كان تاريخ أشخاص أو دول أو مذاهب وأفكار، لا يعاد أبدا بنفس السيرورة.. ونسخة ثانية من بورخيس لن تحاكي الأصل إلا كما يحاكي الواقع حلما
لذلك
حين تعذر علي العمل – مثل بورخيس- بالمكتبة الوطنية، رغم المساعي العديدة التي قاربت العصاب، أنشأت "مكتبتي الوطنية" على الأنترنيت.. ذاك الكيس الذي لا قعر له والقادر على استيعاب عدد لا نهائي من الكتب والتطلعات.
روابط دون حصر
تحيل إلى روابط أخرى وكتب وعوالم ومتاهات.. كان الأنترنيت يعرف انبثاقته الأولى كقارة جديدة مهداة لأهل الأرض من قبل جبابرة لا مرئيين وشديدي الدهاء، فانسحبت بشكل شبه نهائي من العالم، لأصير مجرد كائن افتراضي يدبر أمر مكتبة افتراضية هائلة، ويعمل ما بوسعه من أجل الغرق التدريجي، لكن المحتم في الظلام..
من أجل أن يصير –مثل بورخيس- أعمى.


(4)


كثيرا ما فكرت بأن بورخيس صار أعمى إراديا، وبدافع رئيس: دافع الخوف من المرآة.
ولعلي أكثر الناس قابلية لتفهم ذلك
فأنا مثله أخاف المرآة.


(5)


كانت مرآة دائرية صغيرة
انكسرت في كفي، فرأيت وجهي مشطورا.. موزعا على شطري المرآة مثل فلق غير قابل للحم.. تحسست وجهي بيدي، وأنا أشيح به عن المرآة المكسورة والفلق القابع في الداخل، وأصيح في فزع ظاهر:
- أبعدوا عني هذا المسخ
انتزعت أمي المرآة من يدي، ووضعتها مقلوبة على الطاولة ، ثم أقبلت علي ضاحكة، وفاهت بكلمة واحدة لم أفقه معناها:
- بورخيس
وفي المساء
لدى عودتها من الجامعة، حيث تشتغل أستاذة آداب حديثة، قرأت علي "كتاب الرمل"، فكأنما قذفت بي إلى ربكة مدوخة لم أفق منها بعد.. فما زلت أبحث عن صفحة مستحيلة في متاهة من ورق أو رمل أو وهم حتى..


(6)


غريب
أن الشخص الذي أتى بماريا قداما لم يطلب شيئا كمقابل
لذلك فكرت في أنه لم يغادر شقتي كما حاول الإيهام بذلك.. كان هناك فتح للباب فإغلاق، ووقع قدمين يرتطمان بالأرضية، لكن الشقة ظلت مسكونة بأنفاس الرجل  وظلال نواياه.. هل يراقبني الآن، يكمل ترتيبات جريمة محتملة بدأ نسج خيوطها بمواء قطة شيرازية اسمها ماريا قداما، ولن ينهيها إلا بالإجهاز علي؟
انتهى البرنامج الوثائقي عن الفن ، وبدأ بث برنامج للواقع، حيث يعرض مجموعة من شبان  وشابات بقايا خلوة حميمية لأعين الكاميرا، موزعين بين النزوع الاستعرائي وإرادة التخفي. (هل كان ذلك في نفس القناة أو قناة أخرى؟)
أعين الكاميرا تتابع الشبان
والعينان المفترضتان للشخص القابع هناك (في زاوية خرساء للشقة) تتابعانني دون شك، تتحينان لحظة إغفائي..
ماريا أقبلت تهر على ذراعي..
أمسح على ظهرها فتقوسه قليلا، ثم تعود إلى هدأتها..
إنها نائمة الآن
وجفناي مثقلان
من يحلم منا بالآخر؟


----------------------------------------------

*ماريا قداما زوجة الكاتب الأرجنتيني بورخيس



jeudi 24 mars 2016

لانهاية




التقى شخصان على باب حديقة عمومية
بعد فترة كان الأول قد التهم ساندويتش التونة والطماطم الذي أحضره معه..تحرش بنساء كثيرات، وتبول على ساق خيزرانة، قبل أن يغادر بعينين نهمتين وروح رضية.أما الثاني فقد عكف على قراءة كتاب عن حديقة عمومية يلتقي على بابها شخصان..
 بعد ساعة يكون الأول قد التهم الساندويتش وتحرش بالنساء وتبول على الخيزران، بينما الثاني عاكف على قراءة كتاب عن حديقة عمومية يلتقي على بابها شخصان، يكون الأول قد التهم الساندويش...
هكذا

 إلى ما لا نهاية.


lundi 21 mars 2016



في ليلة باردة






حين اختلى بصورتها كتب:
"هل أستطيع أن أكون غير ما كنته على الدوام؟
الجحيم تبلعني..وأنا راض بذلك."
بعد لحظات كانت تكتب الجواب:
"تعال غدا وتخلص من الجحيم.
وإذا وجدتني نائمة، لا تعد من حيث أتيت..لا توقظني ، وأيضا لا تشرب وحدك زجاجة النبيذ..
احزم أمرك على البقاء
ودعني أتمتع بالحلم بك واقفا عند السرير تحرس أنفاسي."
كان ذلك في ليلة باردة لم تسطع فيها النجوم..
كان ذلك عند المفترق.

-------------------

توضيح قد لا يكون ضروريا:
في جريدة" النها"ر المغربية  ليوم  18/12/2008 ونقلا عن صحيفة "تلغراف" البريطانية خبر عن أول حالة معقدة بنظر الأطباء لاستخدام الأنترنيت أثناء النوم.ذلك أن أمرأة مسرنمة فتحت الحاسوب وكتبت الرسالة التالية:
"تعال غدا وتخلص من الجحيم.عشاء ومشروب عند الرابعة بعد الظهر.أحضر الكاقيار والنبيذ فقط"
الرسالة أعلاه هي التي حفزت القصة السابقة






الرقص تحت المطر 


samedi 19 mars 2016


توهان





بضع نحلات ظلت تحوم في البراري ..
لم تكن تتفقد رحيق الأزهار
ولا كان قفيرها بالقرب
بل مصنع كيماويات ألهب نومها بالكوابيس وضيع كل الحواس.
بضع نحلات ضيعت لغة الجهات.



     قراءة في مجموعة "مثل فيل يبدو عن بعد" لحسن البقالي

                                                        الكاتب: سعيد السوقايلي  
 
لا أبتغي من وراء قصص البقالي المندسة في مجموعته" مثل يبدو عن بعد" مثل حبات لؤلؤ قابعة في محار الأعماق، تنتظر غطاسا محترفا، لا أبغي سوى المتعة العاشقة وهو ينضد شخصياته وأزمنته وأمكنته ونهاياته الشائقة بحنكة قاص كبير، سيكون له الفضل الكبير في تدليل صعاب وعرة لمقاربة هذا الجنس القزم المثير للجدل حضورا وجمالية وتلقيا، طبعا سأترصد ما جادت به عدستي المتواضعة أمام قصص لها من التقنيات والخصائص ما يجعلها غاية في الصنعة السردية المحكمة. وفي مايلي أهم المحطات المؤثثة لفضاءات النصوص:

فضاء الغلاف والعنوان:
يتماهى عنوان المجموعة مع لوحة الغلاف في كثير من الايحاءات الدالة، بدءا بالألوان المتناغمة إلى المشهدية التشكيلية المؤثثة للغلاف، يبدو المشهد ككل ضاربا إلى اللون الأحمر القاتم في لحظة غروب، وهو ما يدل على درجة الإحتقان بأفول زمن ما، ولعله( زمن سردي)، بكل عناصره الموجودة في الأفق، السماء، مرآة الماء، الشجرة السامقة العجفاء، بينما يقف فيل مخطوط بفنية تشكيلية من حروف لاتينية( ربما يؤشر على مرجعية برانية لجنس ق ق ج)، يقف شامخا وثقيلا وضخما على مرأى الأفق باللون الأسود، على حد زومية الصورة، الفيل هنا إنما هو إحالة إلى جنس ق ق ج تصمد واقفة مخاتلة أمام غروب ما، احتقان ما، وبالتوازي مع العنوان المكتوب بالأصفر الذي استمد اشعاعيته البراقة الصارخة من هالة شمس بعيدة تكاد تخبو مواربة وجه الفيل الضخم، في اشارة إلى اشراقة الق ق ج في هذا الفضاء القاتم الآفل، وبفنية عالية نرى اللون الأبيض الخفيف لقرص الشمس وقد استعير منه لون اسم القاص حسن البقالي في أعلى الغلاف بشكل أفقي كرمز للديمومة والمسير قدما، وأيضا اسم جنس النصوص " القصة القصيرة جدا" وقد نزل عموديا من رحم الفيل كمؤشر على إجبارية ق ق ج وخطابها النازل على الرؤوس اثباتا ومشروعية، بكل ما تحمله ضخامة الفيل( أضخم كائن أرضي راهن) من ثقل وحضور في زمن استغبت فيه( من الغابة) الأجناس الأدبية على بعضها البعض.

الدفاع عن هوية ق ق ج: 
تصدرت المجموعة مقدمة نظرية للقاص حسن البقالي، بل يمكن اعتبارها بيانا جامعا مانعا لمفهوم ق ق ج بجميع شرائطها وعناصرها ومحدداتها، ولا يسعنا هنا إلى أن  نشير إلى تمثيل جميل ودقيق ورد في المقدمة، واصفا هذا الجنس بأنها " ليست المهر الذي لن يلبث أن يصير حصانا، إنها فرس من فصيلة "البوني" مكتملة في صغرها، متناغمة في مكنوناتها، وصارخة في جماليتها" ص7، القصة القصيرة جدا عنده هي تلك النقطة الضئيلة السوداء البعيدة على امتداد البياض، فهي مثل فيل يبدو عن بعد، كلما اقتربت منها صارت تكبر بدلالتها المكتنزة، وأبعاضها الصارخة، وهذا ما يعجز فيتا سحر مكنوناتها وبوحها، وكدليل على رهانه القاطع لإتباث مشروعتيها بين الأجناس الأخرى، صدر نصوصه بواحدة بعنوان" قصة" إكراما وإجلالا، يقول:( أطمح إلى كتابة قصة استثنائية، أقصر قصة يمكن أن تكتب...مضغوطة إلى أقصاها، بحيث تصير مجرد نقطة سوداء في امتداد البياض..نقطة شبيهة بفيل يبدو عن بعد.) ص 11، يبدو الهاجس الأكبر، والرهان النهائي هو القصر، الخاصية الأولى، قبل أي كلام في ق ق ج ، وذلك ما يؤشر على أهم محدداتها الأكثر جدلا بكلمة "جدا"، حتى أنه أخذ على عاتقه التنبيه إلى الاختيار الواعي والتفريق بين الغث والسمين فيها للتأكيد على أصالتها، وذلك ما فعله في قصة"كما يصنع لصوص الخراف"، حيث يختار أجمل وأبلغ القصص من أجل عرضها أينما حل وارتحل، كيف لا وهي شهرزاد المعاصرة، وهنا إشارة قوية إلى أن ارهاصاتها بادية من جهتنا في التراث العربي القديم، حيث مع شهرزاد تكمن المتعة والقصر والدهشة أثناء الحكي، يقول في قصة " كما قالت شهرزاد":( قال لها: عيناك كالبحر/..../قال:/ هذا أوان الحكي/ بعد حين كانت في كامل أهبتها، عيناها الواسعتان مشرعتان على المدى../ أخذ الإبرة من مربضها/ وبتركيز شديد جعل يخط بها على المؤق تفاصيل الحكاية.) ص13.

الشخصيات:
يصعب القبض على شخصيات القصة ق ج، لأسباب عديدة، أذكر منها أنها لا تشبه شخوص الرواية أو القصة الطويلة، تتمتع بامتيازات الحكي عنها وتوصيفها من لدن السارد، إضافة إلى حضورها الفاعل على طول الحكي والمواقف والأمكنة وغير ذلك، الشخوص، إذن، في ق ق ج شخوص ( مقموعة) للتعريف عن نفسها وحالاتها، هزيلة الحضور بالمعنى السردي، اللهم ما يشفع للتعريف بها، بعض أفعالها وسلوكاتها ومواقفها عبر كلمات النص، ولا شك أن هذا الضمور، هو بالضرورة، خاضع لقوانين كتابة الق ق ج ، هو ذلك الذي يقول عنه تشيخوف : ( لا ينبغي أن يكون قاضيا، يحكم الشخصيات وحواراتها، ولكن يجب أ، يكون شاهدا غير متحيز، أي يجب أن يكون على مسافة من الحدث والشخصيات)؛ وإذا ما رجعنا إلى قصص البقالي، ندرك هذا الأمر جيدا، حيث إنه يعرض شخوصه المتنوعة في حياد تام، غير آبه من تكون هذه الشخصيات، فنجده يحبك الأحداث والمواقف والحالات النفسية، ويترك البقية للقارئ، ليكتشف بنفسه من تكون هذه الشخصية، ولعل هذه من تقنيات ومن حسنات ق ق ج، حيث يشارك القارئ في مواجهة كتابة/ قراءة العمل وفهم مقصديته، دون أن يعلم أنه ينشط جهازه التأويلي، هنا طبعا تحضر بقوة جمالية التلقي، على العموم فشخصيات حسن البقالي تتأرجح بين حالات نفسية واجتماعية متباينة، وبين هوياتها الصرفية، ما بين متكلم( الكتاب طبعا) وغائب ومخاطب،فعل سبيل الحصر، يحضر البقالي بضميره المتكلم والغائب في نفس الآن، وهذه لعلها من التقنيات التي تضفي على القص مخاتلة على القارئ، إذ يحضر أحيانا متكلما بصفة الغائب، أو غائبا بصفة المتكلم كما في قصة (كما قالت شهرزاد)، ف: قال لها : عيناك كالبحر..إنما الكاتب نفسه يخاطب ق ق ج، أو في قصة ( قراءة نوعية) التي يقول فيها: ( الكتاب بين يدي/ وصورة الكاتبة جذابة على صدر الغلاف/ ما الفائدة من تقليب الصفحات...؟! )ص 18، فالضمير الظاهر في كلمة "يدي" متكلم، لا يدل بالضرورة على الكاتب، وإنما يدل على شريحة واسعة من القراء المبتذلين ذوي الثقافة السطحية والقشور، وبذلك يمكن أن بلحظ حضور الغائب عبر المتكلم؛ من جهة أخرى نلمس شخصيات غائبة مضمرة وعامة، شخصيات مجهولة تماما، تدل على نوعية من الناس العوام، حيث المواقف والسلوكات الهابطة بادية على ملامحها من ازدراء وضغينة وتربص جشع، ولعلها من سمات إنسان مبتذل مقهور، يتنفس واقعا مزريا وثقافة ناقصة، وهذا يتضح جليا في "شعور متبادل" و" بيننا "، ففي الأولى يقول :( نظر إليها/ نظرت إليه/ كان يعرفان بعضهما/ ويعرفان ألا شيئا يجمع بينهما/غير نظرات مثقلة بازدراء متبادل وحقد مكين)ص22، بادية هي القيم المنحطة التي مافتئ البقالي يذكر بها عبر نصوصه، وكما لو أنه يذكرنا، استنكارا، بزوال الحياة الطافحة بقيم الخير والمحبة والتسامح.
وهناك أيضا صنف من الشخصيات الغريبة والضالة والمحبطة وسط عالم غريب ينوء تحت التيارات والإيديولوجيات المعاصرة التي أماتت الإنسان عقلا ووجدانا وملة، ففي نص" التوحيدي" يصف شخصياته بالعجول لصخب لهوها وحديثها وآرائها، سرعان ما تكتشف أنها تعيشفي اللاجدوى والعياء والجوع والغربة، حين تطل عليها بشكل سوريالي مفاجئ شخصية التوحيدي مغمغما " أنا الغريب، أنا التوحيدي" ثم اختفى.ص 16. أ, في قصة "نفاذ صبر" تصل الذروة بان تغتال الشخصية أحلامها نكاية بعالم بئيس، ونكاية بنفسه التائهة( أقتلع ما بداخله من أحلام/ رصفها أمامه مثل فراخ أجهدتها العتمة/ وأطلق الرصاص ) ص 43.
 وعبر نصوص أخرى عديدة، يحتفي البقالي بشخصيات معلومة معروفة، تناصا ومساءلة ومعارضة، وعيا منه باستعراض موسوعيته في إعادة النظر لبعض المفاهيم العلمية والفلسفية..أو إشراكا لثقافة القارئ، ولعل هذه أيضا من سمات الق ق ج التي تخاطب فيه ثقافته ودرايته أيضا، واضعا إياها أمام الإشكالات الفكرية غير المطلقة والقابلة للنقاش والمساءلة، فمن ديكارت إلى بورخيس إلى داروين والتوحيدي وآدم وابن المعتز.. إلى أخرى معروفة ذات حضور فاعل في المجتمع كالجندي والفنان والكاتب التجريبي والزعيم وقائد الجيش وغيرهم، تتوزع أدوار هذه الشخصيات بين فروج الحكي لتؤثث لنفسها مكانا تبوح فيه عن أفكارها وأفعالها... تحت سياط السخرية الطافحة للسارد وقلبه للمفاهيم والقناعات  التي تسلم بها، إذ إيمانا منه يرى البقالي أن العالم يعرف تقلبات وعواصف حثيثة من عصر لأخر، فلم الإيمان بكل شيء نسبي، ففي قصة " كوجيطو" تبدو الرؤية الفلسفية غاية في العصيان على الفهم، فكما لو أننا أمام نص فلسفي تأملي وليس بقصة، وهنا تكمن صعوبة فهم بعض نصوص البقالي التأملية.. بل يتجاوز الأمر إلى ساءلة ما علمي رياضي وفلسفي، نجده ينادد كوجيطو ديكارت ونظرية الخيال لباشلار، ليعملهما في مجال الأدب، هذا العلم الإنساني الدبق والعصي على لملمته في مفاهيم علية دقيقة، حيث يصرح بكوجيطو جديد هو: (أنا أتخيل إذن أنا غير موجدود)ص 14،في سخرية تامة لواقع المثقف إزاء العلم أجمع، وفي نص "كاتب تجريبي" يقر بنسبية الحياة، والتأكيد على أن البؤس الإنساني رهين بدرجات الكمال ، كما يرد أيضا غربة الإنسان المعاصر في نصه التوحيدي إلى الصخب والغباء والخواء:( انتبهنا إلى أننا غرباء عن بعضنا... وكل ما نصنعه أننا نداري الغربة بالصخب) ص 16، هذا فيض من غيض، وثراء فاحش في عرض شخصيات متنوعة ومتعددة، دبقة وعصية، مضمرة وظاهرة بقدر يسير، ينم على دربة الكاتب في قولبتها بشكل مبأر تاشيا ووفاء لتجربة القص القصيرة جدا عنده.

المكان:
لا يمكن تصور قصة بلا حدث أو شخصيات، مثلما لا يمكن تصور أحداث وشخصيات بلا أمكنة، فالمكان هو الحلبة أو الوعاء الذي يعطي للقص أبعاده الملموسة، المكان إذن هو جغرافيا السرد، وبوصلته االدقيقة والتي من دونها نضيع حتى في القبض على مقصدية القصة ودلالاتها، وإلا سقطت في العدم، ليس هنا من فراغ، فحتى الطبيعة لا تقبل الفراغ كما يقال، مشيرين بذلك إلى حتمية المكان في القصة، ولو في تجلياتها الأكثر عصيانا وغموضا على الإدراك، من هنا يمكننا الحديث، ونحن بصدد المجموعة، عن أمكنة متنوعة، بعيدة أو قريبة، ظاهرة أو مضمرة، ملموسة أو افتراضية، فبجرد صغير ومحصور، على كثرة الأمكنة في قصص المجموعة، نعاين أمكنة من قبيل: البياض، المدى، المهرجان، الخدر، خريطة الإمبراطورية، الجنة، الكون، الحلبة، أنفاق الداخل، حديقة عمومية، مدارس، حانات، الغابة، الفم، الكف، غابات السافانا...نلمس بهذا المعجم المكاني الزاخر تلون المكان في المجموعة، فهناك مثلا:
المكان الورقي: كما في "قصة" حيث حلبة الحدث هي الورقة ذلك البياض الذي يحضن الق ق ج مثل نقطة سوداء شبيهة بفيل عن بعد.
المكان المفتوح: في قصة "كما قالت شهرزاد"حيث ينفتح المكان على مصراعيه( عيناك كالبحر.. عيناها المشرعتان على المدى..) ص 13،أو الصحراء كما في قصة "قطرة": ( لقد قتله/ كانت هناك قطرة وحيدة في صحراء التيه/ أحدهما فقط يستحقها/ بجدارة قاتل حقيقي)ص 42 ، أو في قصة "الزهيمر"( يغالب هلع المسافات المفتوحة بخطو متهدج/يمشي../ويواصل المشي../فالطريق أحيانا خير من الوصول)ص46.
المكان المغلق: حث ينكمش الحكي داخل جدران عينية أثناء القراءة، كما في "ضريبة"ص32 و"هما"ص 60، ففي الأولى يدخل الزعيم إلى غرفة التحميض ويعالج الصور.. أما في الثانية ( الريح تعول بالخارج../في الغرفة القديمة زوجان يرقدان ظهرا لظهر).
المكان الحلمي النفسي: كما ي قصة "البطل"و"نفاذ صبر"، المكان ليس حقيقيا ولا أثيريا، بل هو مكان مبأر في أقصى منطقة في اللاوعي، مكان غير ملموس وغير بعدي وغير فيزيائي، مكان منفلت متذبذب يراهن على التداعيات المهزوزة للشخصية، يقول في "البطل": خاض حروبا عديدة انتصر فيها جميعا../ وحين أفاق ..كانت آثار معركته الأخيرة بادية/ في شكل بلل على السروال)ص34؛ أما في "نفاذ صبر" فيحضر الزمن النفسي جليا، مامن أبعاد فيزيائية، إن هي إلا تهيآت نفسية أشبه بتخيلات مرضى العقل والنفس، وهذا النوع من المكان نادر إلا عند السحرة والدجالين وقارئي الأفكار والمتصوفة أصحاب الفتوحات والكرامات أو صانعي أفلام الخيال العلمي، يقول:( اقتلع ما بداخله من أحلام/ رصفها أمامه مثل فراخ أجهدتها العتمة/ وأطلق الرصاص)ص43. 
المكان المتقاطع:حيث يتقاطع المكان الواقعي بالمكان الكمي في جدلية رغبة من الكاتب ي مقايضة الحلم بالواقعكنوع من التسامي على واقع مرير نزوعا نحو الكمال الروحي، ففي قص" تبادل" يتقاطع المكانان ويتجادبان ما بين سرير النوم وفضاء الحلم وأثيرية السماء، يقول:( حلمت بأني شخص أخر../وفي منطقة تقاطع الحلم بالواقع تبادلنا الموقعين:/هو الآن أسير سرير وبقايا نعاس../وأنا جناح من ضوء مفرد في السماوات البعيدة.)ص51.
المكان الروحاني أو المكان الخالد: ويتمثل في قصة"كاتب تجريبي" حيث يلقي بهذا الأخير في الجنة ذلك المكان يقبل الروح رافضا البدن الفاني الناقص :( مرت على جفنيه غمامة ألقت به في الجنة./رأى نفسه وحيدا وخالدا) ص15.
المكان الإفتراضي أو الرقمي:وهو المكان الذي عوض قديما عوالم وفضاءات الجن والسحر والحوريات ليحضر بقوة مع التطور التكنولوجي الرقمي، فأصبح فضاءا جديرا بركوبه والانتشاء بعوالمه الافترضية لما تمنحه التقنية الرقمية من قوة علمية(ساحرة) في التخيل والإبداع، كما في قصتيه "الشبيه"و"تنبيه"، أختار الثانية لبلاغتها الرقمية وأبعادها الافتراضية:( سأنقر على اسمك بفأرة غاضبة/ أحذفك من قائمة المفضلات/ وأرمي بك في سلة المهملات/ أعطني مبررا واحدا كي لا أفعل ذلك/ أو حصن نفسك ضد سم الفئران)ص79.

الزمان:
من الصعب فرز أزمنة البقالي وفكها، فهي تتداخل، تتقاطع أحيانا أو تتناظر، أو تتسارع أو تتباطأ محدثة عصيانا سرديا داخل القصة، ويحدث حالة استنفار زمنية لا يشد معها القارئ أنفاسه، وتلك سمة البقالي عبر نصوصه التي تحيلنا بعضها، بشكل متشابك، إلى الواقعية السحرية أ, الحلمية التي تتمظهر في القص الأمريكي-لاتيني، أزمنة البقالي متعددة، تتباين حسب ما يلي:
الزمن الروحي: في قصة التوحيدي، الذي كعادة المتصوفة، يسافر عبر الزمن، ويسيح سياحة روحية قافزا على محطات زمنية، حيث دخل إلى جلبة صاخبة لأشخاص معاصرين وهم في أحاديث مبتذلة ( عليه آثار سفر طويل وجوع إلى المعنى.جاس بين الوجوه بعينين قلقتين، وغمغم:"أنا الغريب..أنا التوحيدي، ثم اختفى) ص16.
الزمن اللولبي:حيث يتلولب الزمن في الحكاية إلى ما نهاية بين شخصين، التقيا في حديقة عامة، الأول قضى مآرب هجينة ومبتذلة، والثاني كان عاكفا على كتاب عن شخصين تقابلا في حديقة عامة، ولم يكن الشخصان سوى المذكورين سالفا، وهكذا إلى ما نهاية، كما تشير قصة"لا نهاية" ص17.
الزمن المباشر: تحيلنا القصة على نقل مباشر لأحداثها، وهذه تقنية معلوماتية عبر البث المباشر، حيث يسرد الكاتب وقائع على المباشر كما يبدو في أفعال القصة:( ستأتي امرأة هذا المساء، وتبدأ في التبرم من حياة مضنية، سأدعها تحكي آلامها حتى أخر قطرة...ثم أسخر منها طبعا، كأن أقول لها: - خذي ردفيك بعيدا عن أريكتي..) ص19.
الزمان المتسارع: كما يبدو في قصة الفنان، يتسارع الزمن حثيثا ويفعل فعله العضوي بشخص الفنان أمام بورتريه الشخصي: ( بعد نصف قرن لم يبرح الفنان صورة الشاب الذي كانه، وبالمقابل أصبح البورتريه عجوزا بألف تجعيدة وظهر متهدل..داهمته الشيخوخة دفعة واحدة.. وأزفت ساعة الرحيل)ص 21.
الزمن التناظري: وجها لوجه، يقف الزمن الماضي  كمؤثر سلبي أمام الزمن الحاضر، تحت مبدأ السببية، حيث أفعال أو أوقات ماضوية تلقي بظلالها السوداء على موقف راهن زمنيا بين الكاتب نفسه وشخص أخر، يقول: ( ربما بدر مني فعل ما / في يوم لا أذكره أو حياة سابقة/ أغاظ الشخص الذي يجلس قبالتي/ هذا ما استنتجته على الأقل من نظراته التي تتوعدني) ص 24.
الزمن المطلق:باد في قصة"دم السلالات" والتي تحكي عن رغبة آدم في إدراك الخلود والمطلق السعيد ليقع في فخ المحرم وقد انطلى ذلك على سلالته التي ماتفتأ ترنو وتتطلع إلى السماء حتى أحدثت ثقبا في الأوزون.
الزن السابق/ اللاحق/ الحلمي: هنا تتداخل الأزمنة دفعة واحدة في كل من القصص التالية " أصل الأنواع" ص29،"البطل"ص34، "جد وحفيد"ص 37، يتسلسل الزمن فيها عبر ذكر أحداث وقعت في الماضي وتؤثر في زمن لاحق حاضر لينهي السارد تفاصيل القصة بزمن حلمي مهيمن على الأحداث السابقة كما في قصة"أصل الأنواع" التي سأكتفي بمضمونها لطولها النسبي، حين كان داروين يعاين، في إحدى الغابات الإفريقية، زعيم القردة، يبدو المشهد، بداية، صادما، حين كان يحاول كبير القردة عبثا التواصل مع القطيع بالأصوات والحركات والإشارات، دون جدوى، وإذا به ينتصب، كبشري، ويصيح: تبا لكم من قردة بليدة..وسط دهشة الجميع، وفطنة داروين إلى الحلقة المفقودة، ليفيق أخيرا من نومه وحلمه ويحرر "أصل الأنواع".
الزمن التاريخي: يحضر هذا اليوم إحالة إلى فترة تاريخية من حياة العرب السياسية، واشكالية الحكم فيها حيث الخوف باديا على أحد الحكام العرب القدامى من ضياع ملكه، فابتدع أسلوب الاحتكار والتملك القبلي للسلطة ومبدأ التوريث، في قصة"عقدة ابن المعتز" يقول:( لدارسي التاريخ أن يمعنوا في الباروديا العميقة التي صاغها ابن المعتز لنظام الحكم عن غير قصد: كان خليفة بين يوم وليلة. فما من حاكم عربي إلا أصابه الذهول إزاء هذه الحالة: كيف يعقل أن يحكم المرء يوما واحدا يفضي إلى حتفه..؟! . تحقق أمر كهذا هو بالنسبة إليهم مرادف للجنون..لذلك أبدعوا مبدأ التوريث.) ص31.
الزمن الصاعد الحلمي: في قصة" رحلة"، يتصاعد الزمن عبر أحداث متعاقبة ليصب في زمن حلمي تعبيرا على أن الاستسلام أيضا للأحلام التي لم تعد وردية كفاية، ولم تعد المعاناة مع الواقع فحسب بل تعداه إلى الحلم أيضا، يقول:( هيأ الشيخ راحلته، ودع أهله، وغادر بحثا عن امرأة وعد بها في حلم./ عبر فلوات عديدة./ وداهمته أخطار كادت تفتك به./ وحين أنهكه الترحال رأى في حلم آخر نبتة صبار شائكة تفتح له أدرعها./ عرف أنه وقع ضحية مكر ما./ توضأ../ صلى ركعتين لله واسع القدرة../ ونام ي حضن النبتة.)ص40.
الزمن التقابلي السريع: يتقابل زمانان في قصة "الطريق" بشكل تناظري، كل زمن له خط ومسار مغاير بدءا من درجة الانطلاق ليلتقيا بأقصى سرعة في نقطة، ستفعل فعلها بالحدث الرئيس، مشيرة إلى أن للصدفة مساوئ أيضا، هناك طبعا قرائن تؤشر على هذا الزمن التقابلي السريع مثل ( السرعة القصوى، السرعة المسجلة على العداد )، الأمر هنا أشبه بانفجار كبير بين قطارين سريعين، التقيا للتو، دون أدنى معرفة سابقة أو نوايا مبيتة، الزمن هنا فاعل رئيس في إبراز بؤرة الحدث المتوترة، يقول:( على الطريق سيارة بسرعة قصوى، وعلى مقربة من اللهفة امرأة تنتظر../ بالسرعة المسجلة على العداد يأمل السائق أن يرتمي قريبا في الحضن السخي../ وعلى الجهة المعاكسة شخص آخر يسوق سيارته بنفس السرعة، على أمل لقاء امرأة لا تقل شوقا..هي في الواقع زوجة السائق الأول../ سيلتقيان عند منعرج ما، دون أن يعرف أحدهما بوجود الأخر أو نواياه../ وحدها الطريق تعرف ما يجري../ هي الحبلى بالمفاجآت.) ص 58.
الزمن المبتور: يتقدم الزمن في قصة ( وأنت) بأحداث القصة، خالقا توترا وتشويقا لدى القارئ، ليتوقف ويبتر فجأة، معلنا عن نهاية ناقصة، وعيا من السارد بإشراك القارئ في استشراف نهاية ما، أو تصرف حكيم..يقول :( حلكة شديدة../ ووابل من المطر ينهمر على الزجاج الأمامي للسيارة..ثم صوت ارتطام..صرخة مكتومة../ ولا شيء/ من المحتمل أنني خلفت جثة ورائي../ هل كان على أن أتوقف للتأكد؟/ أنت مثلا، ماذا تعتقد؟!) 59.
الزمنالزمن المسترسل البطيء: في قصة "حالة سيكولوجية " ص74، يسترسل الزمن راسما خطا سرديا بطيئا، متوترا، تنشد معه أعصاب القارئ حين يغمر الشخصية سكون وانتظار قاتلين، ووقت ووحدة بطيئين، ترقبا لجرس ما دون جدوى، سوى دارية السكون المتكرر.

النهاية:
بعيدا عن النهايات السعيدة أو الحزينة في السرد الأخر ( الرواية والقصة القصيرة)، تتنوع النهايات ف ق ق ج، خاصة عند حسن البقالي، تماشيا ومواضعة مع ما تعارف عليه في هذا الجنس الجديد،من قصر وقزمية، تأنف نمطية النهايات المعتادة، وإلا عرفت نشازا سرديا على مستوى الحبكة، فكان من الضروري تنويع النهاية بخلق نماذج منها غير مألوفة، وهذا سر سحرها وجاذبيتها، وقد تعارف على أن النهاية أو القفلة هي أهم عنصر حساس في ق ق ج، فهي في وقعها في نفسية المتلقي مثلما تفعلها قصيدة الهايكو الجيدة،  نلمح في قصص البقالي نهايات من قبل:
نهاية عادية: حيث قفلة القصة نهائية ومنتهية مكتفية تفضي إلى احتمالات أخرى، كما في قصة " كما يصنع لصوص الخراف"،"التوحيدي"، "هذا المساء"، "دم السلالة"، أو كما تشير العبارة التالية:( فانتبهوا إلى ثقب في الأوزون) "دم السلالة" ص28، أو في "أصل الأنواع":( وشرع في تحرير أصل الأنواع) ص30، أو في"عقدة ابن المعتز":( لذلك أبدعوا مبدأ التوريث) ص31.
نهاية صادمة: في قصة" البطل" ونهايتها صادمة: ( وحين أفاق..كانت آثار معركته الأخيرة بادية في شكل بلل على السروال) ص34، أو قصة "تحول" :( أنت محق..أنا سميرة ..سمير سابقا)ص49.، أو في قصة " قائد محنك":( قسم الجيش نصفين وقال: اقتتلا)ص35، أ, في قصة"نبوءة":( أخذوا أمهم إلأى غابة بعيدة وتخلصوا منها هناك) ص39.
نهاية مغلقة: حيث تنغلق النهاية على ذاتها في قصة "رحلة": ( صلى ركعتين لله واسع القدرة..ونام في حضن النبتة) ص 40.
نهاية مفتوحة: في قصة "وضع اشكالي":( وعليه..يجدر بالقارئ أن يضع مختلف السيناريوهات المحتملة لوضع مماثل) ص52. أو قصة" الطريق" ص58:( وحدها الطريق تعرف ما يجري.. هي الحبلى بالمفاجآت) . أو في قصة"وأنت"ص59:(هل كان علي أن أتوقف للتأكد؟ أنت مثلا، ماذا تعتقد..؟!
النهاية الصادمة اللذيذة: بادية بشكل شيق ومثير في قصة"العين" ص71، المقتبسةعن واقعة حقيقية لامرأة أمريكية تتابع سرقة منزلها على المباشر انطلاقا من كاميرا بيتها وهي بمقر عملها، حيث اللص الشاب يدخل غرفة النوم، يعبث بأشيائهأ، يقترب من الدولاب، السرير ، لتنتهي القصة هكذا ( أرتعش من تداعيات المشهد..لكنه وسيم..لو أنني كنت هناك).

تقنيات السرد:
الإيقاع السردي: لا زلت أذكر، ذات لقاء مع القاص حسن البقالي، عبارة غاية في الأهمية:" سيضيف الشعراء الكثير إلى ق ق ج"، الأمر صحيح إلى أبعد ما يكون، لما يعرفه هذا الجنس السردي اللطيف من مصاهرة مع قصيدة النثر في كثير من التزاوجات منها التكثيف والإيجاز والترميز وانفكاك الحبكة أحيانا، وهي استعارة تقنية من التوتر الذي تعرفه قصيدة النثر نفسها، إضافة إلى التشظي والتشذير والتوازي والتكرار ونظام التسطير المتقطع للنص وغيرها من محددات الشعر؛ عودة إلى الحضور الشعري في السرد، أسجل أن البقالي وهو يقر بفضيلة الشعراء على الق ق ج، أنه، وهو ليس بالشاعر، قد حفلت نصوصه بتلك التقنيات الغزيرة،فتح بأنك إزاء قصائد نثر خالصة، وهذا في رأيي سيطرح أزقا نقديا خطيرا، يعصف بالقناعات السائدة حول مسألة الإيقاعية في الشعر وحده، بل بات الحديث، منذ الآن فصاعدا، بأن لمعشر السراد باع طويل في الإيقاع سرديا بالنصوص القصصية، ولم لا نقول بإيقاعية النثر أيضا، إنه إشكال جديد، لم يلتفت إليه أحد بالشكل الصريح، وفي ما يلي أوجز أهم تقنيات التي تتقاطع مع الشعر:
السرد: صيغ ووصف السرد في قصص البقالي عبر مشاهد ولقطات ولوحات وتفاصيل خلقت أصنافا من الحبكة تارة أحادية الحدث، أو مركبة ومزدوجة لأحداث متماسكة تتعاضد وإن تداخلت فيها الأمكنة والأزمنة، ضمن حكي مدبج ومصوغ كسبائك غاية في الإتقان.
التجاور والتناوب: نلحظ تجاورا لمشاهد وصور كما في قصة"بننا" :( بيننا واجهة زجاجية/ أراه من خلالها ولا يراني/ هو يضع أصبعه في خيشومه يزيل آتار مخاط../ وأنا في الخفاء أرقبه مثل إله صغير جشع.) ص23، يبدو المشهدان مختلفين بين مكانين متجاورين تفصلهما واجهة زجاجية، ومشهدين متناوبين ( صورة الأخر وهو) وفي المقابل صورة السارد المترقب.
التكرار والتوازي: هناك تكرار لبعض الألفاظ أو الجمل أو الصور تؤدي دلالات متماثلة أو مختلفة وهي تقنية شعرية تروم خلق إيقاع مضبوط داخل السرد كما في قصة"الفراشات":( لم تكن الفراشات تحذرنا/ الفراشات الملونة الجميلة/ الفراشات الهشة/ الفراشات الجميلة الهشة) ص 50.
التسطير السردي:لا شك أن تقنية التسطير ( السطر الواحد) هي واحدة من خصائص الشعر والتي تفكك بنية القصيدة مانحة إياها نوعا من التوتر وانحلال المقصدية، ثائرة بذلك على قانون التماسك الأرسطي والمنطقية في بناء النصوص ككل، نلمس حضورا شبه كلي في قصص البقالي، حيث نظام التسطير في كل سطر، فكأنما أمام قصائد شعرية، هذه التقنية تعاضد مبدأ التجاور والتكرار والتوازي بين صور وكلمات ومشاهد القصص، نتوقف مع هذا في قصة " نفاذ صبر" فالعوازل دالة على تقنية التسطير، يقول:( اقتلع ما بداخله من أحلام/ رصفها أمامه مثل فراخ أجهدتها العتمة/ وأطلق الرصاص) ص 43.
جمالية الصورة  أو التقاطع مع القصيدة:هناك قصص ضمن المجموعة، يمكن القول أنها قصائد، بل تتجاوز قصائد المجنسة قبليا في قصديتها وشعريتها، لمل تحفل به من صور شعرية رائعة، كاملة في إيقاعها ورمزيتها وبلاغتها وسرياليتها الضاربة في خرق المألوف كما تفعل تماما بعض قصائد النثر، ويمكن هنا تسجيل منعطف لافت في علاقة الأجناس، هل يمكن القول بانمحاء الأجناسية بين النصوص والخطابات؟ وهل ستتداخل النصوص في ما بينها حتى لا نستطيع مع ذلك تفريقا وتفكيكا؟؛ على العموم نلمس تلك الشاعرية العالية، ولولا التجنيس على الغلاف، في قصص من مثل " ماذا يحدث حين تترك فمك مفتوحا أثناء النوم" ص56، أو "رائحة الأسلاف"ص68، أو "الألم" والتي سأختارها لعمقها وفتنتها:(تحسست ألمي/ كان مثل نواة حبة المحامي عظيما في تجاويف القلب/ نزعته / جففته جيدا ودققته/ ذروته للريح/ لم أرتح إلا هنيهة / صرت بعدها أتنفسه عبر الهواء)ص73.
 بقي أن أقول أني لم أقل كل شيء لأنه بقي كل شيء حول هذه المجموعة الرائدة في الق ق ج، غنية وثرية، تحتاج إلى وقفات نقدية عميقة، وإلى قارئ كاسر، ببساطة إنها نصوص أتت من مستقبل الق ق ج لترخي بظلالها في راهنها الذي يجرب أكثر مما يقعد، كان لابد لها أن تحضر راهنا لتدلل صعابا جمة لمن يخطبون ودها على حد قول حسن البقالي.

سعيد السوقايلي


mercredi 16 mars 2016


                            الملتقى الوطني الأول للقصة القصيرة  ببرشيد

                                                                  ماي 2014 

mardi 15 mars 2016




الديناصور





"حين استيقظ، كان الديناصور ما يزال هناك"
                                                           أوغيسطو مونتيروسو




- إن الله لا يلعب النرد
قال بصوت متهدج، وأغلق دونه الباب، في محاولة أخرى لتجاهل الأصوات المتعالية والواعدة بفتح جديد في المضمار.
المضمار الذي ظل يتربع على عرشه لفترة.. هو الذي أهدى البشرية أهم نظرية في تفسير الكون وقوانين الفيزياء، منذ سقوط التفاحة الشهيرة على سلفه الكبير نيوتن.
هو ألبرت إينشتاين.
- ومن يكون ألبرت إينشتاين حتى يملي على الله ما ينبغي فعله؟
أتاه الرد.
كانت فترة عصيبة..
للأزمة الاقتصادية والإيديولوجيات وأشباح الحروب التي قامت والتي ستنشب بعد حين..
فترة الأسئلة الكبرى واللايقين
وهو..
ألبرت إينشتاين.. لم يعد واثقا من شيئ، فالنسبية العامة التي اطمأن إليها العالم من قبل، لم تعد كفيلة بتفسير كل شيئ.. وذاك النزوع المتزايد إلى "اللامتناهي في الصغر" يقتضي نظرة مغايرة إلى الكون، ونظريات جديدة.
حبة الرمل
بل أدق:
واحد من تريليون جزء من حبة الرمل.. الجسيم اللامتناهي في الدقة.. اللامتناهي في الصغر.. الصغير حدّ التلاشي، والذي لن يصادفه العامة في طريقهم أبدا، هل يمكن النفاذ إلى أسراره من خلال نفس المنظور السابق للكون الذي تؤثثه الجاذبية والأبعاد الأربعة وتباطؤ الزمن...؟
الكون الشاسع الكبير.. اللامتناهي في الكبر.
لاشيئ يدعو إلى الاطمئنان
المد القومي يزداد رسوخا في الأرض.. وسطوع نجم جندي سابق اسمه أدولف هتلر، بالشارب الصغير، والصليب المعقوف على خلفية حمراء..
وجه وصليب معقوف
ووعد بالقيامة الآتية زحفا.. فوضى واضطراب.. في حين تتعزز الميكانيكا الكوانتية بالمزيد من الأنصار والأبحاث الفاحصة لكل ما هو دقيق: فوتونات.. بروتونات.. الكترونات.. جسيمات دقيقة.. دقيقة جدا. وكل جسيم أرض موارة.. مضطربة.. للفوضى وفقدان البوصلة والاحتمالات المتعددة واللايقين..
اللايقين دائما..
في الواقع.. في الفن.. وفي العلم
احتمالات بنفس القدر من الحجية، رغم ما يبدو عليها من تعارض.. احتمال أن تكون هنا أو هناك.. أو هنا وهناك في نفس الآن..
- إن الله لا يلعب النرد
قال
فأجابوه:
- ومن تكون حتى تملي على الله ما ينبغي فعله؟
أغلق دونه الباب
وعاش ما تبقى من سنين العمر يبحث عن مبدإ موحد لقوى الكون.. عن نظرية تضم النظريات جميعا، ومعادلة تفسر الكل: ما تناهى في الصغر، وما تناهي في الكبر، وما بينهما من مساحات وأضواء وعناقيد مجرات بلا حصر.

************************

بعد نحو ستين عاما على وفاة ألبرت إينشتاين..
وعلى الضفة الجنوبية من البحر المتوسط، سيجد شخص يدعى أحمد البحيري نفسه في مواجهة إشكالية مشابهة..
هو الذي عرف في الوسط الثقافي كناقد روائي، وألف "جاذبية" المحكيات الكبرى والمجرات الرمزية التي تعكسها مئات الصفحات المشكلة للعمل الروائي، ما باله ينجر الآن إلى هذا الجنس السردي الوليد.. الجنس الصغير جدا.. القصير جدا الذي لا يتعدى النص فيه أحيانا سطرا من بضع كلمات؟
جملة واحدة
سطر واحد
وها أنت ضمن الزمرة الكاتبة، لك اسم في المنتديات وصورة، وعينان حمراوان للرد على أي انتقاد.
لقد استيقظ أحمد البحيري
فوجد الديناصور ما يزال هناك.. لكنه –فيما يشبه القطعة النقدية الكبرى المصرفة إلى سنتيمات- ديناصور متشظٍّ.. موزع على مئات السحليات الصغيرة جدا.. آلاف السحليات التي تحرك أذيالها وتدور في كل اتجاه.
حبة الرمل
الحبة التي تضج بعالم من الأصوات والأسماء والمصائر.. ونصوص بدون عدّ.. نصوص على النت.. على الورق. عبر "الإس إم إس".. الجميع يكتب والجميع ينشر، والجميع يبارك للجميع..
أي مد عارم !
- الكاتب ليس بهلوانا في سيرك
لكن الكوانتيين الجدد في مجال السرد يزدادون إبحارا في النت، وتشبثا بالتكثيف حدّ تكتيف الكاتب وشل حركة المتخيل..
- ومن يكون أحمد البحيري حتى يملي على الكاتب شكله؟
تذكر، في إحدى أمسيات انشغاله بتسونامي القص هذا، الروسي "فلاديمير بروب" واجتهاده في صياغة نمذجة كونية لموتيفات الحكاية الشعبية، فتساءل عن نظرية أشمل، توحد الأجناس السردية كلها: الحكايا الشعبية والعالمة.. النصوص الطويلة والقصيرة والأقصر.. الأمثولات والملاحم والقصص القصيرة جدا.. فكر في معادلة فلسفية تفسر الكل: ما تناهى في الصغر، وتناهى في الكبر، وما بينهما من مساحات وأضواء ومجرات..
- الكاتب ليس بهلوانا في سيرك
قال
فأجابوه:
- ومن تكون كي تملي على الكاتب شكله؟
أغلق دونه الباب
وجعل يبحث عن الديناصور.