
حسام الدين نوالي- المغرب "حكاية اللانهائي في "قط شرودنجر
صنف : نقـــد بتـاريخ : 27/01/2015 03:39:00

غلاف المجموعة
باستفزاز جميل يختار (حسن البقالي) - في إصداره الأخير- دعوتنا إلى عوالم سردية تخييلية بعنوان عارٍ تماما وشفّاف لأبعد حدّ: "قط شرودنجر" وعنوان فرعي صغير: "قصص"؛ فيُجرجر نظريّة في الفزياء عنوةً وبصلابة ومفارقةٍ قاسية كي تَعْبر تُخم الحدود وتَدخُل دوائرَ التخييل الحكائي، أو يُجرجر نصوصا جماليةً - تُراهن على الإخفاء والمخاتلة والومضِ – كي تعبر الباب نحو صراحةِ وانكشافِ الفزياء.
وهذا "العبور" مِن [وَ إلى] دائرةٍ مقابلة هو بمعنى ما فعلُ تجاوز ، وانزياح، وتكسير. وهو في الآن نفسه رهانُ وسِمةُ كلّ إبداع. لكنه هنا بحمولة أكبر ووعي فني ووجودي معا سنجد "البقالي" يسعى من خلال 76 نصا إلى الاشتغال على تقاطع الدائرتين، وإلى الالتباس في الحدود، وإلى اللايقين. تماما كما في الحلم الشهير للحكيم الصيني حيث التحوّل من "تشوانغ تسو" إلى فراشة أو من فراشة إلى "تشوانغ تسو" ليس غير دلالة على أن "كل شيء هو كل شيء آخر" (1) ، هو النفي المطلق، وتحريض الشك والقلق، وهو في نهاية المطاف مُساءلة الألفة.
الأعمال التراثية التي تتخذ "الحلم" مادّة لها تسمي نفسها "تفسيرا"، والتفسير بشكلٍ ما امتدادٌ للأصل، وتمطيط، وكشفٌ عبر إعادته أو قوله بصيغة أخرى مغايرة. فيما يختار النص القرآني كلمةً بالغة الإثارة هي "العبور": "أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" (2)؛ وكأنما الرؤيا عالم مجاور للوجود الموضوعي يفصلهما مَعبر يلِجه العارفون. ذلك الباب الذي أعيى عالِم الفزياء "هلمولتر" البحثُ عنه والتدليل على تموقعنا بعدَه أو قبله في العالم الذي نعيشه، وهو الباب نفسه الذي بحثَ الفزيائي الرياضي "فرانك تيبلر" عن سؤال التخوم التي يحدّ دائرتَها، وعن كوننا هنا أو هناك حقيقةً، ليستنتج بعده الفيلسوف "نيك بوستروم" أننا "نعيش وهما عندما نتصوّر الأشياء حقيقة" (3).
إن اللا يقينية هذه، وسؤال الحقيقة والوهم هو نفسه مدار القصة الحاملة لعنوان المجموعة "قط شرودنجر"، بارتكاز إلى النظرية الشهيرة، فالسجين المُعاند وإدارة السجن المتصلّبة يتوقفان في تجاذب متساوي القوة بحيث يأنف السجين عن الطلب وتتمنع الإدارة في السؤال عنه بالمقابل، وفي قمةِ تواجُه هذين العالَمين تنتفي المعرف وينتفي اليقين، إذ "المنطق الرياضي يقر بالموت والحياة كلتيهما كاحتمالين واردين في ظل التزامن" (ص 35)، فيظلّ السجين بالضرورة (حيّا/ميتا) في الآن نفسه.
وهذا الاشتغال على دائرتين ينسحب على المجموعة كاملة في تقابل الحقيقة والوهم مرّة، والخيال والواقع مرة ثانية بحيث يصير اختيار قطب دون آخر مجازفة يقينٍ متهوّرٍ. فيما يحرص الكاتب على ترتيب النصوص بعناية بالغة كي يبني تسلّقَنا حبّة حبّة نحو رؤيا متناسقة من أول جد في شجرة الأنساب (ص2) إلى لحظة الانفتاح والرحيل والانتقال إلى "الدائرة" الأخرى حيث الصمت واللايقين في ذلك الوقت الذي "حان" (ص77)، واستطاع بحق أن يمنحنا إضاءات فسيحة للــ...
1 ـ عُـبــور
تماما مثلما يحكي جان كوكتو في "النسر ذو الرأسين" قصة حب لم تكتمل بين ملكة وشاب ثوري مناهض للملكية اسمه "ستانيسلاس" استطاع اقتحام خدرها ليقتلها، لكنه رأى فيها صورة حبيبته، ورأت فيه صورة حببيبها/زوجها الذي فقَدته في ليلة زفافها، فتعلقا ببعضهما، وتحوّلت الملكة إلى ثورية مناهضة، وتحوّل المناهض إلى مناصر للملكيّة، فيما الرقابة لا تقبل أن يكتمل هذا التعلّق فتقتلهما.
الحكاية هي سيرة عبور بين دائرتين، والتنقّل العسير المستحيل الذي يفضي للموت هو السيرة نفسها التي تفرشها حكايات "قط شرودنجر" في ومضات بالغة التكثيف والإدهاش؛ يصير فيها حلم التنقل بين عالَمين أو أكثر معبراً للموت، للاحركة، وللفجيعة، تماما كالرأس الذي يتنقّل بين البدوية في حلمها وأنطونيو تابوكي في أحلامه وحُلم آدم.. (ص 5) بحيث يغدو هذا الانتهاك المتتالي لشرانق أحلام الآخرين عذابا يعيشه السارد برأس صارت "بحجم شاحنة بينما باقي الجسد يتدلى منه كثؤلول تافه"، فيما الحلم لا يتوقف: حلم العبور. وتنتفي شهوته في الانتقال المتبادل بين شخص في بلده النورماندي الذي يحلم بزيارة المغرب مفتونا بالشمس وصياد الثعابين، هذا الأخير الذي يقبع في هامش ما يمنّي النفس "أن يعبر المتوسط إلى بلدةٍ بالنورماندي" (ص 6)، وبالتالي يجمعهما حلم ويفرقهما في الآن نفسه، في مفارقة ذكية سيعيد إنتاجها نصّ "خلوة" (ص 22) حيث الوسادتان من غير الزوجين تتزاوجان، وتفترقان في حضرة الزوجين.
فإذا كانت المجموعة تنخرط في البحث عن بوابة العبور بين عالمين فإنها بصراحة بالمُقابل تُمعن في التعذيب، والألم، وفي القسوة، في رسالة بالغة التشفير تُدين الــ...
2 ـ الشّبـيـه
فحين سأل الفزيائي الرياضي "فرانك تيبلر" (إن كنّا حقيقيين أم نُسَخا ممثّلة داخل حاسوب عملاق)، فإنما كان يسعى لإثباتٍ برهانيٍّ لكوننا خارج حُلم أو داخله، وقبْلَه حسم ابن عربي فقال "الحياة محض منام" مستندا إلى إرث ديني (5). وهذه مجموعة "قط شرودنجر" ترسم العالمَين كدائرتين متجاورتين متاحٌ التنقل بينهما، وتمنحنا بطاقة العبور بشرطٍ دقيق وحاسم، وبوعي مغاير:
في قفلة نص "للطوارئ" يقول مُحاور السارد:
- أنت الآن في نسخة مكرّرة من العالم.. نسخة بديلة للطوارئ (ص18)
وكأنما هو صوت "فرانك تيبلر" ينبعث هنا ليضع سبّابته على الحاسوب الضخم العملاق، وعلى النسخ التي نمثّلها داخله. نُسخٌ لا يمكن أن تمتد لأكثر من دائرة واحدة محدّدة سلفا تُعيد إنتاجها وإنتاج شبيهها إلى ما لانهاية؛ مثل امرأة تلِد شبيهتها في العمر والملامح والحركات وكل شيء، فتُحدّقان في بعضهما و"تنخرطان في دردشة بدون نهاية" (ص 26).
وكما نرسيسيوس، فإن الحلول في الشبيه، وفي المعشوق لا يفضي سوى للفناء، وللنهاية، وللخط الواحد الذي يفنى. فالشبيه الذي ليس غير "النسخة الخطأ" هو انعطاف وانكسار وموت. وتعويذة المحبّة التي (نُسخت) إحدى كلماتها جعلت "مفعولها يطال جدران الغرفة بدلا من بنت الجيران، [فكانت] تضيق في نزوع حميمي إلى الاحتضان وكأن آجرها واسمنتها آلاف القلوب النابضة" (ص20).
إن أي ارتباط حدّ التطبّع بدائرة دون أخرى هو إغلاق ومنفى في الواحد المفرد، وهو بصيغة ما حصارٌ للذّات في المجال الضيق إلى آخر رتقة تخيطها لسدّ كل منفذ (ص19). فيما بالمقابل تحتفل الأضمومة بالتعدد، والتنقل واللاثبات، في نماذج تمثّل بطاقة العبور نحو الممتد، ونحو الفسيح، ونحو ...
3 ـ اللانهائي
تقول الحكاية:
"قبل أن يموت، أوصى بأن يأخذوا جثّته إلى مدينة "بناريس"، هناك تُحرَق الجثث تحت رعاية إلهة "الغانج" المقدّس لتفلت من الحلول في أجساد أخرى، وتذهب رأسا إلى الجنّة.
كانت بناريس بعيدة جدا
فتركوه للجحيم"
الحلول الذي ليس غير دائرة لاتنتهي، تتكر، ولاتتوقف مثل عنقاء، هذا اللانهائي الذي تنتصر له المجموعة في عدد من النصوص (انتقام، ذاكرة القطط، المتنبي، بسوا..)حيث لا يتوقف الخط عند الشبيه والمماثل، وحيث الفعل المستمر للوجود والاختلاف في نفس الوقت.
"لا عزاء للفقراء" يصير عنوانا لا يوجّه ولا يؤطّر النص، بقدر ما يغدو خلاصة مفادها أن ما لاينخرط في الدائرة "فقيرٌ" وما لا يُضاعَف فقيرٌ، وما لا يتكرر تتركه الجماعة للجحيم، فيما يكون إبقاء الجمال وحفظه سببا في دوران الأرض بعد أن كانت مسطّحة ، فالفتاة "الجميلة" مرّة، و"الجميلة جدا" مرة ثانية، و"الرقيقة جدا" مرّة ثالثة تشفق الكائنات جميعها عليها وتعشقها الأرض بشغف فتلتف على نفسها كي "كي لا تصل الفتاة أبدا إلى حافتها" (ص10). وتلك رسالة المجموعة كلها، الخط الواحد الممتد لا يفضي لغير الموت والانتحار، فيما الدائري دوما يملؤه الجمال فلا ينتهي.
وإذ تغدو الأرض لا نهائية، لا تخم يحدّها، ولا نهايات، فإن العظَمة أيضا ستصير مرتبطة بالتعدد ومضاعَفة العالم كما في "بيسوا .. والآخرون" (ص11) و "المتنبي (ص12) ، وهما نصّان مرتبان جوار بعضهما. وتلك صرخةٌ ضد الواحد والثابت والمماثل، ومديحٌ صريحٌ للتحول الذي تمثّل الفراشة نموذجه المثالي والجميل، حيث "أن الثبات وهم والتحوّل السّمةُ الوحيدة والحقيقية للموجودات" (ص40)، وكأنما العالم يبني فقراته المضيئة على التحول في نماذج: "حواء الهابطة إلى الأرض. وهيراقليطس المرتمي في الماء البكر. وكافكا المتحول إلى حشرة. وطبعا.. الحشرة المتحوّلة بعد حين إلى فراشة" (ص40)، الفراشة التي ترتقي بهشاشتها لتصير أيقونة الممتد اللانهائي في مديح واحتفال هنا وهناك حيث "ملاين الملايين من الفراشات أوعَز إليها الرب أن تحلّ بالبلدة لتجعل منها :
4 ـ قصيدة ملوّنة
في قمة الاقتضاب والإشارة والبهاء يبدع القاص "حسن البقالي" نصوصه منحدرا من صُلب "الجد الأول في شجرة الأنساب" (ص2) ينهل من إرث إبداعي وقرائي واسعين "ويرنو للآتي"، في انتصار للحكاية. حكاية تبني نصوصها قصيرةً وقصيرة جدّا، استطاع بها الكاتب أن يشدّنا إليها بقوّة موقنا أن الأفق الواسع الذي ترسمه الحكاية والحكايات بترتيب ذكي داخل الأضمومة ليس غير موّال آسر لقصيدة ننصت إليها مشدودين إلى الإيغال في ثناياها؛ فلا نزيد "عن التخبط أكثر في الرمال المتحركة لقصّته/ ولقصصه" (ص3).
- حسن البقالي- قط شرودنجر (قصص)- مطبعة بوغاز- مكناس
- م.م أبا حسين- حول رمز الفراشة- مجلة معابر
- سورة يوسف – الآية43
- يحيى محمد- هل يمكن البرهنة على وجود الواقع الموضوعي؟ - موقع فلسفة العلم والفهم
- نفسه.
- "الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا" ينسبه الملا علي القاري في "الأسرار المرفوعة" للنبي (ص)، وينسبه غيره لعلي بن أبي طالب
.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire