mercredi 18 janvier 2017


                                     اعتراش الدوالي في القلب الحزين



    انقطعت جميلة عن العالم الخارجي بشكل نهائي. حتى إطلالاتها القصيرة من النافذة التي كانت تعلن بها للشمس والهواء عن وجودها، تخلت عنها واعتكفت داخل البيت مثل لغز غير قابل للحل، لتكف بذلك عن أن تحيا في الحياة  وتدشن عهدا للحياة في الخرافة.قيل إنها تنسل من بيتها مع أول خيط للفجر، تتوه في الطرقات والأودية في هيئات متعددة باحثة عن طفل اسمه مصطفى ضاع منها ذات يوم وترك اللبن يسيل من ثديها دون انقطاع .وقيل إنها لا تغادر البيت أبدا بعد أن أحكمت إغلاق الباب بسبعة مزاليج، لكنها  لاتعيش وحيدة كما يتوهم البعض، تستضيف كل يوم ملكا من ملوك الجان بحاشيته وقيانه ورجال دولته، يعزفون ويرقصون ويتذاكرون في شؤون الأرض.وقيل أيضا إنها على علاقة بالشريفة الحمقاء تتمظهر في ذلك الحوار الليلي الطويل الذي يصل بينهما في شكل غمغمات وآهات وغرغرات أمعاء وإشارات خفية.
لذلك قررت، في ذلك اليوم القائظ بعد أن تمتعت بمشهد الذباب السارح فوق المائدة في ذهول أنه آن الأوان كي أراها عن كثب، أقتحم طوق عزلتها  وأتقرى أصداء العوالم المخبوءة خلف جدار من صمغ صاغته سنون الإنتظار الطويلة. كنت قد نزلت دركات عديدة إلى القعر، ونجحت في أن أصير إنسانا آخر لايمت بصلة إلى ذلك الفتى اليافع الأبيض، أحمد بن سيدي محمد بلفقيه، الذي نشأ على حب الفضيلة والخير وبقية التفاهات المسماة قيما نبيلة .لقد أدركت أننا نعيش في قلب جيفة ( وكان أخي محمد قد أدرك هذا قبلي بسنوات عديدة  لكنه لم يكيف نفسه مع الإدراك الجديد
فاستحال إلى تيس.) وأننا لكي نستمر في البقاء، ينبغي أن نصبح أكثر منها نتانة.
هكذا مارست السرقة والاغتصاب والمكر، ووجهت ضربات موجعة لمخلوقات هذا العالم المنحط، لكن جميلة المتحصنة ببيتها وذكرى الرجل الغائب، ظلت تستنفر شياطين دمي بهدوئها الذي يسم إطلالاتها القصيرة بغموض كاهنة للظل، تغريني بكسر بابها وصدمها بتيار للكهرباء ذي قوة  عالية توقظ فيها الأحاسيس المنسية أو تمنح  لرقدتها الأخيرة وسادة رحيمة.
   كنت أتسلى بمنظر تلك الكائنات الدقيقة الشوهاء التي تسرح على المائدة حتى تصل إلى حافتها فأعيدها بنقرة من الأصبع  إلى المركز  لتبدأ الزحف من جديد، وفي لحظة ما بدت لي جميلة شبيهة بواحدة من تلك الذبابات مقصوصة الأجنحة التي ارتهن مصيرها فجأة بنزواتي والحدود المادية لسطح المائدة .ذبابة ضخمة استكانت إلى شرطها بعد أن أهدت عمرها لمسافات انتظار مشرعة على ظل غيمة هاربة.
طرقت بابها فلم تجب. طرقته مرارا ثم جعلت أناديها :
افتحي يا جميلة، افتحي.
  أطلت أرنبة أنف امرأة بالدور السفلي ورفعت نحوي عينين متسائلتين. تعرفت علي فترددت لحظة بين أن تسألني عن سبب الزيارة، وبين أن تعود القهقرى، وانتهت إلى أن تجمع بين الخيارين بأن تبقى على العتبة تتابع بقية المشهد بحواس مفتوحة. تفلت بصوت مسموع اتجاه المرأة الواقفة على العتبة واستأنفت الطرق بشكل أكثر قوة. وخلت اني أسمع وقع احتكاك خف بالأرض يشي بخطوات متثاقلة بطيئة ورجلين واهنتين .
افتحي يا جميلة.
 سمعت صوتها يسأل من خلف الباب :
-
من ؟
وكنت قد هيأت الرد :
رسول يحمل إليك أخبارا.
لكنها عادت إلى السؤال:
من بالباب ؟
افتحي.
    سمعت صوت مفتاح يدار في قفل ومزلاج  يسحب، ثم صرير الباب تنفتح على وجه جميلة.
   بدت بنحافتها وعينيها الغائرتين وحزن السنين مثل أكمة للوحشة والغموض والرهبة.
   توقعت أن تهب علي من بهو المنزل رياح عاتية محملة بأشواك برية وزعانف سمك وأرجل ماعز ليس لها ظل، لكن البيت بدا هادئا مصمتا مثل خرابة مهجورة «لماذا أتيت؟»
   تساءلت « أ بدافع من الفضول المحض، أم إرادة للشر لم تعد تكتفي بتقويض الأبنية القائمة، بل تريد أن تتعداها إلى النكش في الأنقاض ؟» لكن هل ما يزال هذا الوجه الكامد يحتاج إلى وجع إضافي؟.
    كنت أود أن أباغتها، أقول لها إن مصطفى مات، تهرأ لحمه وتفسخ قطعة قطعة حتى بقي العظم وحده واقفا في العراء يقهقه للريح والطيور العابرة قبل أن يتقصف دفعة واحدة ويتهاوى كالردم. مصطفى الذي كان له في كل مدينة امرأة غاب عنها بعد أن استحوذ على حليها ووعدها بالرجوع « ألم تدركي هذه الحقيقة بعد أيتها البلهاء؟"
     لكنها بدت أكثر بعدا وشموخا من أن تطالها الكلمات. وأدركت حينها السر الذي أبعد عنها النساء الأخريات. لقد بتن  يخفنها، يخفن ذلك الإصرار الذي لايريم على اجتياف الحزن حتى آخر رمق «فالقلب إذا لم يكن فيه حزن خرب» كان أبي يردد على مسامعنا ويدعو لنا بالغم والهم ، فهل طالت دعواته جميلة  ليعترش الحزن في حقول القلب دوالي وأغصانا لرفيف الأجنحة؟
ماذا تريد ؟
أحمل إليك أخبارا.
آه..لست بحاجة إلى أخبار.
    وهمت بإغلاق الباب فكبحت حركتها بيدي :
أخبارا عن..مصطفى.
     أضفت كي أستثيرها، كي أرى لون الحياة يشع من جديد في عينيها مرفودا باللهفة والشوق.ستشدني من معصمي وتسحبني إلى قعر البيت، ثم تطلب مني أن أحكي لها عنه، وهل حقق حلمه؟ وهل سيعود قريبا؟ آنذاك سيسهل علي الإجهاز عليها، سأقتل مصطفى ألف مرة وفي كل مرة أحييه لأنعته بكل الفظاعات التي يمكن تصورها، وأرقبها خلال ذلك أنتشي بحرائقها، لوعتها وحزنها وفرحها وبكائها وخيبتها وجنونها.
--
مصطفى؟ لاأعرف شخصا بهذا الإسم.
  قالت بكلمات مضغوطة  لا تدع مجالا لمزيد من الكلام.
مصطفى الذي...
   وتوقفت في نصف الجملة. ما الفائدة ؟ لقد نسيته، لفظته من رميم حياتها، مما تبقى من الرمق لتعيش لحزنها، حزنها وحده تهدهده مثل طفل وترعاه كحديقة. كانت قد استدارت كلية نحوي قبل أن تغلق الباب فبدت عيناها الغائرتان بيضاوين مفرغتين من أي أثر للحياة ومثيرتين للفزع. هل تكون قد..؟ لوحت اتجاهها بيدي : لاحركة ولارعشة ..كانت عمياء..
                             ماء الأعماق                                                                           

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire