dimanche 31 juillet 2016

بيضات تفقس على الطريق




كان ينادي: "واحد الرباط , واحد الرباط" عندما أقبلت..قلت: أنا هو ذاك الواحد أيها المنادي. قال : أنت ذاك, اطلع يا عبد الواحد..فطلعت.
لقد حزمت أمري أخيرا, وقررت أن لا بد من زيارته..أتكتف بين يديه أو أتمغط حسبما يمليه علي سيدي ومولاي, البحر في ميدانه, فليفعل بي ما يشاء بشرط أن يخرجني من حالتي ..نصحوني كثيرا بالذهاب إليه, وكنت أتذرع بشتى الأعذار وأماطل "هو الكفيل بأن يعيد إليك توازنك وبهجة الإقبال على الحياة..هو لا غيره, ارحل إليه" فهل أنا دون توازن أو لحظة فرح؟ وهل حقا ما يقولون؟ ولمَ كل هذه الضجة, هذه الضجة؟ وكل ما في الأمر أني:
أخاف أن تدوسني شاحنة.
تتحين لحظة غفلة مني لتنهد فوقي كالجبل..هناك, في عرض الطريق, أمام الآخرين..لا, ليس الموت هو ما يخيفني, ليس ذاك الذي يطال الكل, الناس والضفادع والأشياء..ثم إني بالغ الإحتراس, لا أجتاز الطريق إلا إذا نظرت يمينا فشمالا, ثم يمينا فشمالا..عندها فقط, أقطع مهرولا كأنما على الرصيف الآخر امرأة حبيبة إلى قلبي تنتظرني بشوق فاردة يديها لأنفاسي. أستبعد فكرة موتي بهذا الشكل, في عرض الطريق أمام الآخرين, لكني لا أقوى على دفع الصورة التي تراودني باستمرار, تدهمني في لحظات خلوتي, وترسي قلاعها في دواخل النفس.شكل مبهم..شكل معدني ومبهم يتحرك نحوي, كلما ازداد قربا يزداد ضخامة, وكلما ازداد كبرا يعظم شعوري بالبرد وينضح جسدي الراجف عرقا.. ثم يتضح الشكل فتبدو الشاحنة بوضوح, زاحفة نحوي محملة بالضجيج وأحداق الموت.. موت مفاجئ, معدني أيضا وحاقد, تطقطق له العظام ثم تخلد الروح إلى باريها..هناك, في عرض الطريق, أمام الآخرين الذين يكتفون بضرب كف على كف, والتحسر على الشاب الذي أكلته الطريق. أفكر بأن هذا ليس مستبعدا تماما, رغم ما قد يبديه الإنسان من حذر, إذ لا شئ مستبعد في هذه الحياة الغريبة, وكل ما يمكن أن يحكى من عجائب تتأبى على التصديق لن يكون في الحقيقة سوى جزء بسيط من عجائبية الواقع الذي نعيشه, الماكر, المتربص المحتال.
ليس الموت قطعا.
تنسل السيارة الآن من القماط الجيري لمدينة في النزع الأخير..التفت إليّ السائق, إلى يدي بالتحديد, قال: ارمه. ثم ألقى نظرة جانبية على المرأة الجالسة قربه تحدث ابنتها (هي على الأرجح ابنتها): لا تقلقي, سيكون كل شئ على ما يرام, سترين.
كنت بالمقعد الخلفي وراء الفتاة مباشرة, وبجانبي سكنت ثلاثة أجساد خشنة, بشوارب ولحي ومصائر متشعبة وغامضة لا يعلمها إلا الله. جذبت نفسا أخيرا, ورميت ببقية السيجارة من الزجاج نصف المفتوح..فعلت ذلك بغيظ, وكنت ألعن السائقين والسيارات وكل الأماكن التي يمنع فيها الإنسان – بأدب مقيت- من التدخين.إن أفضل ما في السيجارة رشفاتها الأخيرة, بنفس القدر الذي تكون به لحظات الوداع أفضل ما في اللقاء..لكن من أين للسائق الفظ أن يعلم ذلك؟.إنني لست مغتاظا الآن..داخلي نهب لشعور بالإشمئزاز والقرف, انزرع داخلي على إثر احتكاك فخذي بفخذ الجالس بجانبي, فالجسد البشري لم يهيأ للإحتكاك بجسد آخر من نفس الجنس, ولذلك كنت دائما أعتبر تلك اللقاءات القسرية, في الأماكن العامة, بأناس لا أعرفهم لكني أضطر إلى مجالستهم, او الإحتكاك بهم, جزءا من عقوبة بالغة الغموض والتعقيد تجد تفسيرها في تاريخ خطاياي السري, الذي أحاول جاهدا نسيانه, والزج به في مفازات اللاوعي, ثم..ها عيناي المعتكرتان, الشبيهتان بعيني العجوز الضاحكة على الرصيف, تستريحان على جسد الفتاة الجالسة أمامي مباشرة.

الجسد:
أن تكون بالمقعد الخلفي لسيارة أجرة, وأمامك مباشرة على المقعد الأمامي امراة, فإنك حتما لن ترى  إلا بعض الأجزاء, غير المكتملة من معمارها الجسدي, لكنها بالمقابل ستلعب دورا هاما لدى أية محاولة للتسلية, تنطلق بموجبها من الأجزاء كمعطى كي ترسم للجسد صورة كلية..إن الأمر شبيه إلى حد ما بما يقوم به علماء الآثار عندما يعيدون لجمجمة متحدرة من آلاف السنين ملامحها الإنسانية.
لم يكن يبدو من الجسد سوى القفا, جزء من القفا فقط, شريط لحمي دقيق يمتد أفقيا إلى حدود لحمتي الأذنين, فيما يحد عراءه عموديا خصلات الشعر المقصوص, الطافي فوق جلدة الرأس مثل ريش أبله وغير آبه لديك معرض للذبح..ومن الأسفل, طوق القميص الأزرق الخافت الموشى بزهرات برتقالية, تختفي بدورها عند الذراعين حيث ينكفئ الكم القصير ويبدو جزء من لحم الذراع محشوا بالدهن.
إنها فتاة بدينة (ذاك النوع من البدانة المرضية)..ستكون عيناها – إسوة بالشعر- سوداوين مستديرتين كعيني بومة محدقة على الدوام في أحراش ليل لا نهائي, ونهداها..سيكون نهداها في حجم بطيختين.
هكذا, وأنا أستمرئ هذه اللعبة, أضع تصاميم لجغرافية الجسد الأنثوي المدموغ باللامبالاة, وجدت الأمر في النهاية شبيها بتدريب عملي للصغار على الرسم..نضع لهم إطارا لجسد إنساني ونطلب منهم كسوه بالملامح.إنهم في هذه الحالة قد يتفقون على بعض العموميات , كالبنية الضخمة للفتاة التي توحي بها استدارة القفا الشبيهة بقفا عجل, ومتانة الذراعين, لكنهم حتما سيختلفون في التفاصيل الدقيقة, لينتهي كل منهم في آخر المطاف إلى امرأة مغايرة قد لا تشبه سوى أمه.
ها إني أذكر أني في رحلة إلى سيدي ومولاي أقول له: " أنا في عارك, أخرجني من حالتي", فهل يفعل؟ وإذا سألني عن أمي ماذا أقول؟

( كانت تحلق عانتها.
امرأة عارية, كما أمي والنساء الأخريات..لا أذكر التفاصيل, لا شئ سوى الظلال
المعتمة لتي تحضن الأجساد والقطرات الباردة الملتمعة في السقف كالأقمار..أفركل           بين الجرادل مغتبطا بالماء وعالم الأسرار ذاك.وإذ تومض الشفرة في يد المرأة ترسل
جحوشها على مثلث العشب "كغط, كغط, كغط", تنحسر الظلال وراءً, والقطرات وكل الأشياء لكي تثبت الصورة الوحيدة المثيرة لعيني طفل في الرابعة, عينين مندهشتين
متسعتين تنتقلان بين أصابع المرأة, موسى الحلاقة ومثلث العشب المعرض للكشط.
فجأة تهوي الصفعة , حديدا باردا وجارحا, تهوي على الخد نارا, وتندغم بالظلال
المعتمة و وميض الشفرة والنجوم, صيحة أمي: "ما كتحشمش كتحشم احشم..")

الجو قائظ..والأجساد سكنت إلى بلادتها ..وحده السائق يحتفظ بيقظته كاملة, فالطريق "ما معاها مزاح".الفتاة أمامي اتكأت على كتف أمها فبدا عنقها أكثر بروزا..عنق عجل يخضه العرق, ومن تحت المرفق أطلت استدارة النهد المخبوء تحت زهر البرتقال والفواح برائحة السويهلة.في هذه الآونة كان المغني المحبط ما زال يردد:
هات كاس الراح
عنداك لاتنساني
ستف لي لقداح
عمر لي كيساني
يسايره السائق بنقرات من أصبعه على المقود أو غمغمات تنفلت من بين شفتيه ضعيفة كالفقاعات, سرعان ما ترتد منكرة إلى الأغوار الخبيئة للذات.قال: "ألا من أبادله الحديث يا جماعة الخير؟ أراكم استمرأتم النوم" ووجه إلى المرأة نظرة باسمة..تململت هي وقالت :" هل وصلنا؟" قال: "ليس بعد..هل تسافرين للمرة الأولى إلى الرباط؟" قالت: "كلا..سافرت إليها مرارا, لكن الأمر يختلف مع كل سفرة, أليس كذلك؟" نطق أحد الأجساد الخشنة من الخلف: "مثل سفرات السندباد, كل منها تختلف عن الأخرى" قالت: "أوه..لست مثل السندباد, أنا أسافر مضطرة لقضاء أشغالي, ثم أعود دون مغانم أو إشباع لروح مغامرة" أحس السائق بأنه أطلق عفريتا من القمقم ولن يعود بإمكانه التحكم فيه..هو يريد أن يتحدث عن الزواج والطلاق والحلي وكيد النساء كيد الرجال, لينتهي الأمر يإيصال المرأة إلى حيث تريد وأحيانا إلى حيث يريد هو.يدرك الآن أنه إزاء امرأة مختلفة, متعلمة ومحنكة..عليه أن يختار أسلحته وألفاظه..نخر المغني "عنداك لاتنساني" فضغط السائق على زر التعطيل, أخرج الشريط (الذي بدا له الآن مبتذلا وغير مناسب) وجعل ينقب بين الشرائط عن نغمة أخرى.حرك الذي بجانبي ساقيه بحثا عن وضع أكثر راحة, رفع يده اليمنى إلى فمه يستر بها شناعة الهيأة التي يتخذها الوجه لدى التثاؤب, ثم أعادها فوق الركبة.إن الأيدي تختلف كليا عن بعضها, لكل يد حياة وذاكرة خاصتان تنطبع بهما وتتميز عن الأخريات..قل لي كيف هي يدك أقل لك من أنت.أسعف الصوت الخشن السائق بأن مد له شريطا."لمن؟" "لفيروز" "فيروز؟ صوتها جارح ممض" "ذاك ما نحن بحاجة إليه, لأن الألم هو ما يسمو بنا, أحد الشعراء قال كلاما شبيها بهذا" فكر السائق: ما لنا والحزن, وفيروز والشعراء؟؟..التفتت المرأة إلى الخلف, نظرة خفيفة حطت على الصوت الخشن, ثم عادت إلى وكرها, وكنت أتأمل اليد المستسلمة في خنوع إلى وضعها فوق الركبة..يد ناعمة, ذات أصابع دقيقة بيضاء مقلمة الأظافر..هل يكون معلما؟ والفتاة والمرأة, أية علاقة وأية هموم؟ صحت فجأة: "أنت لا تشبهين أمي"..التفتت إلي من جهة اليمين مما اضطر الفتاة إلى رفع رأسها ..التفاتة إنسان بوغت بضربة على الظهر ولا يود أن يباغت للمرة الثانية, إنسان قريب الشبه بأحدب ابن الرومي..قالت ضاحكة: "ولماذا تريدني أن أشبه أمك؟" نظر إلي الآخرون أيضا, أحسست بنظراتهم تحفر جبهتي, قلت إن علي أن أغفو قليلا.

(أضطجع فتضج الألوان حولي وتملأ بالتناوب كل الفضاء..ألوان صارخة صقيلة, لا خدوش فيها أو خروم..يبدو الأحمر أولا لعيني المغمضتين كسماء أخرى , مربكة وقاسية, ممتدة بلا شطآن وغير مبشرة بأي خير.وما إن تبدأ العينان المغمضتان بالإستئناس بقساوة الأحمر حتى يتفسخ بحركة مباغتة وسريعة, ويخلي المجال لصفرة لا تحتمل, تطلق أشرعتها فوقي موحية بشتى أنواع الأمراض والهزال..بعدها ينبثق من محاجر الليل ليل آخر أكثر طغيانا و خنقا..تتناوب الألوان الثلاثة علي, وفقا لتكتيك سري معد سلفا لبلبلة الأعماق وخنق الأنفاس بالتدريج.في أحيان نادرة, خاطفة كالشهقة او رفيف العين, يباغتها اللون الأبيض بالحضور, يخترق سماواتها فتتكدر الصفحات على التو, وتبدو المسوخ بشكل أبشع وأشد شراسة..يبدأ الأمر بلطخة دقيقة ونائية في ذلك الإمتداد اللانهائي, الأحمر أو الأصفر أو الأسود, لا تلبث ان تدب فيها الحياة , فتبدأ في الإنحدار من علوها السامق, صخرة عظيمة متحدرة من ملايين السنين, من الإنفجار الهائل للكون..عندما تقترب من وجهي, وتكون الروح المعلقة من الأهداب مستعدة للقفز من الجسد في اللحظة الحاسمة, مثل ربابنة الطائرات الحربية, تأخذ اللطخة شكلها المعتاد: وجها شائها ومخيفا..أحيانا يكون بعين واحدة وسط الجبهة كعين السيكلوب, أو أدرد مفغورا مثل مغارة للخفافيش والأفاعي, أو بأنياب طويلة تتدلى على الذقن طالبة دمي , أو وجها بملامح آدمية, لكنها متنافرة شوهاء وفي غير موضعها المعتاد..يسيل لعاب الأوجه على جسدي يغسلني بالعرق وخوف بدون تخوم .. أفتح فمي لأصرخ, يهرب صوتي مني ويبقى الفم مفغورا, الفم الشائه اللافح كباب الفرن, يدنو أكثر من جسدي المحموم الراعش, أدرك بشكل غامض أني ميت, وأن ابتلاعه لي اللحظة, موت لموتي الأول, بيد أن الوجه البدائي المخيف , وبخبث إبليسي يكتفي بحز خصيتي..يضعهما قرطين في لحمتي أذنيه, ثم يرسل ضحكة مدوية, ويكون الفضاء آنذاك قد اصطبغ بالأحمر من جديد, ثم يغيب كل شئ, وتبقى الحمى, وحدها الحمى والرجفة والعرق.)

لست متعبا أو بي حاجة إلى النوم, ولذلك فإني لا أريد أن أغفو..أريد أن تظاهر بالإغفاء. يكفي أن أميل بجذعي إلى الأمام وأضع جبهتي ومرفقي على ظهر المقعد الأمامي. لقد أشبعت العين حاجتها, رأت من الفتاة كل ما يمكن ان يُرى من مكاني بالمقعد الخلفي..لليد الآن أن تبرز حناءها..سأغلق أذني عن كل ما يقال وأنصت بآذان أخرى داخلية إلى ذلك النداء البعيد الذي يترجرج في شعب مّا بالأعماق يحرك أمواهها الداخلية..لليد الآن أن تستلم المشعل وتعيد للمس مكانته المفتقدة كسيد للحواس وملك لا يضاهى: فالسمع, ليس من رأى كمن سمع, والبصر..الشوف ما يبرد الجوف, أما الشم, فماذا بإمكاني أن أشمه غير روائح العرق والأحذية اللاصقة بالأقدام والآباط ..حان أن تستقل يدي عني , تستحيل إلى حيوان آبق وشره يتصرف بمحض إرادته ويتجه الوجهة التي يريد..بعد أن وضعت مرفقي على ظهر المقعد لصيقا بالذبذبات الكهرومغناطيسية لجسد الفتاة, لم يبق ليدي إلا أن تغوص في ذاكرتها الخاصة وتأخذ شكلها..إنها الآن أشبه ما تكون بعصا موسى الملقاة أرضا..هي الآن حية تسعى.

(أنظر جهة الشرق فأراها, جهة الغرب فإذا هي هناك, جهة الشمال والجنوب أيضا. .قادمة من كل الجهات..عبر الهواء, كل الطرق والمنافد ولا مجال لاتقائها. أضع رأسي بين يدي وأترقب الصدمة الآتية لاريب, طق..وتنقذف الخصيتان المبعوجتان الحمراوان إلى أعلى وتسيل تلك الأجسام الخفية عن الأعين المسماة هرمونات بلغة العلم..يرتطم الأندروجين بالإسفلت, ويتعانق الأستروجين والبروجسترون في حركة مواساة أو وداع أخير..أتأملها ناغلة هناك كالحشرات وأغمغم: لا حول ولا قوة إلا بالله..بوغطاط بالليل وشاحنات بالنهار, أنقذني سيدي ومولاي, ما عدت أستطيع أن أتأخر عنك.) 

تتحسس الحية طريقها, تمد ألسنتها أماما بقدر محسوب وحذر..تعبر الآن الفتق الضيق بين حدود المقعد وباب السيارة ثم تسكن في لحظة استراحة وترقب لتخمن المسافة الفاصلة التي تفصلها عن دفقة الجسد المدموغ بالإنتظار, ومثلما يبعث فيلق الفرسان طلائعه لتقصي الأخبار, ارتأت أن تبعث بأحد الألسنة فقط يشق طريقه وحيدا بين شعاب وأودية الجسد.. ينطلق اللسان السبابة, لا شئ يعرقل زحفه غير خيط واهِ من التردد يكفي أدنى تمدد بسيط لتجاوزه, لكن ما معنى لحظات الصمت هاته؟ لمَ لا يصلون حديثهم بنتف جديدة عن الشاحنات أو الأمهات أو دوافع الرحيل؟ كل سفرة تختلف عن الأخرى أليس كذلك؟ وفخذ المعلم اللصيق بفخذي بشكل منفر يجدر أن أنساه اللحظة, أنسى يديه وعينيه..حتما لن يرى شيئا لأنهما مختومتان بشمع الطباشير ورياح التلاميذ..اندفاعة بسيطة فقط..الخطوة الأخيرة والحاسمة كي تلوذ السبابة بخيمتها المعدة منذ أول زعقة لمحرك السيارة, فوق ثنية من ثنيات الكرش البدينة, في الحد الأقصى الأيمن للكرش, جهة الأضلع الغائرة تحت ركام اللحم.. هل تلتفت الفتاة مستنكرة؟ أم تصمت؟ أم تبقى عاجزة عن عبور الشك إلى اليقين, حركة متعمدة؟ غير متعمدة؟ متعمدة؟؟ لا بد من لمسة أخرى أكثر جرأة وإفصاحا, وبعدها يتحدد كل شئ: استنكار صفاقة لا تحتمل, أو الدخول في لعبة تواطؤ سري وبهيج لأجل تتويج الحاسة الأكثر شهوانية على كل الحواس الأخرى.
هل ربحت الحية الرهان وجنت ثمرة جرأتها؟ الحية التي تحمل الشيطان في فمها تتسلل به نحو الجنة؟ يحكي الفردوسي في الشاهنامة عن زوهاك الذي قبله الشيطان في كتفيه فنبت مكان القبلتين ثعبانان ضخمان يطلع كل منهما من كتف مطالبا بغذائه اليومي: دم إنسان يقدم قربانا له. أية قبلة إبليسية تجعل من يدي حية تشتهي لحم نساء بدينات أو وحيدات ومكتئبات..إنها تسرح الآن في ركام اللحم..من حدود الورك الأعظم إلى أنفاس الحلمة المبتهجة بشذا الزهر على القماش..بين ثنياته تلطع وتعربد دون أن تبدي الفتاة أي حراك أو إيماءة استهجان. كانت تحلم دون شك, كلما تملت في المرآة أردية اللحم المسبلة على الأعطاف, المترفة والفائضة عن الحاجة, بلقاء من هذا النوع, شاذ وغير مسطر في أي دفتر لتاريخ اللقاءات.. بم تفكر الآن؟ أي إحساس ناهض من منطقة للعتمات ينشر ظلاله داخلها؟..تسرح الحية كما تشاء, سكرانة نشوانة تردد مقاطع من الشريط السابق: ستف لي لقداح عمر لي كيساني..كؤوس مترعة بالبدانة, باللحم الفائض المعرض في زقاق ضيق ومغفل للإغتصاب.

( "أما إذا استؤصلت الغدد التناسلية بعد أن يكتمل نموها (أي بعد المراهقة) فلن يصيب الجسم تغير محسوس لأن الوظيفة التناسلية تقف نهائيا, وإن كان التلقيح يصبح مستحيلا والرجل الذي خصي بعد البلوغ يستطيع أن يؤدي العمل التناسلي وأن يفرز سائلا من غدة البروستاتا دون أن يحتوي السائل على الجراثيم المنوية.وكذلك تحتفظ المرأة التي يستأصل مبيضاها بعد البلوغ, بعاطفتها الجنسية وكذلك بالحيض لفترة من الزمن لكنها تصبح بدينة وتشكو من كثير من الاضطرابات العصبية وخلافها.")
تمرق السيارة الآن بين المباني, بين أضواء المرور المنبثة في كل الأرجاء والبزات الكاكية لرجال يسهرون على حماية المواطنين(الوديعين المتخشبين في ممرات الإدارات أو الحانات) من جموح البحر.تضغط الحية في لمسة أخيرة ومودعة على الجسد, ثم تنثني برقصة عضلية خفيفة كي تسكن من جديد على ظهر المقعد عضوا ميتا وفي غاية البراءة..قال السائق: حمدا لله على سلامتكم. قالت المرأة: ساعدني أرجوك على إنزال ابنتي.. إن نصفها ميت. قال: انتظري سأوصلكما...
فأية دوخة هذه يا سيدي ومولاي؟ راغب أنا في القئ أوالإسبات دهورا أفيق بعدها شخصا آخر دون ذاكرة أو مجرد صورة لحيوان منقرض..لا أريد أن أرى وجهها..لا أستطيع..كانت يدي سابحة في تجاويف جثة.. سأنتحي بها جانبا, أمددها أمامي وأقئ عليها, أفرغ فوقها كل قمامات الداخل, ثم أتركها هناك وأذهب رأسا إلى سيدي ومولاي "سيعيد إليك توازنك وبهجة الإقبال على الحياة, هو لا غيره, ارحل إليه"..أبحث في الحقيبة, في الجيوب الداخلية والخارجية..لا شئ, لا شئ..لقد أضعت العنوان.



  
قتل القط
(قصص)









mercredi 27 juillet 2016


بيضة على الشاطئ
أو في تمجيد البياض

                                             ( قراءة في مجموعة شريف صالح بيضة على الشاطئ)


أول ما يصدم المتلقي ل"بيضة على الشاطئ" الفائزة بجائزة دبي الثقافية للإبداع في دورتها السابعة 2010/2011، غلافها الجميل والمريح بتناسق الألوان وتوزيع الظل والضوء وحضور الطبيعة الإكزوتيكية المحيلة إلى عالم خال من مورثات الخراب، والمبشرة بسلام الكائن وخفته. يتبدى ذلك من خلال الإنحناءة الحادبة للسماء على الأرض، لسعف النخل على الماء الجاري باتجاه الضوء، ثم ذاك البياض الذي يتوسط اللوحة وينتشر أفقيا باتجاه منابع النص الذي يأبى شريف صالح إلا أن يجعل منه مأدبة سردية تلتقي على مائدتها الأقانيم وتتوحد الأزمنة في لحظة ديمومة وتشتبك البدايات بالنهايات وحالات الصحو بالمنام والحلم باليقظة والموت بالتجدد. كل ذلك في حلة ناصعة من البياض.
فالعنوان والإشارات التي تتخلل الغلاف كعتبات حريصة على البوح، لم تكتب بالأبيض جزافا. والبيضة التي على الشاطئ، كما لو أنها بيضة الخلق وأول النشأة، تضاعف البياض بشكل مرآوي، كانعكاس متبادل، شبيه بانعكاس الوجه في بؤبؤ عين الآخر، القريب جدا من الذات.
إن مجموعة "بيضة على الشاطئ" هي قصة تمجيد البياض.. البياض كموت للكائن، وموت مؤقت للحكي، وللنظرة الساذجة للواقعية والأدب اللاهث خلف الحقيقة الاجتماعية. فالأدب ينتهي إلى أن يخلق حقيقته الخاصة.. أسطورته النوعية، ويتتبع مجراها كما يتبع شق الأرض سن المحراث، حين يتوصل الكاتب إلى تدبير شأنه القصصي متسلحا بأصالة في الرؤية وفي الأداء، ومتوسلا بمنظومة خاصة من الرموز والإشارات المشبعة برائحة الطفولة وفلسفة الحياة والموت.
وإذا كان البياض موتا فإنه انبعاث أيضا وتجدد مستمر، وبين الموت والانبعاث تؤسس المجموعة عوالمها وتبني مساراتها باتجاه بياض جديد، ليس سوى وجه مؤقت للنهاية. فالبداية عند شريف صالح هي الراسخة في أرض القص، بينما النهاية محط شك "إلى درجة أننا نكون غير متأكدين هل هذه هي النهاية أم لا؟". وبشكل يبدو معه النص "ليس سوى خمس بدايات لمسودة قصة لم تنته بعد".1
إذا استثنينا بعض الإشارات المنفردة والمعزولة إلى ألوان مختلفة كالرمادي والأخضر والأصفر والأزرق، يبقى كل شيئ في عالم شريف صالح القصصي أبيض في أبيض، فالصيدلانية والطيور والبقعة والممرات والضوء والطواويس والضباب والغزلان والبرسيم والشراسف والممرضة/الممرضات والحذاء والسحب والعباءة والطاولة والكيس والثوب والفرس والقطار والملابس. كل ذلك مدثر بلون واحد هو لون البياض. مع العلم أن ما تم تعداده في هذا السياق من أشياء ورموز بيضاء ينتمي إلى القصتين الأوليين فقط من المجموعة. ومن النافل التأكيد على أن تتبع البياض في باقي القصص سيجعل اللائحة تطول بشكل يتأبى على الحصر دون الوقوع في مطب نزوع إحصائي لا يشغل بال هذه القراءة.

أ) أضلاع البياض:

البياض هو اللالون وهو كل الألوان.. هو اللون في درجة الصفر، الفراغ الأكروماتيكي achromatique وهو الوحدة أيضا، حيث تتآلف المختلفات والأضداد.   ولون بهذه الخصوبة والغنى الدلالين، أكيد أنه لن يتبدى في مجموعة شريف صالح في بعد واحد فقط، بل يمكن تفريعه إلى مثلث دلالي ذي ثلاثة أبعاد:
-         البياض كموت للكائن
-         البياض رمزا للحياة
-         البياض كجسر بين عالمين

1)    ،البياض كموت للكائن:
إن رمزية الألوان تمتح دلالاتها من ثقافة المجتمعات ومؤثثات المخيال الجمعي التي ترسبت عبر التاريخ والأسطورة. وبذلك يتلون الأبيض من مجتمع لآخر بألوان دلالية متنوعة.. هكذا نجد البياض في الثقافة المصرية أو الثقافة الغربية رمزا للنقاء والعذرية والبراءة والفراغ.. بينما يرمز في الثقافة الآسيوية (الهند والصين واليابان) إلى الموت. ومعلوم أن الأرملة في الموروث الشعبي المغربي تتدثر بالبياض من قنة الرأس حتى أخمص القدمين، طيلة أيام العدة، في إشارة إلى موت رمزي يكمل موت الزوج ويعضده. وثمة من الدارسين من يرجع هذه العادة إلى التأثير الأندلسي حيث اتخذ البياض لباس حزن مقابل السواد الذي عرف به العباسيون، ومن ذلك قول الحصري:

                            إذا كان البياض لباس حزن
                                                        بأندلس فـذاك من الصواب
                            ألم ترني لبست بياض شيبي
                                                        لأني قد حزنت على الشباب


في قصة "وراء البياض" يقول السارد: "وهو يختبئ في كفن البياض، قد يسمع أصحابه الثلاثة وعم شحاتة المخبر يتحدثون عنه"2 ، ثم يقول في نفس القصة: " رأى ممرا طويلا أبيض. هناك أخذ نفسا عميقا وتمدد في ساحة واسعة من البياض ثم أغلق الباب وراءه".3
فالموت بياض (ساحة واسعة من البياض)
والطريق إليها.. الممر الطويل.. لحظات الاحتضار والنزع الأخير، بياض آخر
والكفن الذي يدثرها بياض ثالث..
ثلاثة مدارج من البياض تستقي محمولاتها من كلتا الثقافتين العربية/الإسلامية (التي شرعت لطقوس الدفن ومواصفات الكفن)* والثقافة الغربية/المسيحية (التي تنظر للموت كانتقال هادئ وجميل وشاعري إلى ما وراء الجسر عبر ممر شفاف أبيض).
وفي قصة "ألعاب الراعي" يقول السارد "أمي هناك رأيتها أعلى الجبل في ملابسها البيضاء تراقبنا"4. وفي قصة "الخروج إلى الشمس" يقول: "لا أرى عليها سوى أبي بملامحه السمراء الطيبة وجلبابه الأبيض النظيف. كان واقفا على الحافة يتطلع إلى الشاطئ".5
 ووواضح أن الرؤية هنا هي رؤية العين لكنها رؤية الحلم أيضا والذاكرة، حيث لا يستقيم الحاضر إلا بالماضي ولا تتقدم الأجيال الجديدة إلا باستعادة روح الآباء والأجداد..الآباء الذين مضوا مسربلين بالبياض.

2)    البياض رمزا للحياة:
ثاني ما يتبدى من الثالوث الرمزي، الضلع الآخر للبياض بوصفه رمزا للحياة بصخبها وعلاقاتها المتشابكة وإواليات انتظامها أو تفككها زمني السلم والحرب، وكذا بعدها الإيروسي الذي يشكل أحد حدّي الثنائية الضدية التي تسير على هديها سنة الحياة: الإيروس/التناتوس.
ضمن هذا البعد الإيروسي يحضر البياض كقيمة جمالية تزين المرأة.. يقول السارد واصفا الممرضة الفليبينية " قفزت وراءه داخل الغرفة ممرضة فليبينية بيضاء وبدينة"6. وإذا بدا التوصيف هنا قد حافظ على نوع من التجرد والحياد، فإنه يتجاوز ذلك في الصفحة 10 من نفس القصة، حين يقترن البياض بالقشدة ويصير مدعاة للحسد: "حسدتها في سري لأنها بيضاء كالقشدة".. مع ما يحيل إليه طرفا التشبيه من إدراك حسي شهواني للجسد الأنثوي القابل لأن يلعق باشتهاء..
هذه القيمة الجمالية للبياض حين يدمغ الجسد لا تقتصر على البشر، بل تتجاوزهم إلى الحيوان والطير. فالحمامة والطاووس والفرس والغزال والفيل، كرموز للجمال والانطلاق والطهر (حيث يرتقي الفيل الأبيض في بعض الثقافات إلى مقام القداسة) لاتكتمل دلالاتها إلا موصوفة بالبياض.. "قابلتك في حديقة الطوواويس البيضاء وهي حامل "7.. "ثم تكشف أمامي قطيع كبير لغزلان بيض قادمة نحوي" 8 .
أما الأيادي البيضاء فتحيل إلى صفة النفعية التي تسم العلاقات الاجتماعية ذات التقاطب العمودي، حيث يُنتظر من الأعلى اجتماعيا أن ينثر "بياضه" على الفئات المعوزة في شكل إعانة مادية أو خدمة ما أو وساطة، استجلابا لتعاطفهم وأصواتهم الانتخابية، أو دفعا لشرهم  "تدعو لانتخاب المرشح رمز الجمل ورمز الهلال  وعليها عبارة "انتخبوا الرجل صاحب الأيادي البيضاء""9.
3)    البياض كجسر بين عالمين:
كما يرمز البياض إلى الحياة أو الموت، فإنه في عالم شريف صالح القصصي يرد مورد تقاطع بين عالمين.. عتبات للانتقال من الهنا إلى الهناك.. من الحياة إلى الموت، ومن المعقلن والممنطق إلى المتخيل والحلم والخرافة. فالرجل الطيب الذي يطوي الفراسخ السماوية على عربة تجرها الغزلان، ويتدلى عبر المداخن لإسعاد أطفال ينتظرون هداياه ، هو على الأرجح في خلفية التصور عن الراعي الطيب الذي أسكنه شريف صالح السحاب: "عجوز أسمر مثل جدي قبل أن يسافر عند ربنا، محني قليلا مثله لكنه يرتدي عباءة بيضاء يموجها الهواء". "كان يظهر ويختفي خلف سحب زرقاء وبيضاء يحرك في الهواء عصاه الخيزران ويبتسم"10. عجوز بمواصفات الأولياء وأنصاف الآلهة.. وسيط بين السماء والأرض، الأحياء والموتى.
ولعل أبرز الفضاءات توسطا بين الحياة والموت هو المستشفى، كملاذ للمرضى وعتبة لاقتحام البوابة الأخيرة إلى الضفة الأخرى. وإذا كان التصور المسيحي كما ذكر آنفا يرى الموت انتقالا عبر ممر أبيض ساطع "رأى ممرا طويلا أبيض" 11، ففضاء المستشفى يحيل إلى صورة مشابهة "كيف لم أر هذه اللوحة طوال اليومين الماضيين؟ في الممرات البيضاء المضاءة بضوء أبيض ساطع تظهر ممرضات حوامل يتهادين ببطء"12.
فالمستشفى وعد بالموت أو ولادة قريبة.. منه تحمل الجثث إلى ثلاجة الموتى وتتدلى أجساد المواليد في أيدي المولدات تحفيزا للصرخة الأولى للحياة.. المستشفى معبر وعتبة.

ب) أجراس الحكي:

تتميز كائنات شريف صالح القصصية بمرونة كبيرة وقابلية لاختراق الحدود ما بين الحلم واليقظة، وبين الموت والحياة. إنها كائنات حية تتخيل موتها، أو ميتة تعود إلى الحياة.. تجد في الحلم متنفسا تارة، وسجنا تارة أخرى، لكثرة ما يتكرر الحدث الحلمي ويعاد كقدر سيزيفي. في قصة "العجوز الذي يراقبنا" يتحاور الحالم والمحلوم به، وفي قصة "عصر السنجة" يعود بلال من موته "لكتابة يافطة ستة أمتار تأييدا للمحافظ الجديد"13.
هذا الانبعاث والتجدد يتمثل أيضا في ذلك العود الأبدي، لا كموقف نيتشوي ورؤية للوجود، بل كتقنية سردية يوظفها الكاتب في حفر مجرى النص.. كجرس يقرع بين الفينة والأخرى تذكيرا للمتلقي بما مضى، وتحفيزا لما يستجد ضمن مآلات الحكي وسيرورته.
"الخبر تسرب بعد العصر"
هذه الجملة الخبرية الساكنة ظاهريا، تدشن الطريق السيار للسرد في قصة "وفاة غامضة لعدو صامت" 14 بحيث تطن في مخيلة المتلقي خمس مرات متواترات فيما يشبه نداء إلى الخشوع.. خمس مرات بخمس وحدات سردية وخمس رؤى لواقعة واحدة هي واقعة موت أبي سعيد.
"الخبر تسرب بعد العصر"
خمس محطات للأداء.. محطات استراحة للتريث واسترداد الأنفاس، قبل استئناف السير على أرض الحكي.
صوت المطرقة هذا الذي يتردد في ردهات الحكي لم يقتصر على القصة السابقة، ففي قصة "الخروج إلى الشمس"15 تتردد التحية الشبيهة بترتيل محبة للعجوز السوري أبي جوني:
"صباح الخير أبو جوني"
"مساء الخير أبو جوني"
وبين الصباح والمساء، تنتعش ملامح شخصية زوربوية نهمة للحياة والنساء و"اللحم المسروق".
وقريب من هذا الملمح التقنوي في الكتابة القصصية لدى شريف صالح، ما نجده في قصة ثالثة "الطواف وسارق النحاس" 16، حيث تتردد لازمة "أنت اللي سرقت النحاس" وإن بشكل أكثر خفوتا وقابلية للتعديل في النص الأصلي لللازمة.
خاتمة:
وأنا أتوقف بالقراءة عند هذا الحد، تبقى في النفس أشياء من "حتى"  وتبقى المجموعة في حاجة إلى استغوار ورصد نقدي، فبي قناعة بأنها تشبه ضرعا بألف حلمة، حيثما يسحب المتلقي يغنم حليبا أبيض.

--------------------------
الهوامش:

1 قصة وفاة غامضة لعدو صامت ص 131
2 قصة وراء البياض ص 100
3 نفسها ص106
* في حديث عن ابن عباس ان النبي ص قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم"
4 قصة ألعاب الراعي ص 31
5 قصة الخروج إلى الشمس ص 123
6 قصة الغواية الأولى ص 19
7 نفسها ص 12
8 نفسها ص 13
9 قصة عصر السنجة ص 46
10 قصة ألعاب الراعي ص 23
11 قصة وراء البياض ص 106
12 قصة الغواية الأولى ص 11
13 قصة عصر السنجة ص 41
14 قصة وفاة غامضة لعدو صامت ص 124
15 قصة الخروج إلى الشمس ص 107
16 قصة الطواف وسارق النحاس ص 61



dimanche 24 juillet 2016

                              جمالية التجريب القصصي
                  في"سبعة أجراس لزمن البرتقال"[1]  لحسن البقالي
                                                       الطيب هلو


تقديم
    يكشف التأمل في حصاد القصة القصيرة بالمغرب عن وفرة في الإنتاج وحركية في التأليف؛ إذ تجاوزت المجموعات القصصية المائة الرابعة، وهو عدد لا يستهان به إذا قيس بعمر هذا الجنس الأدبي. لكن الملاحظ أيضا أن القراءات النقدية لم تتناول من هذا المنجز إلا مجموعات قليلة، كما أن الذاكرة الثقافية لا تحتفظ إلا بمجموعات أقل، بفضل ما تمتلكه هذه المجموعات من بصمات تجعلها عالقة بالذهن. فلا أحد يمكن أن ينسى مجموعات ك"الممكن من المستحيل" لعبد الجبار السحيمي أو"سلخ الجلد" لمحمد برادة أو "طارق الذي لم يفتح الأندلس" لمصطفى المسناوي أو "النظر في الوجه العزيز" لأحمد بوزفور أو " اشتباكات" لأمين الخمليشي أو"رائحة الورس" لعبد النبي دشين تمثيلا لا حصرا.
    ومن هذه المجموعات التي لا تنسى، والتي ما تزال تحتفظ ببريقها رغم مرور أكثر من عقدين على صدورها، ويمكن عدها محطة ضرورية في تتبع مسار القصة القصيرة بالمغرب و لبنة  أساسية في صرحها الشامخ، مجموعة "سبعة أجراس لزمن البرتقال " للقاص و الروائي حسن البقالي. فهي مجموعة قصصية جديرة بالقراءة المتجددة لكشف بعض أسرار حضورها الدائم في ذاكرة السرد المغربي.

 جمالية العنوان:
    عندما يختار حسن البقالي " سبعة أجراس لزمن البرتقال " عنوانا لمجموعته الأولى فإنه يعلن في الآن ذاته امتطاءه للتجريب، بوصفه مخالفة للسائد و إقلاقا للمألوف من جهة، ورؤية فنية وفكرية ضرورية لتطوير القصة المغربية و إخراجها من وضع ظلت حبيسة أركانه الفنية وموضوعاته الواقعية ورؤيته الإيديولوجية من جهة ثانية. فهذا العنوان إيذان بالقدوم وإنذار بخطر ما، تحمله لفظة الأجراس. فالجرس استئذان، وقرع الأجراس إخبار بخطر محدق، كما في التعبير المتداول "دق ناقوس الخطر"، وفي تحديد العدد (سبعة) ما يكشف عن الإصرار ـ إذا كان العدد مقصودا لذاته ـ وعن المبالغة، إذا نظرنا إليه في دلالته الرمزية الدالة على الكثرة. ومهما كانت دلالة العنوان فإنه كان إعلانا مبكرا عن ميلاد قاص حقيقي يجيب عن سؤال " إرنست همنغواي": لمن تقرع الأجراس؟
 إنها تقرع " لزمن البرتقال".
     وبالعودة للقصة التي تحمل هذا العنوان ندرك أحد أسرار جعلها عنوانا للمجموعة القصصية. فهذه القصة تقف وحدها دليلا كافيا على فرادة تجربة القاص، وامتلاكه لرؤية خاصة عن التجريب، يبعده عن الفوضى والتدمير.
    إن التجريب عند حسن البقالي كسر للسائد والمألوف، لكن بوعي وحذر شديدين. فتحديث القصة عنده ليس مجرد لعب أو تخريب، والقصة ليست هذيانا وفوضى. إنما النص الجيد عنده هو من يملك القدرة على الإبهار وتسريب الدهشة والإمتاع إلى المتلقي من خلال الحرص على التواصل معه. فحسن البقالي في هذه المجموعة يكشف عن تبصر بالشرط التاريخي والجمالي الذي يكتب ضمنه. إنه يكتب لقارئ يعيش زمنه، ويشترك معه في المعيش اليومي وفي الذوق، وليس لقارئ افتراضي لا يعيش إلا في خيال المبدع.     
      إن قراءة نصوص حسن البقالي تقنع القارئ أن التجريب ليس ضد النظام، وإنما هو نقل للنص القصصي من نظام بسيط وعادي إلى نظام أكثر تعقيدا وتعددا، نظام يوازي ما يعرفه العالم الحقيقي من تعقيد وتعدد، وما تحسه الذات داخل هذا العالم من تشظ وخواء وقلق.
   فكلما انطوى الدال على قدر كبير من التباين والمغايرة والاختلاف، وكلما كان أكثر قوة في إنتاج معناه وإظهاره، كان أكثر فاعلية في إطار مشروع تفكيك وتذويب البنى القائمة. فكل نص جديد حريص على تقويض المقومات الفنية التي تسم النصوص السابقة، يعمل في الآن ذاته (بوعي أو بلاوعي) على تفكيك البنية الذهنية والسياسية التي أنتجتها، والأساس الفكري والاجتماعي الذي ارتهنت إليه. فرفض الخطية والتتابع في القصة التي تحمل عنوان المجموعة، مثلا، تقويض لمبدأ السببية والارتباط الفكري، وهدم لمفهوم المهادنة والسيرورة السلبية اجتماعيا وسياسيا.كما أنه يمنح القارئ إمكانية النظر الطموح إلى وضع اجتماعي ترتسم على ملامحه التعددية والمغايرة وقبول الاختلاف بوصفها مطالب راهنة وملحة. ففي كثرة عدد "الأجراس" ما يمنح التعدد معناه.
معمار النص القصصي:      
   شكل تكسير البنية التقليدية للقصة القصيرة النقطة الأولى في مسلسل التحديث القصصي؛ لأن صرامة البناء الكلاسيكي تمنع تحقيق حداثة المضمون أو الكشف عن رؤيا جديدة للعالم والإنسان. وهذا ما يمكن كشفه من خلال الاطلاع على المحاولات التجديدية السابقة لعقد الثمانينيات، والتي اتسمت بالجزئية؛ وبذلك لم يتبلور التجديد عند كتابها بوصفه رؤية جذرية وشاملة.
إن الرغبة القوية في تحديث القصة القصيرة، عند قصاصي الثمانينيات ومن بعدهم، جعل التجريب على مستوى معمار النص رهانهم الأول، ليمكّن بقية المكونات والعناصر من التحرر؛ وأعني تجديد الرؤيا ونقلها من الهم الجماعي إلى الهم الفردي والإغراق في التذويت، ثم تجديد اللغة وجعلها لغة شعرية من خلال منحها طاقة موسيقية وكثافة تعبيرية قوية جعلت بعض النصوص القصصية قريبة من الشعر، ثم تشظية العناصر القصصية الأساس، كالحدث والشخصية واللعب بالفضاء وغيرها.
لكن الذي وجبت إليه الإشارة أن كتاب هذه المرحلة تتفاوت درجة كسرهم للبناء الخطي للقصة القصيرة، فمنهم من جرب بحذر شديد خاصة من تتلمذ بشكل أساس على كتابات السبعينيين، ومنهم من وصل بالتجريب إلى تشظية البناء وتفجيره، وتمزيق خطية السرد باستخدام تقنيات جديدة كالقطع والانتقال والحذف، أوبالانفتاح على الأجناس الأدبية والفنية الأخرى كالمسرح والسينما والشعر والتشكيل، خاصة المتأخرين من هذا الجيل، والذين قرؤوا بانتقائية ووعي محاولات التجريب الأولى عند جيل السبعينيات، أو من تأثروا بالقصة الجديدة في المشرق، أو بالكتابات الغربية المترجمة.
إن كتاب الثمانينيات لم يركنوا إلى بناء فني قار وجاهز ، فقد استطاعوا أن يقدموا منذ بواكير أعمالهم قوالب متعددة للنص القصصي، متضادة أحيانا، وغير منضبطة لشكل جاهز، مما جعلها تشي بالإمكانات والتقنيات القوية والعديدة للكاتب. وهو الأمر الذي تأكد لاحقا في مجموعاتهم القصصية المتوالية. فأشكال الكتابة القصصية عندهم مفتوحة، قائمة على الاحتمال والانهيار، في خلخلة واضحة لأركان القصة المتعارف عليها. 
وبقراءة مجموعة حسن البقالي "سبعة أجراس لزمن البرتقال" نجد حضور قصص منضبطة للشكل الكلاسيكي، من حيث احترام الحدث والزمان والمكان والشخصيات، وهي سمة واضحة في أغلب نصوص هذه المجموعة. ونمثل لذلك بنماذج دالة منها قصة "الشحاذون"[2]لحسن البقالي التي يبدأها القاص بوصف حالة الجو التي سار فيها الشحاذ، يقول:" على صفحة السماء غمامة محشوة بالقطن.. وتحتها كان يمشي بطيئا يتكئ على عكازه ويغالب الطريق.. كان يعرج قليلا وكان وحده تحت الغمامة البيضاء ذات صباح جميل" وهكذا تسير القصة محترمة تسلسل الأحداث إلى أن تصل إلى نهايتها المفاجئة " نقر الرجل العكاز على الإسفلت فتعالى نشيد وهديل.. أخذ العكاز، فككه، أعاد تركيبه .. قال:
ـ نريد ... رأسك !
صوب العكاز نحوه وكان بندقيته." 
  وعلى هذا المنوال تسير مجموعة من قصص حسن البقالي: بقعة زرقاء في شارع طويل ـ حبيب الصخرة ـ الرجل الذي رحل إلى الشمال ...
وهو ما يكشف أن هذه النصوص محكومة بالأسلم. وهو أمر طبيعي في المجموعة الأولى لأي كاتب. لكن، مع ذلك، تجاور هذه النصوصَ نصوصٌ أخرى بدأت تظهر فيها بوادر الخصوصية والتفرد، والتي ستبرز بشكل أقوى في المجموعات اللاحقة، وهو ما يعكس أن القاص كان على وعي بضرورة تحديث البناء القصصي، فقام بمحاولات للتجديد منها:
أ ـ تكسير سيرورة السرد باستثمار العناوين الفرعية: ويمكن أن نمثل لذلك بقصة "سبعة أجراس لزمن البرتقال" [3]والتي جعل الكاتب عنوانها ميسما للمجموعة، وكأنه بذلك يشير إلى تجديده من خلال استثمار مؤشر العنوان. وقد وزع القاص حسن البقالي هذا النص إلى سبعة مقاطع يحمل كل منها عنوانا، وهي: موت البرتقالة أو ابتداء النهار ـ الرحلة إلى زمن البرتقال ـ الدخول في زمن البرتقال ـ ما قلته للعامل الآخر ـ ما قاله لي العامل ـ موت النهار أو ابتداء الحكاية ـ حوار أخير برتقالي الطعم. كما استثمر تقنية التوزيع إلى عناوين في قصة أخرى هي" محرار"[4]، والتي وظف فيها مقاطع معنونة بضمائر منفصلة: هو ـ هي ـ هما. أما في قصة "مواويل لزهرة تستيقظ بعد قليل" [5] فقد فضل استعمال الأرقام من 1 إلى 17. ولعل في تكرار هذه التقنية وتنويع توزيع المقاطع بين الجمل والضمائر والترقيم ما ينفي عن هذا الفعل الاعتباطية ويدخله دائرة القصد، وهو ما ستعمقه المجموعات القصصية اللاحقة.
شعرية اللغة:
تمتطي نصوص " سبعة أجراس لزمن البرتقال" لغة شعرية قوية لكن دون تفريط في الجوهر السردي للقصص. ويمكن كشف هذا الحضور الشعري من خلال الاستعارات العديدة التي وظفها القاص لوصف المكان أو الشخصية أو لنقل إحساس ما. وقد وزع القاص هذه الاستعارات بمهارة وحذق على كافة نصوص المجموعة درءا لأي تفاوت فني قد يشوبها. ويمكن أن نقتنص بعضا من هذه الصور الجميلة العاكسة لإحساس الشخصيات تجاه الزمن والمكان والأشياء. وقد ساهمت هذه الاستعارات في شحن النص بطاقة خاصة قوامها الأنسنة. فقد أضفى القاص صفات إنسانية على الأزمنة والأمكنة والأشياء. ف"خيوط الغبش تنسج للصبح الرداء" والليل "يتحسس عباءته يريد أن يغطينا" و"الليل ما يزال يلم بقاياه ويتوجع" و"الصباح  يتمطى، يبتسم ابتسامة ملغزة" ... والأمثلة كثيرة يتعذر إيرادها كلها.
وإلى جانب الاستعارات التي أوردنا نلاحظ استعمالا خاصا للتشبيه. فإذا كانت أغراض التشبيه تدور في مجملها حول تقريب المشبه وبيانه، أو بيان حاله أو مقداره وغيرها مما هو متداول في كتب البلاغة، فإن حسن البقالي ينفرد بعكس هذه الأغراض إذ يميل التشبيه عنده إلى الإغراب والتباعد. ولعل في ما سنورده من أمثلة دلالة على ذلك:( صمت مثل ذئب ـ عواء كئيب يعلو في الفضاء ثم ينقذف داخل الرجل مثل سبة لا تحتمل ـ الشارع خال ومرعب كأنه قطعة هاربة من زمن آخر ـ كان الفصل صيفا والشمس حمراء كالجريمة...) ولعل الغرض من التشبيه ليس تقريب المعنى بقدر ما يهدف إلى نقل الإحساس بالفداحة والخراب الإنساني من جهة واستفزاز القارئ للتوقف عند كل عبارة للتأمل بدل القراءة السريعة الاستهلاكية.
إن في استخدام القاص حسن البقالي هذه التقنيات البلاغية بصورة جديدة غير مألوفة وبهذه الكثافة العارمة يجعل بعض المقاطع قصائد حقيقية كقوله: " آه أيها المدى ما لون الردى" 15
" ماعاد للطفولة لون، وما عاد الفرح يغني على الوجوه."ص9 أو في قوله: " هل كان بريقهما شمسا متوهجة بالأحلام والأحزان أم كان قارة غارقة في الخط الفاصل بين الوجود والعدم؟" 10
في الختام نؤكد أن قارئ هذه المجموعة سيدرك، ومن خلال كل نصوصها، أن النص الإبداعي التجريبي الناجح هو النص الذي يسمح داخله بالتقارب بين الأشياء المختلفة، ويمكِّنُ القارئ من النظر إلى العالم، ليس بوصفه سيرورة خطية تتابعية للأحداث، وإنما باعتباره عالما خاصا يموج في حالة من الحركة المستمرة والدوران الدائم. فالتجريب ليس بالضرورة تدميرا كليا للمعنى، وليس إصرارا على الخواء والغياب واللاجدوى. وإنما هو في عمقه تفكيك للبنى الداخلية للنص، تمهيدا لانفتاح المعنى وتعدده.
 بهذا المعنى ندرك أن التجريب القصصي عنده يتحقق من خلال قدرته على إنتاج منظومة من التفاعلات، تمكنه من إبداع اللاممكن من الممكن والمتحرك من الثابت، وذلك عبر إقامة التوافق بين النظام واللانظام، والمراوحة بين مبدإ الهيمنة وسلطة المعيار ومبدإِ المغايرة والاختلاف داخل النص القصصي الواحد.

الهوامش:






[1]  ـ حسن البقالي، سبعة أجراس لزمن البرتقال/ منشورات اتحاد كتاب المغرب، الطبعة الأولى. الرباط 1991 
[2]  ـ نفسه ص 9
[3]  ـ نفسه ص 17
[4]  ـ نفسه ص 63
[5]  ـ نفسه ص 55