العصف بالكلام
(هناك شاعرة في دمي)
1)
"لنعصف بالكلام حتى لا يعود
أحد يعرف من أين تشرق الشمس"
قالت..
وها
أبحث عن شمس فلا أجد..
فالكلام
الذي عصفتِ به هرّب الشمس إلي, وترك مكانها في مجرى الأفلاك محض ثقب أسود هائل
وشبيه بوهدة تارتاروس ..الكلام الذي عصفتِ به كورَها تكويرا وأرسل ضوءها في
المسام..فما حاجتي إلى شمس أخرى لن تكون سوى انعكاس لشمس الداخل؟..
"لنعصف
بالكلام"..
تفتحت
أكمام الورد أمام ناظري, وأيقنت أن اللغة حين استوت مثل حصيرة جميلة في حقول
الكون, كانت تدعوك إليها كي تأخذي من خيوطها وقشها وخيزراها ما توشين به "سقوف
المجاز", وأن الشعر لم يكن أبدا حلوا إلا حين تنطط مثل جرو بلون الصحراء في
باحات مخيلتك..هيا اعصفي بالكلام فأنت الريح الطيبة حاملة الغيم ملقحة الزهر.. أنت
الموج الأخضر فوق الكثبان العصية على الإمساك.
أعرف الآن
أني ما وطئت قدماي أرض الكلام واستعجلتُ مقارعة الحرف إلا كي أقرأك, ويسيح دمي في
الفلوات التي ترسمها كلماتك مترعة بالضوء والأنساغ الخبيئة..أبحث عن الشمس لأغيظها
حين أصور لها استغنائي, لكن لا شمس هناك غير ما يشرق منك عليّ يغذي الخلايا
بالجمال..
جمالك
الجمال..
جمالك
منتهاه حين يسافر بي حد الرعب.
فالآن
أعرف أن الرعب أحد ألوان الطيف في قوس الجمال ..أهو اللون الأحمر تحت عيني ثور
مبشر بالذبح اللذيذ أم الأسود الكحلي في عين امرأة أخذت وليدها الغيلان قبل الضمة
الأولى, أم أنه فحسب ذاك الزخم الشبيه بطنين النحل الذي يسكن أنفاس الهواء , حين
أقرأ لك فلا أجد نفسي معي ولا أجد الشمس, ويكون علي أن أسافر في سمائك
بعيدا..أستحيل إلى طائر سيمورغ وأحلق حتى تخمة التحليق..حتى الإحتراق بنار الوصول
إليك؟.
أحيانا
يقول العدو لعدوه والضحية للجلاد وهما مشرفان على الأبدية تحت سطوة السيف الأقرب
إلى الوريد من الحبل:
"
إنه منتهى الجمال أن أقف بين يديك وأسلمك عنقي دون رفة جفن, فاللحظة التي تحاشيتها
كثيرا تتقطر الآن من شفرتك اللماعة كحليب الشهوة.
هيا
حزّ عنقي بما يحَرّق حناياك من عشق, فأنا اللحظة لا أعشق – يا قاتلي- سواك."
فكيف
لا أرحل فيك إليك..
وعند
المنتهى أسلمك آخر ما تبقى مني, وفي العين دمعة وحيدة..دمعة حب.
هيا
اعصفي بالكلام..
جرّيني
دائخا إليك, مبلبل الداخل ومبعثرا كالحصاد, فلا أطلب سوى أن أكون هباءة في فراغ
الكون متعتها انتظار مرورك كي تعيدي تشكيل جزيئاتها بكلمة منك..
اعصفي
بالكلام..
وامنحيني
ميزة وحيدة:
أن
أكون قارئك الأبدي..رضيع كلماتك الذي لا يشتهي الفطام.
2)
سألوني
عنك سيدتي
لم
يحزر أحد انك غامضة
كالسماق
أو
قرية جبلية منقوعة في رغوة الضباب..
ورائقة..
كبسمةٍ طفلةٍ على ساق نخلة
في
يومِ صحو دافق البياض
أنك كل
الكلام الذي لم يقل بعد
والصمت
الذي ضاعت رؤاه في الشعاب
بعض أحلام "ولاّدة"..و "إلزا
تريولي"..
وملامح
امرأة لم يذكرها التاريخ
ألهمت
بوذا سبل اليقظة
والحقائق
الأربع للألم..
هي
سيدة العصف بالكلمات
تربيها
في العتمة.. بجلد رقيق مملح , تنصت لوجيبها وتروي جدائلها بصبيب الروح..وحين
يفارقها الطلق تكون اللغة أعادت ترتيب أبجديتها والسماء التمعت بألف بارقة من
بنفسج..
الحبر
سعيد في يدها.. يأخذ اللون الذي ترضاه الظباء للألحاظ الجميلة, ويتيه في دفقات كدم
الذبيح خلف استعارات تحسن إخفاءها شتلات يركبها الندى وطاقيات لعش الغراب.. خلف
أخيلة من حمإ شفيف و زهر نارنج يلبس الربيع.. خلف خيل لم يدجنها أحد.
لتكن
أميرة قرطبة
بنت
المستكفي التي تمشي وتتيه تيها..
او
إلزا القادمة من صقعٍ شرقَ المستقبل
زنره
ماياكوفسكي برؤاه..
أو تكن
طيفا يبعثه المساء إلى بيتي..
في شكل
ظرف
أو مس
بهيج..
هي
سيدة العصف بالكلمات
تربيها
في العتمة
ثم
ترسلها في الضوء..
كي تسد
على قارئها أبواب الخلاص.
3)
الجدار
في أقصى الغرفة..
يود لو
يغير زاوية الرؤية
والشجرة
الفارهة التي تغالب الزمن وخدوش الأطفال وأنفاس العشاق..
تشرئب
بفروعها عبر الشباك
أما
الطائر أحمر الصدر الذي ألف الأغصان, فقد زاغ عنها الآن وحط على كتفي..
لأنه
يعرف السر منذ البارحة.
يعرف
أن الضوء الذي خبأته جهة القلب طيف تعويذة ومضت به مقلتاك..
وأن
بحر الياسمين الذي فاض عن حلمي نبعه الكرز الطالع من شفتيك..
والمدن
التي شعشعت في خاطري نُتَف من رؤاك.
وأني
الآن موزع على الجهات
كدم لا
ثأر له..
أو
خطيئة من الزمن الأول
أتحين
كل آن لمسة من يديك
تشكل
طين العناصر من جديد
وتنضو
عني أوراق الشتات.
الجدار
في أقصى الغرفة
ما
الذي يبغيه من أرقي؟
أتكون
الشجرة التي تشبّع جذعها بلهاث الأشواق قالت له..أم هو الطائر الذي شيمته ضمُّ
جناحيه على الأسرار..
سأروح
الآن إلى أفقي
حيث
سيدة العصف بالكلمات
تجادل
الثالوث الذي يفرقني:
الطائرو الشجرة و الجدار..
وترفو
للكل كسوة واحدة تعيد لمزقي وحدتها
وتسد
مجرى العراء.
4)
يحدث
أن يرتدي الكون حلة الصباح
ويغدو
صبيا بلثغة محببة وبسمة..
كإشراق
الربيع
كي يحاكي طلعتك
*****
يحدث
أن يخر الماء على ركبتيه
متلعثما
في رؤاه
ضاجا
بحمرة الشفق
قبل
دخول الحديقة التي طرزتها يوما..
كي
يسقي وردتك
*****
يحدث
أن يقول دي سوسير يوما:
إن الكلمة لا تكون وحدها أبدا
لكن
سارد بورخيس انتهى به التطواف في أصول المعنى
إلى
كلمة وحيدة تختزل العالم
وتقول
الذي كان أو سيكون
لعل ما
بلل حلمه رذاذ من جبل قاسيون
او من
جبل الأولمب
حيث
تكفي كلمة واحدة لإيجاد الأشياء
أما
أنا فأكشط عن جسدي كل الكلمات
كي
أتشرب خمرتك.
5)
ظلام
في دمي فارشقيه بنظرة تصيب الشفق المحمي بالعتمات, أو إيماءة توقظ شوق الجذورِ إلى
بلل التراب.. بلاغةِ التكوين للعسجدة..
راحة
كفي دامعة..
وقلبي
حسير حين تواريك الظلال في تجاويف لغة قاصرة عن المعنى .. كيف أقول حالي حين
تكونين وحين تغيبين في المدى, فيشتعل الخيال شبيها بالفرقعات الأولى للكون وأضواء
التسلية في سماء الملوك.. كيف أقول الذي كان بيننا وظلام في دمي , وباللغة نكوص
إلى تأتأة الطفولة.
كيف
سلوك مدارجك عبر مقامات الحنين..
اقتفاء
لهاث الروح حائمة حول الخيام وعازفة
على
الجسد لحن السنين..
يا
شاعرتي
ألا
تدري كلماتك الحبلى بالجمال
أني
أغار مما تخفيه تحت أطرافها:
طيف تناجيه وضيف تغذيه من حليب استعارات لا تطال
يا
فاتنتي
ألا
تدري نظرات لحظك حين تحتضن المجال
أني
صريع نبيذها, تميل بيَ الدنيا من الوجد وتهفو ضفاف مر العامري بها إلى سكني..
أهواك
سيدتي
وأهوى
الريح التي تأتي بعصافير الذكرى إلى كبدي
وكل
الكلام الذي يأوي ليلا إليك
تفتلين
به القصيدة كي تقتليني بها
هيا
اسكبي شعرك في خاصرتي وماء لحظك في مداي
ودعيني
أرتق بحروف اسمك مزق السحاب..
لأجل
اكتمال الدائرة.
حسن البقالي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire