اقصص رؤياك ()
بين الحضور والغياب يتأسس فعل الحكي..
ومن توق أزلي إلى الاكتمال تنسل خيوطه فتلتحم الجماعات وتضاعف الذوات وتصبح اللحظة الأخيرة لحظة مرجأة على الدوام.
كل حكي هو خطوة في الاتجاه المعاكس للموت
وفي نفس الوقت خطوة باتجاه لقاء ما..أو وعد بلقاء: أنا أكتب لأنني أعرف أنك هناك، تتربص بي وتتحين الفرصة كي تقرأني.
ولأنك هناك، علي أن ألبس حكايتي أجمل ما لدي..أقص ضفائرها، أقصقص زوائدها وأتقصى أنفاسها بشكل يضمن متابعتك لي وبقاءك إلى جانبي حتى النفس الأخير..
لأجل ذلك علي أن أنتقل من بساطة الحكي إلى صنعة القص..أنتقل من إنتاج الدلالة إلى كيفية إنتاجها..وأنقل الرهان من إشباع حاجة إلى خلق متعة.
إن قارئ القصة (والأدب عموما) لا يبحث عن معرفة العالم (لأن هناك حقولا معرفية وعلمية أخرى تتيح ذلك بشكل أفضل) لكنه يبحث عن حلم ما..لذة منشودة وامتداد لكينونته المعزولة والمطوقة بالسؤال ضمن مسارات الحيوات المعروضة أمامه بين دفتي كتاب (الدفتين اللتين ستأخذان الشكل الراهن المعروف بانتشار الأنترنيت والكتابة الرقمية).
والقصة تتيح ذلك بشكل أمثل..
لأنها لا تهتم بالعادي، والفائض عن الحاجة..هي تذهب رأسا إلى قلب الأشياء حيث تكتسي اللحظة القصصية أهمية كبرى استثنائية بالمقارنة مع الماقبل والمابعد..لحظة لقلب المصائر أيضا رأسا على عقب.
هكذا تبدو القصة في النهاية محطة لقاء بين عزلتين: عزلة الكاتب وعزلة القارئ..لقاء ينبغي أن تظلله المتعة.
مسيرة الإمتاع تبدأ حتما من البداية، حيث تستحيل كل كتابة إلى "كاماسوترا للغة" وقلب للعالم موضوع في كف القارئ ومتروك لنبضه.
فكيف يمكن التدليل على نبض قلب العالم بلغة باردة، محايدة..لغة صماء منقولة على وجه الإستعجال أو الضرورة من الطابق الأول للغة؟
ينبغي أن تكون لغة نابضة بالحياة..واشية بالافتتان..افتتان الكاتب بها، مغازلتها ومداورتها بحيث لا تبقى أية شعرة نشاز في تماوج الضفيرة.
لغة لا تستحيي من الاغتسال في منابع الشعر الدافقة قبل تمريغ جسدها الغض في باحة السرد.
أذكر دوما المقولة التالية:
"القصة كسباق الخيل أهم ما فيها البداية والنهاية"
صحيح أن كل كلمة في القصة، كل مكون أو مقطع سردي ينبغي أن يكون جديرا بالوجود، أي ضروريا لتنضيد البناء السردي وإنتاج الأثر..لكني أجدني ميالا بشكل خاص إلى النهايات الجميلة..النهايات الناجحة التي –بعيدا عن أي افتعال- تسبغ على كل ما سبق ظلا آخر، بترسيخ المعنى أو إحداث قلب مبرر لأفق الانتظار، أو بكل بساطة ختم القصة بما سيعتبره القارئ الختم الأمثل للنص المقروء.
النهايات الشبيهة بضربة المخلب الأخيرة.
كانت أمي حكاءة ممتازة..ولكثرة ما حكت لم تعد تقوى على مقاومة رغبة متزايدة في أن تصير هي نفسها موضوع حكاية..كثيرا ما قالت لي:
أنت تكتب القصة فلماذا لا تكتب قصتي؟
- فهل القصة مجرد سرد حياة؟ هل هي رصد للوقائع يحاكي الواقع؟
هل هي لسان أو عين أو قلب؟
أرثي أحيانا لكاتب يدعي أنه كاتب واقعي، لأن ذلك في أحسن الأحوال لا يعني شيئا..فكل كتابة قصصية، مهما بدت مغرقة في الحلمي والفانطاسي واللاواقع، هي كتابة واقعية بشكل ما تستمد شرعيتها من نسيجها الداخلي، لا غيره.وإذا كان المقصود بالواقعية "النزول" إلى قعر المجتمع ورصد أحوال المشردين والكادحين..فإننا لن نكون قد تخلصنا من سوء الفهم.
فكتابة القصة ليست رصدا لواقع
إنها انفتاح على جرح..
وتحريك له بشكل يجعل منها الجرح ذاته..لذلك فمصيرها أن تنزف أمام عيني القارئ حتى تفرغ من دمها..حتى النهاية.
والقصة بهذا المعنى هي المعادل الفني والجمالي لرحلة الإنسان القصيرة على الأرض.الإنسان ما إن يولد حتى يبدأ خطوته الأولى باتجاه الموت.والقصة ما إن تلفظ حافزها الأول حتى تتدحرج نحو نهايتها.فكلاهما القصة والإنسان رحلة باتجاه الغروب.
ويجدر بهذا الصدد أن نميز بين موقفين إزاء الموت تقفهما القصة بالنظر إلى المضمون أو الشكل.فهي كمضمون دفع للموت ورحلة في الاتجاه المعاكس، لكنها كشكل تدرج باتجاهه وارتماء في أحضانه.
من هنا ذاك الحضور المتواتر لموضوعة الموت في منجزي النصي حتى إنه يبدو كما لو أنه دفع للموت بالتأكيد عليه وترسيخ لحضوره..كأنه مداواة للداء بالذي هو الداء.
وبالمقابل –كوجه آخر للعملة- تقف الحياةعلى الطرف النقيض، ساخنة ولذيذة (حتى وهي ملأى بالمتاعب والشقاء الإنساني)..كفرخ دافئ يدافع بالصوصوة نقيضه المتوعد.وأقول "الطرف الآخر" تجاوزا لأن تيمتي القصة هاتين: الحياة/الموت هما في جوهر كل عمل إبداعي، تدفع إحداهما الأخرى، تغطيها أو تستدعيها وترافقها يدا في يد، بحيث يستحيل فعل الحب نفسه –كأجلى تمظهرات الحياة- إلى طقس تكفيني وخوض في تضاريس "جثة"..
"لقد كتبت كل القصص التي تحتملها الأرض واكتملت دورة الجنس"، لكن العطش إلى القصة لاينطفئ..ومع كل قصة جديدة، كل انفتاح جديد على الجرح، خفقان آخر لقلب العالم في وجه الموت.
فما الأفضل: الموت حكيا أو الموت بغياب الحكي؟
أيها القاص اقصص رؤياك ومت.
ومن توق أزلي إلى الاكتمال تنسل خيوطه فتلتحم الجماعات وتضاعف الذوات وتصبح اللحظة الأخيرة لحظة مرجأة على الدوام.
كل حكي هو خطوة في الاتجاه المعاكس للموت
وفي نفس الوقت خطوة باتجاه لقاء ما..أو وعد بلقاء: أنا أكتب لأنني أعرف أنك هناك، تتربص بي وتتحين الفرصة كي تقرأني.
ولأنك هناك، علي أن ألبس حكايتي أجمل ما لدي..أقص ضفائرها، أقصقص زوائدها وأتقصى أنفاسها بشكل يضمن متابعتك لي وبقاءك إلى جانبي حتى النفس الأخير..
لأجل ذلك علي أن أنتقل من بساطة الحكي إلى صنعة القص..أنتقل من إنتاج الدلالة إلى كيفية إنتاجها..وأنقل الرهان من إشباع حاجة إلى خلق متعة.
إن قارئ القصة (والأدب عموما) لا يبحث عن معرفة العالم (لأن هناك حقولا معرفية وعلمية أخرى تتيح ذلك بشكل أفضل) لكنه يبحث عن حلم ما..لذة منشودة وامتداد لكينونته المعزولة والمطوقة بالسؤال ضمن مسارات الحيوات المعروضة أمامه بين دفتي كتاب (الدفتين اللتين ستأخذان الشكل الراهن المعروف بانتشار الأنترنيت والكتابة الرقمية).
والقصة تتيح ذلك بشكل أمثل..
لأنها لا تهتم بالعادي، والفائض عن الحاجة..هي تذهب رأسا إلى قلب الأشياء حيث تكتسي اللحظة القصصية أهمية كبرى استثنائية بالمقارنة مع الماقبل والمابعد..لحظة لقلب المصائر أيضا رأسا على عقب.
هكذا تبدو القصة في النهاية محطة لقاء بين عزلتين: عزلة الكاتب وعزلة القارئ..لقاء ينبغي أن تظلله المتعة.
مسيرة الإمتاع تبدأ حتما من البداية، حيث تستحيل كل كتابة إلى "كاماسوترا للغة" وقلب للعالم موضوع في كف القارئ ومتروك لنبضه.
فكيف يمكن التدليل على نبض قلب العالم بلغة باردة، محايدة..لغة صماء منقولة على وجه الإستعجال أو الضرورة من الطابق الأول للغة؟
ينبغي أن تكون لغة نابضة بالحياة..واشية بالافتتان..افتتان الكاتب بها، مغازلتها ومداورتها بحيث لا تبقى أية شعرة نشاز في تماوج الضفيرة.
لغة لا تستحيي من الاغتسال في منابع الشعر الدافقة قبل تمريغ جسدها الغض في باحة السرد.
أذكر دوما المقولة التالية:
"القصة كسباق الخيل أهم ما فيها البداية والنهاية"
صحيح أن كل كلمة في القصة، كل مكون أو مقطع سردي ينبغي أن يكون جديرا بالوجود، أي ضروريا لتنضيد البناء السردي وإنتاج الأثر..لكني أجدني ميالا بشكل خاص إلى النهايات الجميلة..النهايات الناجحة التي –بعيدا عن أي افتعال- تسبغ على كل ما سبق ظلا آخر، بترسيخ المعنى أو إحداث قلب مبرر لأفق الانتظار، أو بكل بساطة ختم القصة بما سيعتبره القارئ الختم الأمثل للنص المقروء.
النهايات الشبيهة بضربة المخلب الأخيرة.
كانت أمي حكاءة ممتازة..ولكثرة ما حكت لم تعد تقوى على مقاومة رغبة متزايدة في أن تصير هي نفسها موضوع حكاية..كثيرا ما قالت لي:
أنت تكتب القصة فلماذا لا تكتب قصتي؟
- فهل القصة مجرد سرد حياة؟ هل هي رصد للوقائع يحاكي الواقع؟
هل هي لسان أو عين أو قلب؟
أرثي أحيانا لكاتب يدعي أنه كاتب واقعي، لأن ذلك في أحسن الأحوال لا يعني شيئا..فكل كتابة قصصية، مهما بدت مغرقة في الحلمي والفانطاسي واللاواقع، هي كتابة واقعية بشكل ما تستمد شرعيتها من نسيجها الداخلي، لا غيره.وإذا كان المقصود بالواقعية "النزول" إلى قعر المجتمع ورصد أحوال المشردين والكادحين..فإننا لن نكون قد تخلصنا من سوء الفهم.
فكتابة القصة ليست رصدا لواقع
إنها انفتاح على جرح..
وتحريك له بشكل يجعل منها الجرح ذاته..لذلك فمصيرها أن تنزف أمام عيني القارئ حتى تفرغ من دمها..حتى النهاية.
والقصة بهذا المعنى هي المعادل الفني والجمالي لرحلة الإنسان القصيرة على الأرض.الإنسان ما إن يولد حتى يبدأ خطوته الأولى باتجاه الموت.والقصة ما إن تلفظ حافزها الأول حتى تتدحرج نحو نهايتها.فكلاهما القصة والإنسان رحلة باتجاه الغروب.
ويجدر بهذا الصدد أن نميز بين موقفين إزاء الموت تقفهما القصة بالنظر إلى المضمون أو الشكل.فهي كمضمون دفع للموت ورحلة في الاتجاه المعاكس، لكنها كشكل تدرج باتجاهه وارتماء في أحضانه.
من هنا ذاك الحضور المتواتر لموضوعة الموت في منجزي النصي حتى إنه يبدو كما لو أنه دفع للموت بالتأكيد عليه وترسيخ لحضوره..كأنه مداواة للداء بالذي هو الداء.
وبالمقابل –كوجه آخر للعملة- تقف الحياةعلى الطرف النقيض، ساخنة ولذيذة (حتى وهي ملأى بالمتاعب والشقاء الإنساني)..كفرخ دافئ يدافع بالصوصوة نقيضه المتوعد.وأقول "الطرف الآخر" تجاوزا لأن تيمتي القصة هاتين: الحياة/الموت هما في جوهر كل عمل إبداعي، تدفع إحداهما الأخرى، تغطيها أو تستدعيها وترافقها يدا في يد، بحيث يستحيل فعل الحب نفسه –كأجلى تمظهرات الحياة- إلى طقس تكفيني وخوض في تضاريس "جثة"..
"لقد كتبت كل القصص التي تحتملها الأرض واكتملت دورة الجنس"، لكن العطش إلى القصة لاينطفئ..ومع كل قصة جديدة، كل انفتاح جديد على الجرح، خفقان آخر لقلب العالم في وجه الموت.
فما الأفضل: الموت حكيا أو الموت بغياب الحكي؟
أيها القاص اقصص رؤياك ومت.
() موضوع الشهادة التي شاركت بها في ملف “تكست” العراقية عن القصة العربية
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire