mercredi 27 juillet 2016


بيضة على الشاطئ
أو في تمجيد البياض

                                             ( قراءة في مجموعة شريف صالح بيضة على الشاطئ)


أول ما يصدم المتلقي ل"بيضة على الشاطئ" الفائزة بجائزة دبي الثقافية للإبداع في دورتها السابعة 2010/2011، غلافها الجميل والمريح بتناسق الألوان وتوزيع الظل والضوء وحضور الطبيعة الإكزوتيكية المحيلة إلى عالم خال من مورثات الخراب، والمبشرة بسلام الكائن وخفته. يتبدى ذلك من خلال الإنحناءة الحادبة للسماء على الأرض، لسعف النخل على الماء الجاري باتجاه الضوء، ثم ذاك البياض الذي يتوسط اللوحة وينتشر أفقيا باتجاه منابع النص الذي يأبى شريف صالح إلا أن يجعل منه مأدبة سردية تلتقي على مائدتها الأقانيم وتتوحد الأزمنة في لحظة ديمومة وتشتبك البدايات بالنهايات وحالات الصحو بالمنام والحلم باليقظة والموت بالتجدد. كل ذلك في حلة ناصعة من البياض.
فالعنوان والإشارات التي تتخلل الغلاف كعتبات حريصة على البوح، لم تكتب بالأبيض جزافا. والبيضة التي على الشاطئ، كما لو أنها بيضة الخلق وأول النشأة، تضاعف البياض بشكل مرآوي، كانعكاس متبادل، شبيه بانعكاس الوجه في بؤبؤ عين الآخر، القريب جدا من الذات.
إن مجموعة "بيضة على الشاطئ" هي قصة تمجيد البياض.. البياض كموت للكائن، وموت مؤقت للحكي، وللنظرة الساذجة للواقعية والأدب اللاهث خلف الحقيقة الاجتماعية. فالأدب ينتهي إلى أن يخلق حقيقته الخاصة.. أسطورته النوعية، ويتتبع مجراها كما يتبع شق الأرض سن المحراث، حين يتوصل الكاتب إلى تدبير شأنه القصصي متسلحا بأصالة في الرؤية وفي الأداء، ومتوسلا بمنظومة خاصة من الرموز والإشارات المشبعة برائحة الطفولة وفلسفة الحياة والموت.
وإذا كان البياض موتا فإنه انبعاث أيضا وتجدد مستمر، وبين الموت والانبعاث تؤسس المجموعة عوالمها وتبني مساراتها باتجاه بياض جديد، ليس سوى وجه مؤقت للنهاية. فالبداية عند شريف صالح هي الراسخة في أرض القص، بينما النهاية محط شك "إلى درجة أننا نكون غير متأكدين هل هذه هي النهاية أم لا؟". وبشكل يبدو معه النص "ليس سوى خمس بدايات لمسودة قصة لم تنته بعد".1
إذا استثنينا بعض الإشارات المنفردة والمعزولة إلى ألوان مختلفة كالرمادي والأخضر والأصفر والأزرق، يبقى كل شيئ في عالم شريف صالح القصصي أبيض في أبيض، فالصيدلانية والطيور والبقعة والممرات والضوء والطواويس والضباب والغزلان والبرسيم والشراسف والممرضة/الممرضات والحذاء والسحب والعباءة والطاولة والكيس والثوب والفرس والقطار والملابس. كل ذلك مدثر بلون واحد هو لون البياض. مع العلم أن ما تم تعداده في هذا السياق من أشياء ورموز بيضاء ينتمي إلى القصتين الأوليين فقط من المجموعة. ومن النافل التأكيد على أن تتبع البياض في باقي القصص سيجعل اللائحة تطول بشكل يتأبى على الحصر دون الوقوع في مطب نزوع إحصائي لا يشغل بال هذه القراءة.

أ) أضلاع البياض:

البياض هو اللالون وهو كل الألوان.. هو اللون في درجة الصفر، الفراغ الأكروماتيكي achromatique وهو الوحدة أيضا، حيث تتآلف المختلفات والأضداد.   ولون بهذه الخصوبة والغنى الدلالين، أكيد أنه لن يتبدى في مجموعة شريف صالح في بعد واحد فقط، بل يمكن تفريعه إلى مثلث دلالي ذي ثلاثة أبعاد:
-         البياض كموت للكائن
-         البياض رمزا للحياة
-         البياض كجسر بين عالمين

1)    ،البياض كموت للكائن:
إن رمزية الألوان تمتح دلالاتها من ثقافة المجتمعات ومؤثثات المخيال الجمعي التي ترسبت عبر التاريخ والأسطورة. وبذلك يتلون الأبيض من مجتمع لآخر بألوان دلالية متنوعة.. هكذا نجد البياض في الثقافة المصرية أو الثقافة الغربية رمزا للنقاء والعذرية والبراءة والفراغ.. بينما يرمز في الثقافة الآسيوية (الهند والصين واليابان) إلى الموت. ومعلوم أن الأرملة في الموروث الشعبي المغربي تتدثر بالبياض من قنة الرأس حتى أخمص القدمين، طيلة أيام العدة، في إشارة إلى موت رمزي يكمل موت الزوج ويعضده. وثمة من الدارسين من يرجع هذه العادة إلى التأثير الأندلسي حيث اتخذ البياض لباس حزن مقابل السواد الذي عرف به العباسيون، ومن ذلك قول الحصري:

                            إذا كان البياض لباس حزن
                                                        بأندلس فـذاك من الصواب
                            ألم ترني لبست بياض شيبي
                                                        لأني قد حزنت على الشباب


في قصة "وراء البياض" يقول السارد: "وهو يختبئ في كفن البياض، قد يسمع أصحابه الثلاثة وعم شحاتة المخبر يتحدثون عنه"2 ، ثم يقول في نفس القصة: " رأى ممرا طويلا أبيض. هناك أخذ نفسا عميقا وتمدد في ساحة واسعة من البياض ثم أغلق الباب وراءه".3
فالموت بياض (ساحة واسعة من البياض)
والطريق إليها.. الممر الطويل.. لحظات الاحتضار والنزع الأخير، بياض آخر
والكفن الذي يدثرها بياض ثالث..
ثلاثة مدارج من البياض تستقي محمولاتها من كلتا الثقافتين العربية/الإسلامية (التي شرعت لطقوس الدفن ومواصفات الكفن)* والثقافة الغربية/المسيحية (التي تنظر للموت كانتقال هادئ وجميل وشاعري إلى ما وراء الجسر عبر ممر شفاف أبيض).
وفي قصة "ألعاب الراعي" يقول السارد "أمي هناك رأيتها أعلى الجبل في ملابسها البيضاء تراقبنا"4. وفي قصة "الخروج إلى الشمس" يقول: "لا أرى عليها سوى أبي بملامحه السمراء الطيبة وجلبابه الأبيض النظيف. كان واقفا على الحافة يتطلع إلى الشاطئ".5
 ووواضح أن الرؤية هنا هي رؤية العين لكنها رؤية الحلم أيضا والذاكرة، حيث لا يستقيم الحاضر إلا بالماضي ولا تتقدم الأجيال الجديدة إلا باستعادة روح الآباء والأجداد..الآباء الذين مضوا مسربلين بالبياض.

2)    البياض رمزا للحياة:
ثاني ما يتبدى من الثالوث الرمزي، الضلع الآخر للبياض بوصفه رمزا للحياة بصخبها وعلاقاتها المتشابكة وإواليات انتظامها أو تفككها زمني السلم والحرب، وكذا بعدها الإيروسي الذي يشكل أحد حدّي الثنائية الضدية التي تسير على هديها سنة الحياة: الإيروس/التناتوس.
ضمن هذا البعد الإيروسي يحضر البياض كقيمة جمالية تزين المرأة.. يقول السارد واصفا الممرضة الفليبينية " قفزت وراءه داخل الغرفة ممرضة فليبينية بيضاء وبدينة"6. وإذا بدا التوصيف هنا قد حافظ على نوع من التجرد والحياد، فإنه يتجاوز ذلك في الصفحة 10 من نفس القصة، حين يقترن البياض بالقشدة ويصير مدعاة للحسد: "حسدتها في سري لأنها بيضاء كالقشدة".. مع ما يحيل إليه طرفا التشبيه من إدراك حسي شهواني للجسد الأنثوي القابل لأن يلعق باشتهاء..
هذه القيمة الجمالية للبياض حين يدمغ الجسد لا تقتصر على البشر، بل تتجاوزهم إلى الحيوان والطير. فالحمامة والطاووس والفرس والغزال والفيل، كرموز للجمال والانطلاق والطهر (حيث يرتقي الفيل الأبيض في بعض الثقافات إلى مقام القداسة) لاتكتمل دلالاتها إلا موصوفة بالبياض.. "قابلتك في حديقة الطوواويس البيضاء وهي حامل "7.. "ثم تكشف أمامي قطيع كبير لغزلان بيض قادمة نحوي" 8 .
أما الأيادي البيضاء فتحيل إلى صفة النفعية التي تسم العلاقات الاجتماعية ذات التقاطب العمودي، حيث يُنتظر من الأعلى اجتماعيا أن ينثر "بياضه" على الفئات المعوزة في شكل إعانة مادية أو خدمة ما أو وساطة، استجلابا لتعاطفهم وأصواتهم الانتخابية، أو دفعا لشرهم  "تدعو لانتخاب المرشح رمز الجمل ورمز الهلال  وعليها عبارة "انتخبوا الرجل صاحب الأيادي البيضاء""9.
3)    البياض كجسر بين عالمين:
كما يرمز البياض إلى الحياة أو الموت، فإنه في عالم شريف صالح القصصي يرد مورد تقاطع بين عالمين.. عتبات للانتقال من الهنا إلى الهناك.. من الحياة إلى الموت، ومن المعقلن والممنطق إلى المتخيل والحلم والخرافة. فالرجل الطيب الذي يطوي الفراسخ السماوية على عربة تجرها الغزلان، ويتدلى عبر المداخن لإسعاد أطفال ينتظرون هداياه ، هو على الأرجح في خلفية التصور عن الراعي الطيب الذي أسكنه شريف صالح السحاب: "عجوز أسمر مثل جدي قبل أن يسافر عند ربنا، محني قليلا مثله لكنه يرتدي عباءة بيضاء يموجها الهواء". "كان يظهر ويختفي خلف سحب زرقاء وبيضاء يحرك في الهواء عصاه الخيزران ويبتسم"10. عجوز بمواصفات الأولياء وأنصاف الآلهة.. وسيط بين السماء والأرض، الأحياء والموتى.
ولعل أبرز الفضاءات توسطا بين الحياة والموت هو المستشفى، كملاذ للمرضى وعتبة لاقتحام البوابة الأخيرة إلى الضفة الأخرى. وإذا كان التصور المسيحي كما ذكر آنفا يرى الموت انتقالا عبر ممر أبيض ساطع "رأى ممرا طويلا أبيض" 11، ففضاء المستشفى يحيل إلى صورة مشابهة "كيف لم أر هذه اللوحة طوال اليومين الماضيين؟ في الممرات البيضاء المضاءة بضوء أبيض ساطع تظهر ممرضات حوامل يتهادين ببطء"12.
فالمستشفى وعد بالموت أو ولادة قريبة.. منه تحمل الجثث إلى ثلاجة الموتى وتتدلى أجساد المواليد في أيدي المولدات تحفيزا للصرخة الأولى للحياة.. المستشفى معبر وعتبة.

ب) أجراس الحكي:

تتميز كائنات شريف صالح القصصية بمرونة كبيرة وقابلية لاختراق الحدود ما بين الحلم واليقظة، وبين الموت والحياة. إنها كائنات حية تتخيل موتها، أو ميتة تعود إلى الحياة.. تجد في الحلم متنفسا تارة، وسجنا تارة أخرى، لكثرة ما يتكرر الحدث الحلمي ويعاد كقدر سيزيفي. في قصة "العجوز الذي يراقبنا" يتحاور الحالم والمحلوم به، وفي قصة "عصر السنجة" يعود بلال من موته "لكتابة يافطة ستة أمتار تأييدا للمحافظ الجديد"13.
هذا الانبعاث والتجدد يتمثل أيضا في ذلك العود الأبدي، لا كموقف نيتشوي ورؤية للوجود، بل كتقنية سردية يوظفها الكاتب في حفر مجرى النص.. كجرس يقرع بين الفينة والأخرى تذكيرا للمتلقي بما مضى، وتحفيزا لما يستجد ضمن مآلات الحكي وسيرورته.
"الخبر تسرب بعد العصر"
هذه الجملة الخبرية الساكنة ظاهريا، تدشن الطريق السيار للسرد في قصة "وفاة غامضة لعدو صامت" 14 بحيث تطن في مخيلة المتلقي خمس مرات متواترات فيما يشبه نداء إلى الخشوع.. خمس مرات بخمس وحدات سردية وخمس رؤى لواقعة واحدة هي واقعة موت أبي سعيد.
"الخبر تسرب بعد العصر"
خمس محطات للأداء.. محطات استراحة للتريث واسترداد الأنفاس، قبل استئناف السير على أرض الحكي.
صوت المطرقة هذا الذي يتردد في ردهات الحكي لم يقتصر على القصة السابقة، ففي قصة "الخروج إلى الشمس"15 تتردد التحية الشبيهة بترتيل محبة للعجوز السوري أبي جوني:
"صباح الخير أبو جوني"
"مساء الخير أبو جوني"
وبين الصباح والمساء، تنتعش ملامح شخصية زوربوية نهمة للحياة والنساء و"اللحم المسروق".
وقريب من هذا الملمح التقنوي في الكتابة القصصية لدى شريف صالح، ما نجده في قصة ثالثة "الطواف وسارق النحاس" 16، حيث تتردد لازمة "أنت اللي سرقت النحاس" وإن بشكل أكثر خفوتا وقابلية للتعديل في النص الأصلي لللازمة.
خاتمة:
وأنا أتوقف بالقراءة عند هذا الحد، تبقى في النفس أشياء من "حتى"  وتبقى المجموعة في حاجة إلى استغوار ورصد نقدي، فبي قناعة بأنها تشبه ضرعا بألف حلمة، حيثما يسحب المتلقي يغنم حليبا أبيض.

--------------------------
الهوامش:

1 قصة وفاة غامضة لعدو صامت ص 131
2 قصة وراء البياض ص 100
3 نفسها ص106
* في حديث عن ابن عباس ان النبي ص قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم"
4 قصة ألعاب الراعي ص 31
5 قصة الخروج إلى الشمس ص 123
6 قصة الغواية الأولى ص 19
7 نفسها ص 12
8 نفسها ص 13
9 قصة عصر السنجة ص 46
10 قصة ألعاب الراعي ص 23
11 قصة وراء البياض ص 106
12 قصة الغواية الأولى ص 11
13 قصة عصر السنجة ص 41
14 قصة وفاة غامضة لعدو صامت ص 124
15 قصة الخروج إلى الشمس ص 107
16 قصة الطواف وسارق النحاس ص 61



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire