mardi 22 décembre 2015


تلك القصيرة جدا




" في حصة للدرس، سأل المدرس تلاميذه أن يرسموا فيلا. بعد اجتهادات متعددة، قام أحد التلاميذ ورسم نقطة على السبورة، فكان من الطبيعي أن يسأله المدرس عن سر النقطة.
قال التلميذ:
- إنها الفيل الذي طلبت رسمه.
- لكني لا أرى سوى نقطة ضئيلة في امتداد السواد.
- طبعا..لأن الفيل بعيد جدا."

تلك النقطة الضئيلة على السبورة هي القصة القصيرة جدا..التي تبشر بعالم له شكل فيل أو غابة..أو درج إلى العمق الإنساني..شكل يتعاون كل من الكاتب والقارئ على رسم ملامحه والنفاذ إلى بواطنه وتتبع إيحاءاته.
فالقصة القصيرة جدا، هذا الجنس الوليد..الجنس/الطفل الذي يخطو خطواته الأولى تحت أنظار آباء متشككين، ويثغثغ في وجه العالم، لها من الجاذبية وجمالية الخطاب ما يغري حاملي الأقلام بخطب ودها، ضدا على الامتعاض الذي تخلفه لدى البعض ممن استمرؤوا المعاطف القديمة.
لقد وجدت القصة القصيرة جدا لها داعما أساسيا يتمثل في الأنترنيت والنشر الإلكتروني، مثلما وجدت القصة القصيرة في الصحافة داعمها في زمن النشأة، مع فارق جوهري بين الداعمين: فالأنترنيت سلة بدون قعر، كيس سحري من الأزمنة الحديثة يسع كل شئ ويقبل كل شئ، مما شجع على حب الظهور واستسهال الكتابة، وبالتالي تفريخ الرداءة.
إن الرافضين للقصة القصيرة جدا والمتشككين في أحقيتها في الانضمام إلى قائمة الأجناس الأدبية يعثرون على مبرراتهم في النماذج الهزيلة منها، التي تطفح بها المواقع والمنتديات الإلكترونية، ويتناسون بذلك أن عشرات، أو مئات السلاحف، ما إن تفقس حتى تبدأ في الركض جهة البحر..لكن غالبيتها تسقط في الطريق فريسة ضعفها وهشاشتها، ولا يصل منها إلا النزر اليسير، دون أن يدفعنا ذلك إلى التشكيك في هوية السلاحف وضرورتها لدورة الطبيعة.
أكيد أن المشكلة ليست في النوع الأدبي، بقدر ما تتعلق بالنص المفرد. فثمة فقط نص جيد وآخر ردئ..
فما الذي يجعل من القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا مغريا، ونصا قصصيا جميلا؟

1) أول ما يلفت النظر في القصة القصيرة جدا هو صغر حجمها.وهي خاصية تعد ضمن السياق الثقافي الراهن فضيلة أدبية. ذلك أن التوجه المتزايد نحو الأصغر فالأصغر، سواء في مجال الأدب أو المستحدثات التقنية وأدوات التواصل والفرجة، إضافة إلى شروط النشر الإلكتروني..كل ذلك نحت (أو هو في طورذلك) قارئا "نموذجيا" بمواصفات خاصة أهمها هاجس التنقل بين المواد، وبالتالي النفور من كل تطويل يعوق عملية "الزابينغ" هاته أو يؤخرها.
من هذا المنطلق تبدو القصة القصيرة جدا مثل مظلة زرقاء هبطت من فرجة أجناسية ما في الوقت المناسب، تلبية لتطلع وإشباعا لحاجة.

2) من الناحية الإستتيقية، فأية نظرة مسحية لكائنات الطبيعة يؤكد أن صغارها أجمل دوما من كبارها.وكأن النفس البشرية ترتاح أكثر للشئ الصغير وتبتهج به.
على أن القصة القصيرة جدا ليست المهر الذي لن يلبث أن يصير حصانا..إنها فرس من فصيلة "البوني" مكتملة في صغرها، متناغمة في مكوناتها، وصارخة في جماليتها.

3) ولأنها قصيرة جدا فلها من الخفة ما يتيح لها التحليق من سماء إلى أخرى  بكل يسر، والتأرجح بين العوالم..بين الحلم واليقظة، الواقع والخيال، التاريخي واللحظي، المتخيل والمتناص..
خفة في التحليق ليست بالضرورة نقيضا لثقل المحتوى..فكل قصة جديرة بالانتساب إلى القص القصير جدا تخبئ تحت سترتها عالما كاملا قد لا يبدو إلا منتهاه كجبل الثلج، لكنه  قائم في العمق، ويحتاج إلى من يستدعيه إلى البروز بالأدوات والأسئلة الملائمة.

4) وهي قصة قبل أن تكون قصيرة جدا..بما يبقيها ضمن محفل السرد بحكائيتها التي تميزها عن الأجناس الأخرى المتاخمة..إنها لا تحتاج إلى كثير وصف  أو تأطير مشهدي أو حبكة حتى أحيانا..لكن هناك إجمالا شخصا في ذروة حدث ما، ويجدر به أن يتصرف. ليس مفروضا عليه أن يبين لنا كيف امتلأت الكأس حكيا..لكن المأمول أن يجعلنا نبتل.

5) القصر يستدعي بلاغة الإيجاز والاقتصاد اللغوي والحذف والإضمار..أي السير بالتكثيف إلى مداه، حتى تستوي القصة فاكهة مجففة لا تسكنها إلا حلاوتها، بعد أن تكون قد نفضت عنها كل الزوائد والمياه الفاسدة. لكن يهمني التذكير من جديد بأن التكثيف ينبغي ألا يصير وسواسا قهريا، بحيث يستحيل إلى تكتيف للكاتب، و يصير الإضمار إلى ضمور في جسد النص.
6) لا يهم أن تتذرع القصة بالسخرية أو المفارقة..أن تأتي مغموسة في ليل الحلم أو مضرجة باليقظة..طالعة كحبة موز من قشرة طازجة أو موغلة في لحم المتناص والترميز..
الأهم أن تكون قادرة على الإدهاش، من خلال خرق المتعارف عليه، وخلخلة البنى وليّ عنق المتوقع..فالدهشة رديفة للأدب الجميل.وعلى القصة القصيرة جدا أن تحفر في عمق الدهشة .

7) الجرأة في طرق أبواب الطابوهات والمضامين الإشكالية الواعدة بالاشتعال هي إحدى الخاصيات اللصيقة  بالأدب والفن عموما.
أما القصة القصيرة جدا فتحتاج إلى جرأة من نوع آخر..فالقول إنها جنس وليد في طور التشكل والتلامح لا يمنع أنها حققت في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة ما يكفي من المنجز لمحاولة تلمس الخاصيات المميزة لها كجنس..فلا خوف عليها من مناوشة الأجناس الأخرى للكتابة عبر التسرب الخاطف إلى مناطقها، والعودة سالمة إلى موقعها السردي وقد اغتنت بإضافة  أو ازينت بقلادة ..
ينبغي أن يتم ذلك انطلاقا من وعي بالجنس وثقة كافية في صلابته التجنيسية، لا عن جهل بالحدود أو تجريب بليد.

8) ارتباطا بالحجم الصغير للقصة القصيرة جدا، صارت المجموعة المطبوعة من النصوص تتميز بكثافة سكانية عالية.وأية نظرة سريعة إلى الفهرس تؤكد هذه النظرة الإحصائية.
لذلك، ومهما كان الكاتب مجيدا، فإنه لن يتمكن من شد القارئ طويلا، ما لم ينوع في التيمات وتقنيات الكتابة وزوايا النظرة والتبئير..
فإذا كان التنويع ضروريا داخل فضاء المجموعات ككل، فإنه في القصة القصيرة جدا أكثر ضرورة.

هل قلت إن القصة القصيرة جدا نقطة على السبورة؟
عفوا..لقد غادر التلاميذ صف الدراسة.وها هو الطفل يمسك بيد أمه باتجاه فقيه الحي.
هي جلسة لقراءة الطالع.وزجاجة الكريستال ليست سوى نقطة سماق على كف الطفل.وعليه أن يحدق فيها جيدا، فعبرها سينفذ إلى عوالم متعددة، قد تصهل فيها جياد وتبسم غيد حسان أو يوقع بضحايا محتملين..
هنا..تحت خيمة ما في العراء، تلتقي القصة القصيرة جدا بالسحر.





 حسن البقالي
مثل فيل يبدو عن بعد 
(قصص قصيرة جدا)














Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire