mardi 29 décembre 2015

عصفورات




الأرجح أنه كان يوم عيد, حين وقعت نسوة المدينة على اتفاق يبشر باستعادة الحياة لشاعرية مفتقدة..
كان لذلك علاقة مباشرة بما وقع لمارتا..
حين رأى عريسها الربيع مقرفصا على كتفيها ووشوش في أذنها برقة الحالمين: "عصفورتي"..لم تتمالك مارتا المغمورة بدفق اللحظة إلا أن تجدل من حبات المجاز حقيقة, وتستحيل توا إلى عصفورة بألوان متناغمة بهيجة, ريش ناعم, وعينين مسكونتين بدهشة خضراء.
- مارتا..مارتا..
كرر العريس في ذهول, وهو يراها تفرد جناحيها وتربت على ظهر الهواء برقة, شاقّة لها مسربا نحو نور الأعالي.
نسوة المدينة الضاحكات..
النسوة اللواتي دغدغت أحلامهن واقعة التحليق, قررن في يوم عيد أن يتحولن جميعهن إلى عصفورات.

                                                            الرقص تحت المطر
                              (قصص قصيرة جدا)       

jeudi 24 décembre 2015

       
      الحب هو ما يفيض فقط عن حب الذات

حسن البقالي                                                                                                

Sway - Dean Martin






            عندما يرقص "تونجو" رائع 
           "sway " على نغمات أغنية
                      خاصة حين يغنيها     
                      "دين مارتن"
 فإن الأمريصبح فقط كوكتيلا مدهشا من المتعة



   

mardi 22 décembre 2015


تلك القصيرة جدا




" في حصة للدرس، سأل المدرس تلاميذه أن يرسموا فيلا. بعد اجتهادات متعددة، قام أحد التلاميذ ورسم نقطة على السبورة، فكان من الطبيعي أن يسأله المدرس عن سر النقطة.
قال التلميذ:
- إنها الفيل الذي طلبت رسمه.
- لكني لا أرى سوى نقطة ضئيلة في امتداد السواد.
- طبعا..لأن الفيل بعيد جدا."

تلك النقطة الضئيلة على السبورة هي القصة القصيرة جدا..التي تبشر بعالم له شكل فيل أو غابة..أو درج إلى العمق الإنساني..شكل يتعاون كل من الكاتب والقارئ على رسم ملامحه والنفاذ إلى بواطنه وتتبع إيحاءاته.
فالقصة القصيرة جدا، هذا الجنس الوليد..الجنس/الطفل الذي يخطو خطواته الأولى تحت أنظار آباء متشككين، ويثغثغ في وجه العالم، لها من الجاذبية وجمالية الخطاب ما يغري حاملي الأقلام بخطب ودها، ضدا على الامتعاض الذي تخلفه لدى البعض ممن استمرؤوا المعاطف القديمة.
لقد وجدت القصة القصيرة جدا لها داعما أساسيا يتمثل في الأنترنيت والنشر الإلكتروني، مثلما وجدت القصة القصيرة في الصحافة داعمها في زمن النشأة، مع فارق جوهري بين الداعمين: فالأنترنيت سلة بدون قعر، كيس سحري من الأزمنة الحديثة يسع كل شئ ويقبل كل شئ، مما شجع على حب الظهور واستسهال الكتابة، وبالتالي تفريخ الرداءة.
إن الرافضين للقصة القصيرة جدا والمتشككين في أحقيتها في الانضمام إلى قائمة الأجناس الأدبية يعثرون على مبرراتهم في النماذج الهزيلة منها، التي تطفح بها المواقع والمنتديات الإلكترونية، ويتناسون بذلك أن عشرات، أو مئات السلاحف، ما إن تفقس حتى تبدأ في الركض جهة البحر..لكن غالبيتها تسقط في الطريق فريسة ضعفها وهشاشتها، ولا يصل منها إلا النزر اليسير، دون أن يدفعنا ذلك إلى التشكيك في هوية السلاحف وضرورتها لدورة الطبيعة.
أكيد أن المشكلة ليست في النوع الأدبي، بقدر ما تتعلق بالنص المفرد. فثمة فقط نص جيد وآخر ردئ..
فما الذي يجعل من القصة القصيرة جدا جنسا أدبيا مغريا، ونصا قصصيا جميلا؟

1) أول ما يلفت النظر في القصة القصيرة جدا هو صغر حجمها.وهي خاصية تعد ضمن السياق الثقافي الراهن فضيلة أدبية. ذلك أن التوجه المتزايد نحو الأصغر فالأصغر، سواء في مجال الأدب أو المستحدثات التقنية وأدوات التواصل والفرجة، إضافة إلى شروط النشر الإلكتروني..كل ذلك نحت (أو هو في طورذلك) قارئا "نموذجيا" بمواصفات خاصة أهمها هاجس التنقل بين المواد، وبالتالي النفور من كل تطويل يعوق عملية "الزابينغ" هاته أو يؤخرها.
من هذا المنطلق تبدو القصة القصيرة جدا مثل مظلة زرقاء هبطت من فرجة أجناسية ما في الوقت المناسب، تلبية لتطلع وإشباعا لحاجة.

2) من الناحية الإستتيقية، فأية نظرة مسحية لكائنات الطبيعة يؤكد أن صغارها أجمل دوما من كبارها.وكأن النفس البشرية ترتاح أكثر للشئ الصغير وتبتهج به.
على أن القصة القصيرة جدا ليست المهر الذي لن يلبث أن يصير حصانا..إنها فرس من فصيلة "البوني" مكتملة في صغرها، متناغمة في مكوناتها، وصارخة في جماليتها.

3) ولأنها قصيرة جدا فلها من الخفة ما يتيح لها التحليق من سماء إلى أخرى  بكل يسر، والتأرجح بين العوالم..بين الحلم واليقظة، الواقع والخيال، التاريخي واللحظي، المتخيل والمتناص..
خفة في التحليق ليست بالضرورة نقيضا لثقل المحتوى..فكل قصة جديرة بالانتساب إلى القص القصير جدا تخبئ تحت سترتها عالما كاملا قد لا يبدو إلا منتهاه كجبل الثلج، لكنه  قائم في العمق، ويحتاج إلى من يستدعيه إلى البروز بالأدوات والأسئلة الملائمة.

4) وهي قصة قبل أن تكون قصيرة جدا..بما يبقيها ضمن محفل السرد بحكائيتها التي تميزها عن الأجناس الأخرى المتاخمة..إنها لا تحتاج إلى كثير وصف  أو تأطير مشهدي أو حبكة حتى أحيانا..لكن هناك إجمالا شخصا في ذروة حدث ما، ويجدر به أن يتصرف. ليس مفروضا عليه أن يبين لنا كيف امتلأت الكأس حكيا..لكن المأمول أن يجعلنا نبتل.

5) القصر يستدعي بلاغة الإيجاز والاقتصاد اللغوي والحذف والإضمار..أي السير بالتكثيف إلى مداه، حتى تستوي القصة فاكهة مجففة لا تسكنها إلا حلاوتها، بعد أن تكون قد نفضت عنها كل الزوائد والمياه الفاسدة. لكن يهمني التذكير من جديد بأن التكثيف ينبغي ألا يصير وسواسا قهريا، بحيث يستحيل إلى تكتيف للكاتب، و يصير الإضمار إلى ضمور في جسد النص.
6) لا يهم أن تتذرع القصة بالسخرية أو المفارقة..أن تأتي مغموسة في ليل الحلم أو مضرجة باليقظة..طالعة كحبة موز من قشرة طازجة أو موغلة في لحم المتناص والترميز..
الأهم أن تكون قادرة على الإدهاش، من خلال خرق المتعارف عليه، وخلخلة البنى وليّ عنق المتوقع..فالدهشة رديفة للأدب الجميل.وعلى القصة القصيرة جدا أن تحفر في عمق الدهشة .

7) الجرأة في طرق أبواب الطابوهات والمضامين الإشكالية الواعدة بالاشتعال هي إحدى الخاصيات اللصيقة  بالأدب والفن عموما.
أما القصة القصيرة جدا فتحتاج إلى جرأة من نوع آخر..فالقول إنها جنس وليد في طور التشكل والتلامح لا يمنع أنها حققت في أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة ما يكفي من المنجز لمحاولة تلمس الخاصيات المميزة لها كجنس..فلا خوف عليها من مناوشة الأجناس الأخرى للكتابة عبر التسرب الخاطف إلى مناطقها، والعودة سالمة إلى موقعها السردي وقد اغتنت بإضافة  أو ازينت بقلادة ..
ينبغي أن يتم ذلك انطلاقا من وعي بالجنس وثقة كافية في صلابته التجنيسية، لا عن جهل بالحدود أو تجريب بليد.

8) ارتباطا بالحجم الصغير للقصة القصيرة جدا، صارت المجموعة المطبوعة من النصوص تتميز بكثافة سكانية عالية.وأية نظرة سريعة إلى الفهرس تؤكد هذه النظرة الإحصائية.
لذلك، ومهما كان الكاتب مجيدا، فإنه لن يتمكن من شد القارئ طويلا، ما لم ينوع في التيمات وتقنيات الكتابة وزوايا النظرة والتبئير..
فإذا كان التنويع ضروريا داخل فضاء المجموعات ككل، فإنه في القصة القصيرة جدا أكثر ضرورة.

هل قلت إن القصة القصيرة جدا نقطة على السبورة؟
عفوا..لقد غادر التلاميذ صف الدراسة.وها هو الطفل يمسك بيد أمه باتجاه فقيه الحي.
هي جلسة لقراءة الطالع.وزجاجة الكريستال ليست سوى نقطة سماق على كف الطفل.وعليه أن يحدق فيها جيدا، فعبرها سينفذ إلى عوالم متعددة، قد تصهل فيها جياد وتبسم غيد حسان أو يوقع بضحايا محتملين..
هنا..تحت خيمة ما في العراء، تلتقي القصة القصيرة جدا بالسحر.





 حسن البقالي
مثل فيل يبدو عن بعد 
(قصص قصيرة جدا)














samedi 19 décembre 2015


العصف بالكلام
(هناك شاعرة في دمي)

1)

"لنعصف بالكلام حتى لا يعود أحد يعرف من أين تشرق الشمس"
قالت..
وها أبحث عن شمس فلا أجد..
فالكلام الذي عصفتِ به هرّب الشمس إلي, وترك مكانها في مجرى الأفلاك محض ثقب أسود هائل وشبيه بوهدة تارتاروس ..الكلام الذي عصفتِ به كورَها تكويرا وأرسل ضوءها في المسام..فما حاجتي إلى شمس أخرى لن تكون سوى انعكاس لشمس الداخل؟..
"لنعصف بالكلام"..
تفتحت أكمام الورد أمام ناظري, وأيقنت أن اللغة حين استوت مثل حصيرة جميلة في حقول الكون, كانت تدعوك إليها كي تأخذي من خيوطها وقشها وخيزراها ما توشين به "سقوف المجاز", وأن الشعر لم يكن أبدا حلوا إلا حين تنطط مثل جرو بلون الصحراء في باحات مخيلتك..هيا اعصفي بالكلام فأنت الريح الطيبة حاملة الغيم ملقحة الزهر.. أنت الموج الأخضر فوق الكثبان العصية على الإمساك.
أعرف الآن أني ما وطئت قدماي أرض الكلام واستعجلتُ مقارعة الحرف إلا كي أقرأك, ويسيح دمي في الفلوات التي ترسمها كلماتك مترعة بالضوء والأنساغ الخبيئة..أبحث عن الشمس لأغيظها حين أصور لها استغنائي, لكن لا شمس هناك غير ما يشرق منك عليّ يغذي الخلايا بالجمال..
جمالك الجمال..
جمالك منتهاه حين يسافر بي حد الرعب.
فالآن أعرف أن الرعب أحد ألوان الطيف في قوس الجمال ..أهو اللون الأحمر تحت عيني ثور مبشر بالذبح اللذيذ أم الأسود الكحلي في عين امرأة أخذت وليدها الغيلان قبل الضمة الأولى, أم أنه فحسب ذاك الزخم الشبيه بطنين النحل الذي يسكن أنفاس الهواء , حين أقرأ لك فلا أجد نفسي معي ولا أجد الشمس, ويكون علي أن أسافر في سمائك بعيدا..أستحيل إلى طائر سيمورغ وأحلق حتى تخمة التحليق..حتى الإحتراق بنار الوصول إليك؟.
أحيانا يقول العدو لعدوه والضحية للجلاد وهما مشرفان على الأبدية تحت سطوة السيف الأقرب إلى الوريد من الحبل:
" إنه منتهى الجمال أن أقف بين يديك وأسلمك عنقي دون رفة جفن, فاللحظة التي تحاشيتها كثيرا تتقطر الآن من شفرتك اللماعة كحليب الشهوة.
هيا حزّ عنقي بما يحَرّق حناياك من عشق, فأنا اللحظة لا أعشق – يا قاتلي- سواك."
فكيف لا أرحل فيك إليك..
وعند المنتهى أسلمك آخر ما تبقى مني, وفي العين دمعة وحيدة..دمعة حب.
هيا اعصفي بالكلام..
جرّيني دائخا إليك, مبلبل الداخل ومبعثرا كالحصاد, فلا أطلب سوى أن أكون هباءة في فراغ الكون متعتها انتظار مرورك كي تعيدي تشكيل جزيئاتها بكلمة منك..
اعصفي بالكلام..
وامنحيني ميزة وحيدة:
أن أكون قارئك الأبدي..رضيع كلماتك الذي لا يشتهي الفطام.


2)

سألوني عنك سيدتي
لم يحزر أحد انك غامضة
 كالسماق
أو قرية جبلية منقوعة في رغوة الضباب..
ورائقة..
 كبسمةٍ طفلةٍ على ساق نخلة
في يومِ صحو دافق البياض
أنك كل الكلام الذي لم يقل بعد
والصمت الذي ضاعت رؤاه في الشعاب
 بعض أحلام "ولاّدة"..و "إلزا تريولي"..
وملامح امرأة لم يذكرها التاريخ
ألهمت بوذا سبل اليقظة
والحقائق الأربع للألم..

هي سيدة العصف بالكلمات
تربيها في العتمة.. بجلد رقيق مملح , تنصت لوجيبها وتروي جدائلها بصبيب الروح..وحين يفارقها الطلق تكون اللغة أعادت ترتيب أبجديتها والسماء التمعت بألف بارقة من بنفسج..
الحبر سعيد في يدها.. يأخذ اللون الذي ترضاه الظباء للألحاظ الجميلة, ويتيه في دفقات كدم الذبيح خلف استعارات تحسن إخفاءها شتلات يركبها الندى وطاقيات لعش الغراب.. خلف أخيلة من حمإ شفيف و زهر نارنج يلبس الربيع.. خلف خيل لم يدجنها أحد.
لتكن أميرة قرطبة
بنت المستكفي التي تمشي وتتيه تيها..
او إلزا القادمة من صقعٍ شرقَ المستقبل
زنره ماياكوفسكي برؤاه..
أو تكن طيفا يبعثه المساء إلى بيتي..
في شكل ظرف
أو مس بهيج..
هي سيدة العصف بالكلمات
تربيها في العتمة
ثم ترسلها في الضوء..
كي تسد على قارئها أبواب الخلاص.

                                                         3)


الجدار في أقصى الغرفة..
يود لو يغير زاوية الرؤية
والشجرة الفارهة التي تغالب الزمن وخدوش الأطفال وأنفاس العشاق..
تشرئب بفروعها عبر الشباك
أما الطائر أحمر الصدر الذي ألف الأغصان, فقد زاغ عنها الآن وحط على كتفي..
لأنه يعرف السر منذ البارحة.
يعرف أن الضوء الذي خبأته جهة القلب طيف تعويذة ومضت به مقلتاك..
وأن بحر الياسمين الذي فاض عن حلمي نبعه الكرز الطالع من شفتيك..
والمدن التي شعشعت في خاطري نُتَف من رؤاك.
وأني الآن موزع على الجهات
كدم لا ثأر له..
أو خطيئة من الزمن الأول
أتحين كل آن لمسة من يديك
تشكل طين العناصر من جديد
وتنضو عني أوراق الشتات.

الجدار في أقصى الغرفة
ما الذي يبغيه من أرقي؟
أتكون الشجرة التي تشبّع جذعها بلهاث الأشواق قالت له..أم هو الطائر الذي شيمته ضمُّ جناحيه على الأسرار..
سأروح الآن إلى أفقي
حيث سيدة العصف بالكلمات
تجادل الثالوث الذي يفرقني:
 الطائرو الشجرة و الجدار..
وترفو للكل كسوة واحدة تعيد لمزقي وحدتها
وتسد مجرى العراء.




4)

يحدث أن يرتدي الكون حلة الصباح
ويغدو صبيا بلثغة محببة وبسمة..
كإشراق الربيع
 كي يحاكي طلعتك
*****
يحدث أن يخر الماء على ركبتيه
متلعثما في رؤاه
ضاجا بحمرة الشفق
قبل دخول الحديقة التي طرزتها يوما..
كي يسقي وردتك
*****
يحدث أن يقول دي سوسير يوما:
 إن الكلمة لا تكون وحدها أبدا
لكن سارد بورخيس انتهى به التطواف في أصول المعنى
إلى كلمة وحيدة تختزل العالم
وتقول الذي كان أو سيكون
لعل ما بلل حلمه رذاذ من جبل قاسيون
او من جبل الأولمب
حيث تكفي كلمة واحدة لإيجاد الأشياء
أما أنا فأكشط عن جسدي كل الكلمات
كي أتشرب خمرتك.

5)

ظلام في دمي فارشقيه بنظرة تصيب الشفق المحمي بالعتمات, أو إيماءة توقظ شوق الجذورِ إلى بلل التراب.. بلاغةِ التكوين للعسجدة..
راحة كفي دامعة..
وقلبي حسير حين تواريك الظلال في تجاويف لغة قاصرة عن المعنى .. كيف أقول حالي حين تكونين وحين تغيبين في المدى, فيشتعل الخيال شبيها بالفرقعات الأولى للكون وأضواء التسلية في سماء الملوك.. كيف أقول الذي كان بيننا وظلام في دمي , وباللغة نكوص إلى تأتأة الطفولة.
كيف سلوك مدارجك عبر مقامات الحنين..
اقتفاء لهاث الروح حائمة حول الخيام وعازفة
على الجسد لحن السنين..
يا شاعرتي
ألا تدري كلماتك الحبلى بالجمال
أني أغار مما تخفيه تحت أطرافها:
 طيف تناجيه وضيف تغذيه من حليب استعارات لا تطال
يا فاتنتي
ألا تدري نظرات لحظك حين تحتضن المجال
أني صريع نبيذها, تميل بيَ الدنيا من الوجد وتهفو ضفاف مر العامري بها إلى سكني..
أهواك سيدتي
وأهوى الريح التي تأتي بعصافير الذكرى إلى كبدي
وكل الكلام الذي يأوي ليلا إليك
تفتلين به القصيدة كي تقتليني بها
هيا اسكبي شعرك في خاصرتي وماء لحظك في مداي
ودعيني أرتق بحروف اسمك مزق السحاب..
لأجل اكتمال الدائرة.

حسن البقالي

mardi 15 décembre 2015

آية

           


يجلس سامي لصق الحائط الذي ما زال يحتفظ بفجاجة الإسمنت..لوح الخشب فوق الصندوق البلاستيكي الأسود, وفوقه مصفوفة الفطائر التي خرجت للتو من الفرن.
لم يبع شيئا بعد..والزقاق يبدو خاليا بشكل يدعو إلى الإرتياب في أن سحابة ماطرة قد تمر من هناك..
عاكف على أوراقه يعيد حساب الدراهم التي تمكن من جمعها حتى الآن, ويفكر فيها..
في النحيفة ذات العينين الآسرتين
الرقيقة كنسمة
والحزينة كيوم حداد
آية التي تدرس معه في الفصل ولا تلعب أبدا مع الآخرين..تظل صامتة حتى يخال البعض أنها في غيبوبة, لكن ما إن يُنادَى على اسمها ويُطلبَ منها المشاركة في الدرس حتى ترسل إجاباتها الدقيقة, سربَ عصافير ملونةٍ لتأثيث الفضاء باصطفاق الأجنحة. وفي فترة الاستراحة, حين يشرع الجميع في الركض والتنطط والشجار, تلجأ آية إلى ركن قصي وتكتفي بالمتابعة.
في مثل هذه الأوقات يستبد بها حزن شديد الضراوة ويبدأ في قضم حبة الروح دون هوادة.. أحيانا تتمكن من تلافي غاراته, وتسرح بعيدا خلف الأولاد تشاركهم اللعب.. تجري أسرع منهم وأبعد, وتقفز أعلى فتشع من قسماتها فرحة ندية.. وربما انساقت خلف خيالاتها لمسافات شاسعة, مارست فيها ألعابا رأتها في التلفزيون أو حُكي لها عنها..صعبة وخطيرة كتسلق الجبال أو القفز من شاهق..
لكنها لا تلعب أبدا..
لكنها أبدا حزينة..
يحدث أن يلتفت سامي ناحيتها فيجدها تحضنه بنظرة شبيهة بأنة ناي .. للدفء والوجع.. نظرة لا يدرك كنهها فيشيح عنها باتجاه الآخرين..
وظلت آية كاهنة للظل..
وحيدة وحزينة وشفافة حد الرهبة..الكل على مسافة من عالمها.. والكل دون نباهتها..
 قال الأستاذ:
- قومي يا آية.
في درس حول البيئة,فصل مسرحي مشرع على الوجدان..
-         قومي يا آية..ستشخصين دور النبتة البرية..وأنت يا سامي تشخص دور الشاعر..

"أيتها النبتة المتوحدة
كم أنت بالغة الهشاشة والجمال
وكم تبدو حياتي بدونك
فاقدة لكل بهاء"

خاطب سامي آية بهذا المقطع الشعري يغطي طيفها بعينين طفوليتين,حين لمح سلة كرز تنزح من مخبإ سري لأحراش الكلام وتفترش خديها, وهز جسدها النحيل بعض اضطراب..أدرك حينها ما ظل مستغلقا على عمره القصير من قبل..وأحس اتجاهها بحب دافق غلف اللحظة بألف زنبقة ووهج نار لطيفة.. ألفى نفسه فجأة يحب صوتها كما يحب صمتها الطويل, ويحب شفافية الحزن في حركاتها وسحرَ عينيها .. ويحب الفصل والدراسة والأستاذ والطريق التي توصله إلى هناك .. ويحب فعلا تلك النبتة البرية المتخيلة التي وجدت تجسيدها الحق في نبتة رائعة من لحم ودم وحزن..
وفي فترة الاستراحة..
حين كان الآخرون يتقافزون ويلعبون, حضن الركن القصي زوج حمام تظللهما غمامة زرقاء من هديل.
- لكن..لمَ أنت حزينة بهذا الشكل يا آية؟
- لأني سأموت يا سامي !
- وأفقدك؟ كما فقدت أبي؟ لماذا؟؟
آية تحمل قلبا عليلا .. وأي مجهود جسدي يعرضها للموت..
لذلك فقدت مرح الأطفال وصاحبت الحزن..
ولذلك صار سامي حزينا بدوره..
يفكر في المرض والموت وعصافير الجنة .. "عندما يموت الإنسان طفلا يدخل إلى الجنة دون حساب..ويصبح عصفورا من عصافيرها الملونة, يحلق حيثما يشاء"..ثم يذكر أباه الذي راح, ذات مساء خريفي وترك الدار تتأرجح بين العوز والفقد..
لا يريد أن يفقدها أيضا..
تلك النبتة البرية التي أكل الكرز من خديها..لا يريدها أن تموت..هي نفسها ذكرت أن هناك أملا في الحصول على مصاريف العملية من بعض المحسنين, أو معظمها على الأقل..وستجري العملية قريبا وتعود بمُهر نابض مكان القلب وشمس متوهجة على الأسارير.
وهرع إلى الدار:
- أمي..هاتي الفطائر كي أبيعها.
فكرة قديمة عرضتها أمه عليه ليعينها على الأعباء, لكنه رفض متعللا بالدراسة ومبررات أخرى لم تقنعه..
يجلس الآن لصق الحائط الذي ما زال يحتفظ بفجاجة الإسمنت..يوقع نظرة عابرة على اللوح الذي أوشكت فطائره على النفاد, ويتأكد مرة أخيرة من المبلغ الذي تمكن من جمعه..داخله بعض ارتياح واستحضر القلادة الفضية التي رآها عند بائع التحف والمسكوكات, بقلبها الناصع القوي والنابض بالجمال..
سيشتري لها القلب الفضي..تعلقه على صدرها قبل دخول غرفة العمليات..ويكون هو بالخارج نهبا لأسئلة القلق وحمى الإنتظار..
تحسس المبلغ الراقد داخل الجيب بيد, وبالأخرى داعب طيف دمعة مهرَقة..
"يا رب..
أقبل أن أبيع الفطائر طول حياتي..فقط اشف آية..
يا رب.."

حسن البقالي :الإقامة في العلبة

                                 (قصص)    

                 



dimanche 13 décembre 2015