بيضات تفقس على الطريق
كان ينادي: "واحد الرباط , واحد الرباط" عندما
أقبلت..قلت: أنا هو ذاك الواحد أيها المنادي. قال : أنت ذاك, اطلع يا عبد الواحد..فطلعت.
لقد حزمت أمري أخيرا, وقررت أن لا بد من زيارته..أتكتف
بين يديه أو أتمغط حسبما يمليه علي سيدي ومولاي, البحر في ميدانه, فليفعل بي ما
يشاء بشرط أن يخرجني من حالتي ..نصحوني كثيرا بالذهاب إليه, وكنت أتذرع بشتى
الأعذار وأماطل "هو الكفيل بأن يعيد إليك توازنك وبهجة الإقبال على
الحياة..هو لا غيره, ارحل إليه" فهل أنا دون توازن أو لحظة فرح؟ وهل حقا ما
يقولون؟ ولمَ كل هذه الضجة, هذه الضجة؟ وكل ما في الأمر أني:
أخاف أن تدوسني شاحنة.
تتحين لحظة غفلة مني لتنهد فوقي كالجبل..هناك, في عرض
الطريق, أمام الآخرين..لا, ليس الموت هو ما يخيفني, ليس ذاك الذي يطال الكل, الناس
والضفادع والأشياء..ثم إني بالغ الإحتراس, لا أجتاز الطريق إلا إذا نظرت يمينا
فشمالا, ثم يمينا فشمالا..عندها فقط, أقطع مهرولا كأنما على الرصيف الآخر امرأة
حبيبة إلى قلبي تنتظرني بشوق فاردة يديها لأنفاسي. أستبعد فكرة موتي بهذا الشكل,
في عرض الطريق أمام الآخرين, لكني لا أقوى على دفع الصورة التي تراودني باستمرار,
تدهمني في لحظات خلوتي, وترسي قلاعها في دواخل النفس.شكل مبهم..شكل معدني ومبهم
يتحرك نحوي, كلما ازداد قربا يزداد ضخامة, وكلما ازداد كبرا يعظم شعوري بالبرد
وينضح جسدي الراجف عرقا.. ثم يتضح الشكل فتبدو الشاحنة بوضوح, زاحفة نحوي محملة
بالضجيج وأحداق الموت.. موت مفاجئ, معدني أيضا وحاقد, تطقطق له العظام ثم تخلد
الروح إلى باريها..هناك, في عرض الطريق, أمام الآخرين الذين يكتفون بضرب كف على
كف, والتحسر على الشاب الذي أكلته الطريق. أفكر بأن هذا ليس مستبعدا تماما, رغم ما
قد يبديه الإنسان من حذر, إذ لا شئ مستبعد في هذه الحياة الغريبة, وكل ما يمكن أن
يحكى من عجائب تتأبى على التصديق لن يكون في الحقيقة سوى جزء بسيط من عجائبية
الواقع الذي نعيشه, الماكر, المتربص المحتال.
ليس الموت قطعا.
تنسل السيارة الآن من القماط الجيري لمدينة في النزع
الأخير..التفت إليّ السائق, إلى يدي بالتحديد, قال: ارمه. ثم ألقى نظرة جانبية على
المرأة الجالسة قربه تحدث ابنتها (هي على الأرجح ابنتها): لا تقلقي, سيكون كل شئ
على ما يرام, سترين.
كنت بالمقعد الخلفي وراء الفتاة مباشرة, وبجانبي سكنت
ثلاثة أجساد خشنة, بشوارب ولحي ومصائر متشعبة وغامضة لا يعلمها إلا الله. جذبت
نفسا أخيرا, ورميت ببقية السيجارة من الزجاج نصف المفتوح..فعلت ذلك بغيظ, وكنت
ألعن السائقين والسيارات وكل الأماكن التي يمنع فيها الإنسان – بأدب مقيت- من
التدخين.إن أفضل ما في السيجارة رشفاتها الأخيرة, بنفس القدر الذي تكون به لحظات
الوداع أفضل ما في اللقاء..لكن من أين للسائق الفظ أن يعلم ذلك؟.إنني لست مغتاظا
الآن..داخلي نهب لشعور بالإشمئزاز والقرف, انزرع داخلي على إثر احتكاك فخذي بفخذ
الجالس بجانبي, فالجسد البشري لم يهيأ للإحتكاك بجسد آخر من نفس الجنس, ولذلك كنت
دائما أعتبر تلك اللقاءات القسرية, في الأماكن العامة, بأناس لا أعرفهم لكني أضطر
إلى مجالستهم, او الإحتكاك بهم, جزءا من عقوبة بالغة الغموض والتعقيد تجد تفسيرها
في تاريخ خطاياي السري, الذي أحاول جاهدا نسيانه, والزج به في مفازات اللاوعي,
ثم..ها عيناي المعتكرتان, الشبيهتان بعيني العجوز الضاحكة على الرصيف, تستريحان
على جسد الفتاة الجالسة أمامي مباشرة.
الجسد:
أن تكون بالمقعد الخلفي لسيارة أجرة, وأمامك مباشرة على
المقعد الأمامي امراة, فإنك حتما لن ترى
إلا بعض الأجزاء, غير المكتملة من معمارها الجسدي, لكنها بالمقابل ستلعب
دورا هاما لدى أية محاولة للتسلية, تنطلق بموجبها من الأجزاء كمعطى كي ترسم للجسد
صورة كلية..إن الأمر شبيه إلى حد ما بما يقوم به علماء الآثار عندما يعيدون لجمجمة
متحدرة من آلاف السنين ملامحها الإنسانية.
لم يكن يبدو من الجسد سوى القفا, جزء من القفا فقط, شريط
لحمي دقيق يمتد أفقيا إلى حدود لحمتي الأذنين, فيما يحد عراءه عموديا خصلات الشعر
المقصوص, الطافي فوق جلدة الرأس مثل ريش أبله وغير آبه لديك معرض للذبح..ومن
الأسفل, طوق القميص الأزرق الخافت الموشى بزهرات برتقالية, تختفي بدورها عند
الذراعين حيث ينكفئ الكم القصير ويبدو جزء من لحم الذراع محشوا بالدهن.
إنها فتاة بدينة (ذاك النوع من البدانة المرضية)..ستكون
عيناها – إسوة بالشعر- سوداوين مستديرتين كعيني بومة محدقة على الدوام في أحراش
ليل لا نهائي, ونهداها..سيكون نهداها في حجم بطيختين.
هكذا, وأنا أستمرئ هذه اللعبة, أضع تصاميم لجغرافية
الجسد الأنثوي المدموغ باللامبالاة, وجدت الأمر في النهاية شبيها بتدريب عملي
للصغار على الرسم..نضع لهم إطارا لجسد إنساني ونطلب منهم كسوه بالملامح.إنهم في
هذه الحالة قد يتفقون على بعض العموميات , كالبنية الضخمة للفتاة التي توحي بها
استدارة القفا الشبيهة بقفا عجل, ومتانة الذراعين, لكنهم حتما سيختلفون في
التفاصيل الدقيقة, لينتهي كل منهم في آخر المطاف إلى امرأة مغايرة قد لا تشبه سوى
أمه.
ها إني أذكر أني في رحلة إلى سيدي ومولاي أقول له:
" أنا في عارك, أخرجني من حالتي", فهل يفعل؟ وإذا سألني عن أمي ماذا
أقول؟
( كانت تحلق عانتها.
امرأة عارية, كما أمي والنساء الأخريات..لا أذكر
التفاصيل, لا شئ سوى الظلال
المعتمة لتي تحضن الأجساد والقطرات الباردة
الملتمعة في السقف كالأقمار..أفركل بين الجرادل مغتبطا بالماء وعالم
الأسرار ذاك.وإذ تومض الشفرة في يد المرأة ترسل
جحوشها على مثلث العشب "كغط, كغط, كغط",
تنحسر الظلال وراءً, والقطرات وكل الأشياء لكي تثبت الصورة الوحيدة المثيرة لعيني
طفل في الرابعة, عينين مندهشتين
متسعتين تنتقلان بين أصابع المرأة, موسى الحلاقة
ومثلث العشب المعرض للكشط.
فجأة تهوي الصفعة , حديدا باردا وجارحا, تهوي على
الخد نارا, وتندغم بالظلال
المعتمة و وميض الشفرة والنجوم, صيحة أمي:
"ما كتحشمش كتحشم احشم..")
الجو قائظ..والأجساد سكنت إلى بلادتها ..وحده السائق
يحتفظ بيقظته كاملة, فالطريق "ما معاها مزاح".الفتاة أمامي اتكأت على
كتف أمها فبدا عنقها أكثر بروزا..عنق عجل يخضه العرق, ومن تحت المرفق أطلت استدارة
النهد المخبوء تحت زهر البرتقال والفواح برائحة السويهلة.في هذه الآونة كان المغني
المحبط ما زال يردد:
هات كاس الراح
عنداك لاتنساني
ستف لي لقداح
عمر لي كيساني
يسايره السائق بنقرات من أصبعه على المقود أو غمغمات
تنفلت من بين شفتيه ضعيفة كالفقاعات, سرعان ما ترتد منكرة إلى الأغوار الخبيئة
للذات.قال: "ألا من أبادله الحديث يا جماعة الخير؟ أراكم استمرأتم
النوم" ووجه إلى المرأة نظرة باسمة..تململت هي وقالت :" هل وصلنا؟"
قال: "ليس بعد..هل تسافرين للمرة الأولى إلى الرباط؟" قالت:
"كلا..سافرت إليها مرارا, لكن الأمر يختلف مع كل سفرة, أليس كذلك؟" نطق
أحد الأجساد الخشنة من الخلف: "مثل سفرات السندباد, كل منها تختلف عن
الأخرى" قالت: "أوه..لست مثل السندباد, أنا أسافر مضطرة لقضاء أشغالي,
ثم أعود دون مغانم أو إشباع لروح مغامرة" أحس السائق بأنه أطلق عفريتا من
القمقم ولن يعود بإمكانه التحكم فيه..هو يريد أن يتحدث عن الزواج والطلاق والحلي
وكيد النساء كيد الرجال, لينتهي الأمر يإيصال المرأة إلى حيث تريد وأحيانا إلى حيث
يريد هو.يدرك الآن أنه إزاء امرأة مختلفة, متعلمة ومحنكة..عليه أن يختار أسلحته
وألفاظه..نخر المغني "عنداك لاتنساني" فضغط السائق على زر التعطيل, أخرج
الشريط (الذي بدا له الآن مبتذلا وغير مناسب) وجعل ينقب بين الشرائط عن نغمة
أخرى.حرك الذي بجانبي ساقيه بحثا عن وضع أكثر راحة, رفع يده اليمنى إلى فمه يستر
بها شناعة الهيأة التي يتخذها الوجه لدى التثاؤب, ثم أعادها فوق الركبة.إن الأيدي
تختلف كليا عن بعضها, لكل يد حياة وذاكرة خاصتان تنطبع بهما وتتميز عن
الأخريات..قل لي كيف هي يدك أقل لك من أنت.أسعف الصوت الخشن السائق بأن مد له
شريطا."لمن؟" "لفيروز" "فيروز؟ صوتها جارح ممض"
"ذاك ما نحن بحاجة إليه, لأن الألم هو ما يسمو بنا, أحد الشعراء قال كلاما
شبيها بهذا" فكر السائق: ما لنا والحزن, وفيروز والشعراء؟؟..التفتت المرأة
إلى الخلف, نظرة خفيفة حطت على الصوت الخشن, ثم عادت إلى وكرها, وكنت أتأمل اليد
المستسلمة في خنوع إلى وضعها فوق الركبة..يد ناعمة, ذات أصابع دقيقة بيضاء مقلمة
الأظافر..هل يكون معلما؟ والفتاة والمرأة, أية علاقة وأية هموم؟ صحت فجأة:
"أنت لا تشبهين أمي"..التفتت إلي من جهة اليمين مما اضطر الفتاة إلى رفع
رأسها ..التفاتة إنسان بوغت بضربة على الظهر ولا يود أن يباغت للمرة الثانية,
إنسان قريب الشبه بأحدب ابن الرومي..قالت ضاحكة: "ولماذا تريدني أن أشبه
أمك؟" نظر إلي الآخرون أيضا, أحسست بنظراتهم تحفر جبهتي, قلت إن علي أن أغفو
قليلا.
(أضطجع فتضج الألوان حولي وتملأ بالتناوب كل
الفضاء..ألوان صارخة صقيلة, لا خدوش فيها أو خروم..يبدو الأحمر أولا لعيني
المغمضتين كسماء أخرى , مربكة وقاسية, ممتدة بلا شطآن وغير مبشرة بأي خير.وما إن
تبدأ العينان المغمضتان بالإستئناس بقساوة الأحمر حتى يتفسخ بحركة مباغتة وسريعة,
ويخلي المجال لصفرة لا تحتمل, تطلق أشرعتها فوقي موحية بشتى أنواع الأمراض
والهزال..بعدها ينبثق من محاجر الليل ليل آخر أكثر طغيانا و خنقا..تتناوب الألوان
الثلاثة علي, وفقا لتكتيك سري معد سلفا لبلبلة الأعماق وخنق الأنفاس بالتدريج.في
أحيان نادرة, خاطفة كالشهقة او رفيف العين, يباغتها اللون الأبيض بالحضور, يخترق
سماواتها فتتكدر الصفحات على التو, وتبدو المسوخ بشكل أبشع وأشد شراسة..يبدأ الأمر
بلطخة دقيقة ونائية في ذلك الإمتداد اللانهائي, الأحمر أو الأصفر أو الأسود, لا
تلبث ان تدب فيها الحياة , فتبدأ في الإنحدار من علوها السامق, صخرة عظيمة متحدرة
من ملايين السنين, من الإنفجار الهائل للكون..عندما تقترب من وجهي, وتكون الروح
المعلقة من الأهداب مستعدة للقفز من الجسد في اللحظة الحاسمة, مثل ربابنة الطائرات
الحربية, تأخذ اللطخة شكلها المعتاد: وجها شائها ومخيفا..أحيانا يكون بعين واحدة وسط
الجبهة كعين السيكلوب, أو أدرد مفغورا مثل مغارة للخفافيش والأفاعي, أو بأنياب
طويلة تتدلى على الذقن طالبة دمي , أو وجها بملامح آدمية, لكنها متنافرة شوهاء وفي
غير موضعها المعتاد..يسيل لعاب الأوجه على جسدي يغسلني بالعرق وخوف بدون تخوم ..
أفتح فمي لأصرخ, يهرب صوتي مني ويبقى الفم مفغورا, الفم الشائه اللافح كباب الفرن,
يدنو أكثر من جسدي المحموم الراعش, أدرك بشكل غامض أني ميت, وأن ابتلاعه لي
اللحظة, موت لموتي الأول, بيد أن الوجه البدائي المخيف , وبخبث إبليسي يكتفي بحز
خصيتي..يضعهما قرطين في لحمتي أذنيه, ثم يرسل ضحكة مدوية, ويكون الفضاء آنذاك قد
اصطبغ بالأحمر من جديد, ثم يغيب كل شئ, وتبقى الحمى, وحدها الحمى والرجفة والعرق.)
لست متعبا أو بي حاجة إلى النوم, ولذلك فإني لا أريد أن
أغفو..أريد أن تظاهر بالإغفاء. يكفي أن أميل بجذعي إلى الأمام وأضع جبهتي ومرفقي
على ظهر المقعد الأمامي. لقد أشبعت العين حاجتها, رأت من الفتاة كل ما يمكن ان
يُرى من مكاني بالمقعد الخلفي..لليد الآن أن تبرز حناءها..سأغلق أذني عن كل ما
يقال وأنصت بآذان أخرى داخلية إلى ذلك النداء البعيد الذي يترجرج في شعب مّا
بالأعماق يحرك أمواهها الداخلية..لليد الآن أن تستلم المشعل وتعيد للمس مكانته
المفتقدة كسيد للحواس وملك لا يضاهى: فالسمع, ليس من رأى كمن سمع, والبصر..الشوف
ما يبرد الجوف, أما الشم, فماذا بإمكاني أن أشمه غير روائح العرق والأحذية اللاصقة
بالأقدام والآباط ..حان أن تستقل يدي عني , تستحيل إلى حيوان آبق وشره يتصرف بمحض
إرادته ويتجه الوجهة التي يريد..بعد أن وضعت مرفقي على ظهر المقعد لصيقا بالذبذبات
الكهرومغناطيسية لجسد الفتاة, لم يبق ليدي إلا أن تغوص في ذاكرتها الخاصة وتأخذ
شكلها..إنها الآن أشبه ما تكون بعصا موسى الملقاة أرضا..هي الآن حية تسعى.
(أنظر جهة الشرق فأراها, جهة الغرب فإذا هي هناك,
جهة الشمال والجنوب أيضا. .قادمة من كل الجهات..عبر الهواء, كل الطرق والمنافد ولا
مجال لاتقائها. أضع رأسي بين يدي وأترقب الصدمة الآتية لاريب, طق..وتنقذف الخصيتان
المبعوجتان الحمراوان إلى أعلى وتسيل تلك الأجسام الخفية عن الأعين المسماة
هرمونات بلغة العلم..يرتطم الأندروجين بالإسفلت, ويتعانق الأستروجين والبروجسترون في
حركة مواساة أو وداع أخير..أتأملها ناغلة هناك كالحشرات وأغمغم: لا حول ولا قوة
إلا بالله..بوغطاط بالليل وشاحنات بالنهار, أنقذني سيدي ومولاي, ما عدت أستطيع أن
أتأخر عنك.)
تتحسس الحية طريقها, تمد ألسنتها أماما بقدر محسوب وحذر..تعبر
الآن الفتق الضيق بين حدود المقعد وباب السيارة ثم تسكن في لحظة استراحة وترقب
لتخمن المسافة الفاصلة التي تفصلها عن دفقة الجسد المدموغ بالإنتظار, ومثلما يبعث
فيلق الفرسان طلائعه لتقصي الأخبار, ارتأت أن تبعث بأحد الألسنة فقط يشق طريقه
وحيدا بين شعاب وأودية الجسد.. ينطلق اللسان السبابة, لا شئ يعرقل زحفه غير خيط
واهِ من التردد يكفي أدنى تمدد بسيط لتجاوزه, لكن ما معنى لحظات الصمت هاته؟ لمَ
لا يصلون حديثهم بنتف جديدة عن الشاحنات أو الأمهات أو دوافع الرحيل؟ كل سفرة
تختلف عن الأخرى أليس كذلك؟ وفخذ المعلم اللصيق بفخذي بشكل منفر يجدر أن أنساه
اللحظة, أنسى يديه وعينيه..حتما لن يرى شيئا لأنهما مختومتان بشمع الطباشير ورياح
التلاميذ..اندفاعة بسيطة فقط..الخطوة الأخيرة والحاسمة كي تلوذ السبابة بخيمتها المعدة
منذ أول زعقة لمحرك السيارة, فوق ثنية من ثنيات الكرش البدينة, في الحد الأقصى
الأيمن للكرش, جهة الأضلع الغائرة تحت ركام اللحم.. هل تلتفت الفتاة مستنكرة؟ أم
تصمت؟ أم تبقى عاجزة عن عبور الشك إلى اليقين, حركة متعمدة؟ غير متعمدة؟ متعمدة؟؟
لا بد من لمسة أخرى أكثر جرأة وإفصاحا, وبعدها يتحدد كل شئ: استنكار صفاقة لا
تحتمل, أو الدخول في لعبة تواطؤ سري وبهيج لأجل تتويج الحاسة الأكثر شهوانية على
كل الحواس الأخرى.
هل ربحت الحية الرهان وجنت ثمرة جرأتها؟ الحية التي تحمل
الشيطان في فمها تتسلل به نحو الجنة؟ يحكي الفردوسي في الشاهنامة عن زوهاك الذي
قبله الشيطان في كتفيه فنبت مكان القبلتين ثعبانان ضخمان يطلع كل منهما من كتف
مطالبا بغذائه اليومي: دم إنسان يقدم قربانا له. أية قبلة إبليسية تجعل من يدي حية
تشتهي لحم نساء بدينات أو وحيدات ومكتئبات..إنها تسرح الآن في ركام اللحم..من حدود
الورك الأعظم إلى أنفاس الحلمة المبتهجة بشذا الزهر على القماش..بين ثنياته تلطع
وتعربد دون أن تبدي الفتاة أي حراك أو إيماءة استهجان. كانت تحلم دون شك, كلما
تملت في المرآة أردية اللحم المسبلة على الأعطاف, المترفة والفائضة عن الحاجة,
بلقاء من هذا النوع, شاذ وغير مسطر في أي دفتر لتاريخ اللقاءات.. بم تفكر الآن؟ أي
إحساس ناهض من منطقة للعتمات ينشر ظلاله داخلها؟..تسرح الحية كما تشاء, سكرانة
نشوانة تردد مقاطع من الشريط السابق: ستف لي لقداح عمر لي كيساني..كؤوس مترعة
بالبدانة, باللحم الفائض المعرض في زقاق ضيق ومغفل للإغتصاب.
( "أما إذا استؤصلت الغدد التناسلية بعد أن
يكتمل نموها (أي بعد المراهقة) فلن يصيب الجسم تغير محسوس لأن الوظيفة التناسلية
تقف نهائيا, وإن كان التلقيح يصبح مستحيلا والرجل الذي خصي بعد البلوغ يستطيع أن
يؤدي العمل التناسلي وأن يفرز سائلا من غدة البروستاتا دون أن يحتوي السائل على
الجراثيم المنوية.وكذلك تحتفظ المرأة التي يستأصل مبيضاها بعد البلوغ, بعاطفتها
الجنسية وكذلك بالحيض لفترة من الزمن لكنها تصبح بدينة وتشكو من كثير من
الاضطرابات العصبية وخلافها.")
تمرق السيارة الآن بين المباني, بين أضواء المرور
المنبثة في كل الأرجاء والبزات الكاكية لرجال يسهرون على حماية المواطنين(الوديعين
المتخشبين في ممرات الإدارات أو الحانات) من جموح البحر.تضغط الحية في لمسة أخيرة
ومودعة على الجسد, ثم تنثني برقصة عضلية خفيفة كي تسكن من جديد على ظهر المقعد
عضوا ميتا وفي غاية البراءة..قال السائق: حمدا لله على سلامتكم. قالت المرأة:
ساعدني أرجوك على إنزال ابنتي.. إن نصفها ميت. قال: انتظري سأوصلكما...
فأية دوخة هذه يا سيدي ومولاي؟ راغب أنا في القئ
أوالإسبات دهورا أفيق بعدها شخصا آخر دون ذاكرة أو مجرد صورة لحيوان منقرض..لا أريد
أن أرى وجهها..لا أستطيع..كانت يدي سابحة في تجاويف جثة.. سأنتحي بها جانبا,
أمددها أمامي وأقئ عليها, أفرغ فوقها كل قمامات الداخل, ثم أتركها هناك وأذهب رأسا
إلى سيدي ومولاي "سيعيد إليك توازنك وبهجة الإقبال على الحياة, هو لا غيره,
ارحل إليه"..أبحث في الحقيبة, في الجيوب الداخلية والخارجية..لا شئ, لا
شئ..لقد أضعت العنوان.
قتل القط
(قصص)