سينما
أفرش جوانحي للعتمة
وأنسى
أني مجرد جرذ صغير في زقاق ضيق..
أكون نمرا أو قاتلا مأجورا لا يخطئ الهدف أو
زعيما خرافيا يوحد بين القبائل والشعوب قبل أن يبتهج العالم بقتله مسموما على يد
عشيقة مخاتلة.
تقول أمي إن السينما ضيعتني, فتلعنها وتلعنني..من
يقول لها: حين تشتعل الشاشة تبتدئ حياتي.؟
لم يكن بعد قد سقط من السطيحة:
كان ذلك حين تحول حي سيدي موسى إلى "موقادشيو"
حقيقية : هدير حوامات عسكرية وأزيز رصاص متبوع بصوت ارتطام أجسام بالأرض..أجساد
سمراء نحيلة تلوح وتختفي خلف الأدخنة والغبار والهلع..وخليط من آهات مكتومة
وهمهمات..
كانت الحرب هناك..
نزلت بثقلها ..صوتا ورائحة وأثرا باديا للعيان. والطفل
المتوحد بالسطيحة مثل لقلاق آبق يتابع الوقائع واللقطات بامتنان عميق للرب الذي
هيأ له أن يعيش لحظة مماثلة.
- إنه فيلم يصنع على الشاشة مجدا أمريكيا مرغ في وحل
البلد الإفريقي الضعيف.
قال له الطالب الجامعي الذي يسكن البيت الثالث إلى
اليسار.
هز كتفيه في لامبالاة..ثم أوغل في غابة الضوء والحلم
ككائن منبتّ لا ظل له ولا صدى خارج اللحظة..فما يقع خارج الفيلم لا يهمه..لا أمه
ولا أبوه..لا المدرسة ولا المصير المعلق على حدبة زمن شائه..
وما يراه الآن أكبر من الحكاية..
هو تخلّقها أمام العين طازجة دافئة وجميلة حد الرعب.
يبحلق في الكاميرات والآلات الضخمة التي تصنع المطر و
الجو الصحو ..التقنيين والممثلين والكومبارس , ثم المخرج الذي يوجه كل هذه القيامة
كي يصنع حلما تجسده الشاشة بعد حين.
"مدهش !"
أسر لنفسه..
وأهدى ما تبقى من نزق الروح لسلطة المشاهد المتهادية
كالضحكات والأصوات والروائح.. يتنقل بين أراض وسماوات وأوضاع متجددة ..فلا هو
الأمريكي ولا الصومالي ولا دخان المعركة.. ولا حتى الطفل الذي يطل من أفق بلوغه
على حلم يحاكي الحقيقة.
لم يكن سوى سماء شاسعة بيضاء ثملة بوهج الريح..
وفجأة..
خاصم الجسد المنسي أرضية السطيحة..
فجأة ألفى نفسه يهوي..ويهوي معه النهار.
حينها هوى على رأس الأم سقف العالم:
قبل قليل صاحت به:
- انزل من ثمة الله يعطيك الهرس آذاك المسخوط..
ثم عادت إلى مقارعة أرضية الغرفة بمكنسة قلقة ..
فكرت في البؤس الذي طلعت به من الدنيا: زوج كسيح يتغوط
تحته..وولد من جنس الأبالسة, يظل يتقافز فوق السطوح وفي الحواري ينشر حبه للسينما
في العالمين.
وها هي السينما تحط بالقرب..فرخا خرافيا في طور التكوين
ينتفض..يتجشأ..يملأ الحي ضجيجا وغبارا ويزيد الطفل جنونا على جنون.
- انزل الله يعطيك الهرس..
ورمقت بطرف العين الجسد الخرب المسفوح على السرير كدم
الحجامة..ذاب صوتها في الضجيج العالي وعادت إلى أشغالها دون روح.
حوامة تهدر على علو منخفض..طلقات تعوي في الأزقة وبهرجة
الموت في الساحات المتربة.
و صوت تعرفه جيدا..
الصوت الوحيد الذي تعرفه جيدا يمزق الضجيج ويسقط جريحا
جهة الكبد.
- مااااماااااا
وهوى العالم منهارا..للأبد.
لعلي سمعت نشيج الجسد الذي لا يقوى على مغادرة
السرير..ثم أصواتا مكبرة..متحسرة..غاضبة..ونتف حديث عن سيارة إسعاف تعذر وصولها
بسبب الحصار المضروب على الحي لدواعي التصوير..
كان لقلاقي الراعش في حضني..
وكان نحيب أيضا..
وظلال تنكرها عيناي..وضجيج لا يحتمل.
يصنعون بالخارج شبيها للموت, ينفضونه عنهم
كالتراب العالق حالما ينتهي المشهد..فما بال طائري لا يفيق؟
- وما بال الإسعاف لا يصل؟
يقولون إن السينما ضيعت ابني..من يقول لهم :ساخ
عمري في رمل الفجيعة..ومن يومها لم أتزحزح عن أرض الألم.
الإقامة في العلبة
(قصص)
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire