|
عين
على القصة
حسن البقالي*
إعداد وتقديم: شكيب أريج
قلائل هم الكتاب الذين يكتبون عن وعي ودرابة وإحساس عميق بالكتابة، وحسن البقالي واحد من الأصوات المائزة التي تكتب القصة بهذا الوعي العميق المستبصر، العارف بالكنوز والإمكانيات التي يدخرها السرد. في هذه الحلقة ترصد عين على القصة، قصة " بحال بوزفور" وهي من القصص المميزة التي تنفتح على منجز نصي آخر، و على كاتب استثنائي آخر، بحيث ستكون عين على القصة هذه المرة مضاعفة، فهي عين تطل على عين، وقصة تشرئب بعنقها إلى قصة أخرى، وكاتب يطل على كاتب إلى ما لانهاية، تعالوا إلى هذه المتاهة العجيبة مع القاص المميز حسن البقالي.
قصة: بحال بوزفور
1- علاش "بحال بوزفور" ؟
معروف في السرديات الحديثة أن كل نص قصصي هو
فضاء لتصاديات نصوص وملتقى خطابات، حيث تصير كل كتابة مجالا لتفعيل القراءات
السابقة، عبر بث ما تحايل منها على النسيان في مجرى المحكي.يتم ذلك وفق
استراتيجيات للكتابة تختلف من كاتب لآخر، وتستدعي بدورها استراتيجية مضادة من
قبل القارئ المفترض.
إن كل نص من هذا المنظور يتحقق فوق أنقاض نصوص سابقة، قد يعلن عنها الكاتب أو يتركها لفطنة القارئ الذي يتعين عليه آنذاك تبينها وفصل مائها عن ماء النص لدى أية محاولة للتفكيك وفك للشفرات. ما أردت من "بحال بوزفور" هو الذهاب أبعد من ذلك..أن ينهض النص قبل بداية التشكل، على فكرة محاورة نص سابق أو تجربة..أعني عن سبق إصرار وترصد، وبشكل لا يجعل من النص الموازي paratexteمجرد ظل صغير يوشي مساحة النص، بل مكون نصي أساسي يرفرف بظلاله المتعددة على النص من الداخل والخارج، ولا محيد عن مساءلته للنفاد إلى عمق المدلولات والإيحاءات..كما لو أنه الخلفية الضرورية للسهر على جمالية اللون، وجزء من اللوحة أيضا.. لقد جربت هذا بشكل جزئي أحيانا (في قصة "حكاية قتل آخر للأب" من مجموعة "قتل القط"، حيث تم استمزاج المبنى الحكائي ببعض عناصر التخييل من رواية فرجيل تاناس ils refleurissent les pommiers sauvages) وبشكل أكثر عمقا أحيانا أخرى ، كما هو الشأن في قصة "الإقامة في العلبة". أفكر الآن في مشروع مجموعة قصصية تتحقق نصوصها من خلال محاورة نصوص وتجارب لكتاب وفنانين آخرين أجدهم أقرب إلى ذائقتي وتصوري الشخصيين للكتابة والفن.
2- القصة هنا مشحونة ببوزفور (العطش/الأذرع
السبع للأمن القصصي/النظر في الوجه العزيز/ سرنمة..) ألا ترى أن قارئك البوزفوري
محظوظ، في حين أنك تظلم القارئ الذي لا يعرف بوزفور؟
القصة مشحونة ببوزفور، ليس من حيث الإشارات
النصية المذكورة قي سؤالك فحسب، لكن بدءا من العنوان كمناص يحيل إلى نص بوزفوري
من مجموعته الأخيرة "قالت نملة" بعنوان "بحال خوك".لذلك،
واستئناسا بما ورد في الجواب على السؤال الأول، يصبح جماع النص عبارة عن نوع من
المعارضة pastiche لنص بوزفور المذكور.
الأمر لا يتعلق بمعارضة ساخرة أو أي شكل للباروديا، بل باشتغال على نص من خلال استحضار عاشق لروح نص آخر، بشكل يجعل من "بحال بوزفور" سحابة تدفعها ريح بوزفورية إلى حيث تمطر بشكل أفضل. وبالعودة إلى القارئ، أوافقك جزئيا فيما ذهبت إليه، فالإحالات إلى عوالم بوزفور هي إحالات قليلة بالنظر إلى الشريط اللغوي للنص، بما لا يؤثر في عمق عملية التلقي لدى القارئ الذي لا يعرف بوزفور.ولو أن قارئه، وبالأخص قارئ قصة "بحال خوك"، مؤكد أنه سيقرأ "بحال بوزفور" بشكل مختلف تماما..بشكل أكثر قربا وحميمية . . وعموما، فالقارئ يقرأ النص – أيا كان- من خلال مرجعياته ومقروءاته السابقة وتصوراته للعمل الإبداعي..وكلما كان اطلاعه أوسع، كلما تمكن من القبض بشكل أعمق على مؤثثات النص ومدلولاته المختلفة..لنأخذ الجملة التالية من النص على سبيل المثال : "أو أن القصة هُجّرت إلى خارج البيت ثم عادت،مثل طفل مختطف يعوض بعد أشهر بطفل آخر دون أن تملك الأم حق الرفض.." فهي جملة لا علاقة لها بعوالم بوزفور وبإمكان القارئ تمثل معانيها اعتمادا على المستويين المعجمي والتركيبي، لكنها في الواقع نافذة على عالم تخييلي كامل يرصده الشريط السينمائي (المبادلة) l’echange الذي أخرجه كلينت لإيستوود وتلعب الدور الرئيسي فيه الممثلة أنجلينا جولي.. ولا شك أن تلقي الجملة السردية المذكورة سيختلف بين من شاهد الشريط ومن لم يشاهده.
3- تقوم بتدوير النص من خلال تضمينه مستوى
لغويا متصلا بالميتاتخييل -بلغة غير أكاديمية- فأنت تكتب في هذه القصة أنك تكتب،
توهمنا أنك توهمنا، فتجعل الحلم في الحلم، والقصة في القصة، والكاتب في الكاتب.
ما الهدف من وراء الكتابة على المكشوف؟
بعيدا عن السرد الخطي يعيش النص انزياحاته
ويسافر من خلال مسارات متعرجة باتجاه النهاية.يسعفه أحيانا الميتانص والانشطار
المرآوي وكتابة المحو كتقنيات لكسر الإيهام أو الدفع بالنص إلى تأمل ذاته في
بؤبؤ نص آخر موازٍ.
لقد بدأ الأمر بتأثير من المذاهب النقدية الحديثة التي اهتمت بتعدد الأصوات وزوايا النظر وتعدد مستويات تلقي النص الأدبي، فافتتن بعض الكتاب باللعب السردي لكسر الإيهام، واحتفل بالروايات المتعددة للحدث الواحد ووظف الميتالغة تقنية لاشتغال النص على ذاته.. لكن الوهم هو في صميم العملية الإبداعية كإحدى المسلمات الأساسية للميثاق الأدبي المضمر. ألم يجعل تشيخوف من القصة كذبة متفقا عليها بين الكاتب والقارئ؟ والتضمين، أو القصة في القصة كتقينة استغلتها "بحال بوزفور" للوصول إلى القارئ، لا شك أن المضمون ومحمولات النص كان له الدور الأكبر في ذلك، خصوصا حضور القلم كمكون أساسي وفاعل في تشكيل الفضاء النصي..كشخصية قصصية، بعيدا عن أية فكرة مسبقة لكشف الأوراق.
4- (الشعر لتونس والرواية للجزائر والقصة
للمغرب) ما مدى واقعية ومصداقية هذا التقسيم في اعتقادكم؟
هذا النوع من الأحكام الإطلاقية ربما يستمد
بعضا من مشروعيته المهزوزة في الأصل، من السياق الثقافي الذي أفرزه. معنى هذا أنه
يبقى محكوما بزمن وظرفية محددين..
أرى أن المغرب يعرف مؤخرا حراكا ملموسا على مستوى الإنتاج الروائي، كما أن مجموعة من الشعراء يؤسسون لتجربة شعرية وطنية لا تعاني أي نقص إزاء الشعريات العربية، مما يجعلني أطمئن إلى مستوى الأجناس المذكورة كلها بالمغرب، دون أن يفقد ذلك من قيمة الإسهام المغاربي ككل..إذ كيف ننسى في هذا الإطار القيمة الهامة للرواية الليبية من خلال نموذجيها الأشهر أحمد إبراهيم الفقيه وإبراهيم الكوني؟
5- على هامش الحوار كنت قد سألت القاص حسن البقالي
هل للنص مناسبة ما، وهل ألقاه فعلا في ملتقى ما؟
لنقل إن مناسبة كتابة القصة ذات رأسين:
فأنا مازلت أكتب على الورق بقلم حبر أسود..وحصل مؤخرا أن قلما لي "تبهدل" بشكل غير مسبوق وغير مفهوم: ضاعت سدادته وتكسر جزؤه الخلفي كليا حتى إني قلت لكاتبة صديقة : " كما لو أنه يشتغل لحسابه الخاص في غيابي" وهو تعليق رأت فيه فكرة جيدة لعمل قصصي. من جهة أخرى أعلنت جمعية ربيع تيفلت للثقافة التنمية عن الملتقى القصصي الوطني الأول بتيفلت، باسم أحمد بوزفور وتكريما له.. كنت قرأت قصة "بحال خوك" لأحمد بوزفور ضمن ديوان السندباد، في طبعته الثانية منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة.. وهي قصة تؤكد أن بإمكان الكاتب الكبير أن يصنع الجمال بمواد بسيطة للغاية، تكفيه لذلك إشراقة إبداعية تجلت هنا في القصة الموازية التي يحكيها الشخص الآخر والتي هي نفسها قصة الأخ..هكذا، كتبت قصة "بحال بوزفور" من خلال فكرة قلم يشتغل في استقلال عن صاحبه واعتمادا على حوار تناصي مع قصة "بحال خوك".. وقرئت في ملتقى تيفلت بحضور أحمد بوزفور وإسهاما مني في تكريمه ككاتب كبير وإنسان مميز. |
dimanche 3 juillet 2016
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire