.
أصوات الرواية
.
التيمات
المهيمنة على المحكي الروائي : )
1
مواقيت الصمت هي الرواية الرابعة ضمن التجربة الروائية
للكاتب المصري خليل الجيزاوي..بعد:
يوميات مدرس البنات 2000
أحلام العايشة 2003
الألاضيش2004
وإذا كان العنوان واضحا في التأشير على الصمت
كتيمة مركزية تتصدر مشمولات المحكي الروائي ومسارات التخييل , إلا أن أية مساءلة
لمؤثثات الفضاءات السردية لن تلبث أن تفصح عن وجود تيمتين أخريين , بحيث يصير
المجموع ثلاث تيمات تشكل مفاتيح أساسية لإنتاج الدلالة يمكن توصيفها بالشكل التالي:
تيمة التوائم
(كتصور للذات الممزقة بين الأنا والآخر القرين.
- تيمة أطفال الشوارع (كقضية مجتمعية وإنسانية.
- تيمة الصمت/الكلام (كمعبر أساسي للتغيير..
* التوائم/ الأنا ومضاعفه
يحيل التوأم على الصورة المركبة للذات
والعالم: الأنا ومضاعفه..والعالم وصورة العالم. بشكل يخاطب الذاكرة الطفولية
للبشرية, ودهشة البدائي فينا إزاء الظواهر المحيطة أو إزاء المقدس وقلق
الميتافزيقا.
فقد ظل التوائم الحقيقيون على الخصوص, مثار دهشة في
الحياة العادية, ومحط اهتمام الدارسين في حقول علمية متعددة.كما نسجت حولهم في
المخيال الجمعي العديد من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية.ولذلك كان من
البديهي أن تلتقط الأجناس السردية –والأدب عموما- هذه الظاهرة وتوظفها في بناء
عوالمها التخييلية.
فالمعتقدات الإفريقية ظلت موزعة ما بين
الإحتفاء الكبير بميلاد التوائم وبين كراهية ذلك والتخوف منه حد الذهاب إلى قتل
أحدهما والسماح للثاني فقط بالعيش..فالتوائم يذكرون بالزمن الأسطوري حين كان
الإنسان توأما في الأصل أي حاملا لخاصيات الذكورة والأنوثة بشكل يجسد الوضع الأمثل
للكينونة..(مما يذكر بأسطورة الأندروجين في الثقافة الغربية)..وبمناسبة الحديث عن
الثقافة الغربية , يرتبط لدى الجميع بناء روما بأسطورة "روميس" romus و"روميلوس" romulus مؤسسيها
اللذين تم إرضاعهما من قبل ذئبة براري agota..
أما في مجال الأدب وعالم التخييل الروائي بالخصوص, فيجدر
بنا ذكر ثلاثية الكاتبة الهنغارية أكوطا كريستوف kristofالتي
تتابع فيها حياة لوكا وأخيه التوأم في زمن للحرب و النزوح الاضطراري وتمزيق
الأسر..ورواية "1934" للكاتب الإيطالي ألبرتو مورافيا التي أسست حبكتها
فوق دعامات خدعة اسمها "ترود" الأخت التوأم المفترضة ل"بيت"
في علاقتها/علاقتهما ببطل الرواية "لوسيو", بما يؤكد الأبعاد المختلفة
للشخصية الإنسانية والمتسمة بالتعقيد والغنى..وفي نفس الوقت يصيب الآخر بالحيرة:
"..سمعت صوت ترود يقول بمزاجها المعتدل المعروف:
خمن من أنا: فقلت : ترود
- أنت مخطئ ..أنا لست ترود..أنا بيت. "(1) .
في هذا السياق يطالعنا في "مواقيت الصمت"
التوأم هند/هبة بتجاذباتهما الحياتية, بعد أن عادت هبة التي توفيت في عامها الأول
إلى احتلال جسد أختها هند, استنادا من الكاتب إلى مرجعية ثقافية محكومة بتصور
خرافي للواقع يتمظهر من خلال المحكيات الشعبية الخرافية, ويرى أن موت أحد التوأمين
يجعل روحه تسكن إلى أجساد القطط السوداء, في ترقب لفرصة احتلال جسد الأخ/الأخت
التوأم الذي يقي على قيد الحياة.
* أطفال الشوارع/أطفال الهامش المنسي:
يعرف المجتمع المصري حركية سياسية وإعلامية
وجمعوية مهمة, لعل عنوانها البارز هو الوعي بالأزمة والاجتهاد من أجل تطويقها..
هكذا بدا الضمير الجمعي مؤرقا بالأوضاع
المأساوية في بؤر الهامش والمسكوت عنه والمهمل, متمثلة في أطفال الشوارع وسكان
العشوائيات , ساكنة وأفضية ورؤية للعالم..حتى إن هناك من يذهب إلى وجود أدب جديد
في مصر سمته الأساسية الارتباط بهذه الفضاءات.
في نفس المنحى يجعل خليل الجيزاوي من أطفال
الشوارع قضية مجتمعية وإنسانية يضعها تحت المجهر..تعود هند بطلة الرواية من باريس
حيث قضت عشر سنوات, إلى حي السيدة زينب حيث نشأت .لكنها تعود في مهمة خاصة: إنجاز
بحث ميداني في إطار التهيئ لرسالة الدكتوراة.. بحث عن أطفال الشوارع..ومن خلال
الإنصات لأصوات الأطفال موضوع البحث, تنفد الباحثة (معها القارئ) إلى عمق المأساة
الإنسانية التي يعيشها هؤلاء ضمن مجتمعهم المصغر المغلق الذي تحكمه قيم القوة
والبلطجة والسخرة, وحيث لغة المطاوي هي اللغة السائدة, والاعتداءات الجنسية وتشييئ
الجسد الإنساني المرمي على قارعة الطريق مثل أية سلعة انتهت مدة صلاحيتها.
واقع لا ينجو منه المرء إلا عبر انفراجات
استثنائية لا تخول له في النهاية سوى أن يصير أداة جنسية لتحقيق متعة عجائز الطبقة
الراقية (نموذج جنينة)..مستبدلا الواقع البشع للشارع بما هو أبشع:
"لقد كان البديل بشعا بشعا بشعا"(2) يقول
جنينة في آخر بوحه المرير.
تبدو رحلة أطفال الشوارع عبارة عن سِفْر
لردود أفعال دفاعية إزاء واقع قاس يهددهم بالامحاء.لكنها ردود أفعال لا تنتج سوى
مزيد من الغوص في الوحل الاجتماعي المتحرك: فمن المنزل وجو العائلة الموسوم بالتمزق
والفقر والعنف, إلى الشارع ك"وطن" بديل لا يلبث أن يكشر عن أنيابه,
لتكبر المعاناة بما يستدعي الحنين إلى الرحم الأصلي..رحم العائلة والحركة العادية
للمجتمع على علاته..مجتمع لانسحاق الفرد تحت رحمة أصحاب المال من الطبقة الراقية,
أو مجتمع الطبقة الوسطى التي تبني أمجادها في الغرف المغلقة بوسائل غير أخلاقية
كالرشاوي والاستضافات والقوادة وكل أشكال التمسح بأعتاب الكبار (نموذج الأب
والمهندس سعيد..)
* من الصمت إلى الكلام:
المقصدية الضمنية..مقصدية الانتصار لقضية
أطفال الشوارع ونقلها من عتمات المسكوت عنه إلى ضوء المفكر فيه والمعبر عنه, تجعل
من مواقيت الصمت رواية أطروحة.
وإذا كانت كل أطروحة تستدعي نقيضها, فلا بد للصمت الذي
طال أكثر من اللازم أن يخلي المجال لنقيضه الكلام مثلما يسلم آخر الليل مفاتيح
المدى للنهار..
على أن تغيير الحاضر لن يتم إلا بالتعرف على
الماضي ..التعرف على هذا الإبستيمي الفاعل بالرجوع إلى جذوره التاريخية ومحدداته
الثقافية عبر تمظهراتها في الموروث الثقافي والديني والمأثورات والخرافة وصولا إلى
النصوص الحديثة الداعمة عربيا وغربيا..كموعظة لقمان لابنه "يا بني إذا افتخر
الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك" (3)
أو مقولة "بول فاليري" : "كل ذرة من
الصمت فرصة لثمرة ناضجة".)4
هذه
الرؤية العمودية لتيمة الصمت تفترض فعلا جماعيا من أجل التغيير..انخراطا أفقيا من
قبل كافة الشرائح المجتمعية, بما فيهم الأموات..هكذا ينزح الأب من إطار الصورة
المعلقة على الجدار كي يدشن سيرة الكلام والفضفضة بما لم يتمكن من قوله أثناء
حياته..يقول لابنته هند:
"مواقيت الصمت إنها رواية عبثية عشنا أحداثها أنا
وأنتي يا ابنتي, لماذا لا تعيدي ترتيب كتابة أحداثها؟"
"ولماذا لم تبدأ مواقيت الكلام بعد؟"(5
"وما رأيك لأنك ابنتي فقد علمتك ألا تسكتي أبدا"
(6
هو إذن انتقال من العبث إلى المعقولية, من حياة التواكل
والخنوع والانتظارية إلى بداية الفعل نشدانا لمجتمع الحق والحقيقة..
." أصوات
الرواية بين الديالوجية والمونولوجية" 2)
* السارد وأصوات الرواية:
تقوم هند (هبة) بدور الساردة في الرواية
بضمير المتكلم كراوية مشاركة (حسب تصنيف واين بوث ..) متماثلة حكائيا (وفق مقترح
جينيت)..أما الرجوع إلى التقسيم الثلاثي الذي اقترحه "جان بويون" في
كتابه "زمن الرواية",فيجعلنا ندرج زاوية النظر التي يحتلها السارد في
"مواقيت الصمت" تحت خانة "الرؤية مع", حيث نجد أن "
الراوي في هذا النوع يعرف أكثر مما تعرفه الشخصيات إلا أنه لا يقدم لنا تفسيرا
للأحداث قبل أن تكون الشخصيات نفسها قد استطاعت أن تصل إلى ذلك التفسير.ويمكن أن
يكون الحكي بضمير المتكلم, وفي هذه الحالة يكون هناك تطابق بين الراوي والشخصية
الرئيسية في الرواية"(7)
إنها ساردة قلقة..لا وقت لديها للإنشاءات اللغوية
والبلاغة التقليدية..لديها مهلة شهر تنجز فيه بحثها, ثم تعود إلى باريس, مما انسحب
على نوعية السرد في الرواية ووسمها بالسرعة والحركية من خلال الجمل السردية
القصيرة والمتلاحقة كما لو أنها عقارب ساعة لا مرئية..يبدو ذلك من أول ملفوظ سردي:
"أعود للبيت منكسرة, أصعد الدور الثالث منهكة, لكن
يدفعني ألف سؤال كي أبحث,أسأل مرة ثانية, ثالثة, أفتش عن الحقيقة, أدخل الشقة,
تواجهني الصالة كئيبة باردة, أجري ناحية غرفة بابا, أقلب أدراج المكتب, أقف أمام
مكتبة والدي الصغيرة, أفتح دولابه الكبير, تتبعثر أوراق كثيرة قديمة"(8).
والجدير بالذكر أن اختيار الكاتب لزاوية النظر هاته
متجنبا الرؤية من خلف التي ينطلق منها الراوي العليم جاء منسجما مع طبيعة البحث
الميداني الذي طبع المحكي الروائي بخاصية أخرى هي توزيع مجالات الحكي على الشخوص,
وتمتيع الحوار الخالص كمكون يساهم في تشييد معمارية النص بحضور لا فت, مما جعل
الرواية محفلا للأصوات المتعددة والتبئيرات المختلفة.
لكن هل المفروض أن تعدد الأصوات داخل كل رواية يسمها
ببوليفونية فعلية؟ أم أنها قد تبقى محافظة على طابعها المونولوجي رغم مظهر التعدد
الذي لن يكون في هذه الحالة سوى القشرة الخارجية الحاجبة لداخل نقيض؟
واضح أن الذي يمكن أن يسعفنا في محاولة تقديم جواب على
السؤال السابق هو المنهج الحواري لدى ميخائيل باختين الذي ما يزال يحتفظ براهنيته,
بحكم أن التوجهات النقدية الحالية لا تشكل أية قطيعة إبستمولوجية مع المنظور
الباختيني, إن لم تكن ما تزال تدور في فلكه محاورة وإغناءً وانتقادا, بخلاف الوضع
مع باختين نفسه الذي شكل "قطيعة إبستيمولوجية غير قابلة للجدال في تاريخ
النظريات العامة للرواية"(9) كما قال عنه "كريزينسكي في كتابه
"ملاقي العلامات".
* تعددية الأصوات عند باختين:
يرى ميخائيل باختين أن نشأة الرواية تزامنت مع
"تفسخ اللغة الثقافية الأم (اليونانية واللاتينية) إلى لغات ولهجات
شعبية.وهذا ما تم في العصر الهلنستي والعصر الروماني وفجر النهضة الأوربية التي
نشأت فيها اللغات الأوربية القومية الأولى" (10)..ولذلك فإنها تجد جذورها في
الثقافات الشعبية القديمة كطقوس الكرنفال والحوارات السقراطية وأدب المآدب والشعر
الرعوي والهجائية المنيبية...وغيرها من الأصناف الهزلية التي قامت على هامش
الأصناف الجادة مثل الملحمة والمأساة والتاريخ..
وهو في ذلك يميز بين شكلين للرواية:
- الشكل المعتمد على الضحك والثقافة الشعبية (نموذج
رابليه)
- والرواية المتعددة الأصوات التي تعتمد على الحوار
(نموذج دوستويفسكي..
فقد تبين لباختين خلال تحليله لدوستويفسكي في كتابه
"شعرية دوستويفسكي" الطابع الحواري المميز لكتاباته, حيث تعدد الأصوات
واللغات وأشكال الوعي.."هذه اللغات التي تتداخل وتتحاور فيما بينها بشكل
متكافئ ومتعادل بدون تميز صوت على آخر أو تفضيل وعي على آخر"(11).
تعددية الأصوات واللغات تشترط أن يرفع الكاتب وصايته على
الشخصيات, ويترك مسافة كافية بين وعيه ووعي البطل, بحيث لا يصير الثاني نسخة باهتة
من الأول, ينوب عنه في التعبير عن قناعاته ورؤاه, ولا يتحرك إلا ضمن الحدود
المسطرة من قبله, لأننا في هذه الحالة نكون إزاء شكل أحادي اللغة وبالتالي إزاء
شكل مونولوجي للرواية..وهو ما سيعبر عنه كريزينسكي فيما بعد ب"أحادية الملفوظ" mono- enoncé الذي يميز السارد الذاتي أو الذات الممركزة..
كما أن تعددية الأصوات والأوعاء والرؤى تجد تعبيرا عنها
على مستوى التعدد اللغوي من خلال أساليب وطرق يحددها باختين في:
. التهجين
والأسلبة:
- تعالق اللغات القائم على الحوار
- الحوارات الخالصة..أي الحوارات المتبادلة بين الشخصيات
الروائية.
* مونولوج أو ديالوج:
الطرح الباختيني الذي لم نقدم عنه هنا سوى توصيف مختزل , يشكل مرجعا أساسيا
بالنسبة لأية نظرة وازنة همها استقراء المؤشرات الدالة والمساعدة على التعرف إلى
أي من الشكلين الروائيين تنتمي رواية "مواقيت الصمت" لخليل الجيزاوي.
في الفصل المعنون ب"هيمة" يقول:
"اسمي هيمة ولدت في درب الغزالي من شارع الناصرية,
أبوي سواق عربية نقل بتسافر اسكندري والصعيد وأحيانا السلوم على حدود ليبيا.كان
عندي خمس سنين لما أمي صرخت, لطمت خدودها, بعدها عرفت أن العربية انقلبت على
الصحراوي وأبوي مات" (12.
وفي أحد الفصلين المعنونين ب"وأنا" يقول
المهندس سعيد:
"مهندس سعيد فتح الله الشهير بسعيد الفاتح ولدت في
أسرة فقيرة لكن أحلامي كانت بوسع الفضاء, في ليلة شتوية باردة مات أبي بعد معاناة
مع الربو الذي أصابه نتيجة الوقوف أمام ماكينات شركة الغزل.من يومها أشعر بالصقيع
حتى الآن .تركنا خمسة, ثلاثة أولاد وبنتين, كنت الأكبر في ثانية إعدادي.."
(13)
لقد تخلت الساردة الأساسية هند في
القسم الثاني من الرواية عن سلطتها في توليد المحكي, وتوارت كليا خلف مواقع سردية
تحملت فيها شخصيات أخرى مسؤولية الحكي مثل هيمة أو سعيد أو جنينة..أو خلف الحوارات
الخالصة التي جرت بينها وبين أطفال الشوارع موضوع البحث, واكتفت فيها بدور المحفز
على الكلام, مما ساهم في تكسير هيمنة الصوت الوحيد وإكساب الرواية تعددا في
الأصوات والرؤى..
يبدو ذلك على الأقل, في الوهلة
الأولى..فالظاهر أن هناك تعددية في الأصوات, لكن الصوت الواحد هو المهيمن في
العمق..مما يجعلنا أمام رواية ذات طابع مونولوجي (مع الإشارة إلى أن وسم الرواية
بالطابع المونولوجي لا يعني الانتقاص منها.هي مسألة معيارية للتمييز بين شكلين
روائيين من ناحية الشكل لا من حيث القيمة).فالنفاد إلى أصوات الرواية المختلفة
يسمح بتجميعها في صوتين اثنين فقط:
- أصوات أطفال الشوارع ونادل المقهى وأم شحتة,
كتنويعات متقاربة لصوت وحيد: صوت الفئات المسحوقة القادمة من وضعيات اجتماعية
واقتصادية متشابهة عنوانها الأساسي الفقر والتمزق الأسري, وتحكمها نفس الرؤية
للعالم..
- أصوات هند/هبة, المهندس سعيد والأب, كتنويعات ثانية
لنفس الصوت: صوت الطبقة المتوسطة الحاصلة على بعض الرفاه الاجتماعي والمكتسبات
الثقافية والعلمية, والممزقة عاطفيا بين التحت والفوق, بين الطبقة المسحوقة
والطبقة الراقية..
والحديث هنا عن صوتين سرديين يتم بنوع من
المرونة والتجاوز, لأن الصوتين لا يعبران عن الذات الفردية أو الجماعية بنفس
الدرجة من الاستقلالية..فبخلاف ذلك, يبدو من خلال سياقات سردية أو حوارية متعددة
بأن صوت الساردة الرئيسية هند هو المهيمن والموجه والموحي بالجواب المنتظر..حتى
الانشطار في الذات الساردة ما بين هند وهبة لم يستغل بالشكل الأمثل لإغناء المحكي
دراميا, فبقي الاختلاف في الهوية مظهريا وفاقدا للعمق الفلسفي الذي عوضه النسق
الثقافي المسكون بالخرافة والتواكل والرجوع إلى الجذور.
. عتبات النص
في "مواقيت الصمت":
إن الحديث عن تعددية حقيقية أو مفترضة,
مونولوجية أو ديالوجية في رواية "مواقيت الصمت" لا يمكن أن يستقيم دون
الإنصات إلى الأصوات اللغوية المتنوعة والحاضرة بشكل لافت من خلال العتبات النصية
والأجناس المتخللة التي تغذى عليها النص الروائي كنص مفتوح.
لقد فقد النص استقلاليته كنص متمركز حول الذات, ببنية
مغلقة لا تحتمل إلا ما يمت إلى مكوناتها بصلة, بل انفتح على الهوامش والحواشي
كلوحة الغلاف والتعيين الجنسي, كلمة الناشر, الإهداء, حوارات المؤلف, وكل أشكال
الانفتاح الداخلي أو الخارجي من تناص وتعلق نصي أو مناص..بحيث صارت كل هذه
الإشارات النصية محملة بالدلالة ومسعفة في امتلاك ناصية التأويل..
* الدور الوظيفي للعتبات:
ضمن هذه الرؤية, تسند إلى العتبات وظائف متعددة
تحضر كليا أو جزئيا في النص الملموس.وبالنسبة إلى "مواقيت الصمت" يمكن
حصر الوظائف التي تلعبها العتبات في الخمس الأساسية الآتية.
- وظيفة تنبؤية للتدليل على المحكي واستباقه لدى القارئ,
كلوحة الغلاف التي تحيلنا بشكل استباقي إلى البعد الانشطاري للشخصية داخل الرواية,
بحيث يجسد بورتريه الفتاة (الملون) وانعكاسه (بالأبيض والأسود) الذي يغطي بقية
الجسد ترميزا بصريا وانشطارا مرآويا للمحكي الروائي الناهض على سرد أحداث الشخصية
الرئيسية التوأم هند/هبة..وكالعنوان "مواقيت الصمت" الذي يؤشر على حقل
دلالي يشكل تيمة أساسية في الرواية.
- وظيفة تفسيرية تساهم في إضفاء المعنى على مشمولات
المحكي الروائي, كالإشارت النصية على عتبة الفصول السبعة بصدد التوائم, إذ من
خلالها يتم فهم أفعال وملفوظات وتصورات الأشخاص داخل الرواية:
.قالوا:
"إن روح
التوأم الأول-بعد الوفاة- لا تصعد إلى السماء, لكنها تظل هائمة, ثائرة, متمردة إلى
أن تسكن وتتلبس روح القطط السوداء".(14)
- وظيفة تأكيدية لتدعيم المعنى وترسيخه, كالنصوص
الاستشهادية والتضمينات داخل المتن الروائي التي تدخل في علاقة تناص مع نصوص سابقة
"..وأيضا فإن الكلام الذي هو قهر الموت, لا يعبر عن حقيقة الواقع المعيش,
فألف ليلة وليلة, هي صورة مباشرة عن مجتمع محكوم بثقافة الصمت..."(15).
- وظيفة جمالية, فإضافة إلى جمالية الغلاف كمعطى تشكيلي
بصري , تشي العتبات بالرؤية الفنية والجمالية التي تقبع في خلفية النص الروائي كنص
منتسب إلى حساسية ما في الكتابة لها تصوراتها النوعية للمسألة الإبداعية والجنس
الأدبي..كما أن تنضيد المحكيات والأجناس المتخللة يبصم النص بمستويات حكائية
متعددة.
- وظيفة مرجعية, للإقرار الصريح أو المضمر بالمرجعية
الثقافية وشجرة الأنساب الأدبية التي ينتمي إليها النص, كالمدخل الذي اشتمل على
إهداء نوعي ليحيى حقي له دلالته الكبرى في تشكيل أفق انتظار القارئ عبر تقاطعين
اثنين يؤلفان بين خليل الجيزاوي من جهة وبين "مواقيت الصمت"
و"قنديل أم هاشم" من جهة أخرى.
هناك فضاء السيدة زينب الذي هو فضاء الروايتين معا والذي
يمثل قيمة نبيلة مشتركة بين الكاتبين..
ثم الهيكل العام للبناء الروائي, حيث يمكن تتبع نفس
الخطاطة السردية المنضدة بنفس المحفزات في كلتا الروايتين:
البطل (ة) شخص مثقف..
البطل (ة) يعود من الغرب وبالذات من مدينة ذات رمزية حضارية
وثقافية واضحة (باريس- لندن)
يصطدم بالواقع المريرالبئيس المطبوع بالجهل والفقر
والخرافة..
يسعى إلى تغييره..
* لغة الهامش:
إن التنويع في الكتابة وتكسير السرد بتنضيد المحكي
بالعتبات والأجناس المتخللة, كالأبيات الشعرية والأحاديث النبوية والنصوص المقالية
والرسائل, إضافة إلى ما تلعبه من تنويع في مستويات السرد, فإنها تكسب الهامشي قيمة
رمزية وتداولية, تنتفي معها ثنائية المركز/الهامش.
هذا الانفتاح على الهامش الشكلي يعضده الهامش المضموني
المتمثل في القضية الأساس للرواية: أطفال الشوارع..تلك الفئة المجتمعية المهمشة
المنسية والمتروكة لانسحاقها تدبر أمره بعيدا عن مناطق التوافق الاجتماعي.حيث
نجدها في الرواية ناطقة بمعاناتها و رغباتها وأحلامها..
ولمزيد من الحفر في الهامش كان لا بد من تفجير نقاء
اللغة أيضا, باعتماد العامية المصرية بشكل مكثف كلغة لليومي تنمو على هامش اللغة
الفصحى..لغة الثقافة العالمة والمكتوب..
" في الليلة دي لقيت البيه بيطلع لي بيجامة المدام
الحرير, بيقوللي خشي خذي حمام, البسي دي عايز اعرف مقاسك.مش ها اعفي نفسي من
الغلط.أكيد كنت غلطانة, عايزة الضرب بالنار..."(16)
مع تدعيم لحضور اللهجة المحكية بتلغيم للفصحى نفسها
ببنيات نحوية وتركيبية ومعجمية دارجة
"في ثالثة ثانوي يمكن تجاوزنا مرحلة القبلات, بقى
فيه بينا أحضان طويلة, لكن الخروج قليل, لأن امتحانات الثانوية قربت, بابا عايزني
أجيب مجموع كبير.عارفة مدى حبي لبابا, إنه حتة مني"(17)
هذه الخاصيات الثلاث : التنويع السردي,
تيمة أطفال الشوارع واللغة المحكية أو الفصحى الملغمة جعلت الرواية تتمتع بدرجة
عالية من الانسجام الشكلي والمضموني..
-----------------------------
هوامش الموضوع :
(1) رواية 1934 ألبرتو مورافيا..ترجمة محمد عبد المنعم
جلال..روايات الهلال. العدد 481 يناير 1989 ص:143.
(2)مواقيت الصمت..رواية..خليل الجيزاوي..الدار العربية
للعلوم ناشرون.2007 ص:127.
(3) نفس المرجع ص:24
(4) نفسه ص:25
(5) نفسه ص:23
(6) نفسه ص:27
(7) من أجل تحليل سوسيو بنائي للرواية (رواية المعلم علي
نموذجا)..لحمداني حميد ..منشورات الجامعة 1984..ص:32
(8) مواقيت الصمت ص:13
(9) حوارية الفن الروائي - عبد المجيد الحسيب- منشورات
مجموعة الباحثين الشباب في اللغة والآداب- كلية الآداب والعلوم الإنسانية-
مكناس..2007- ص:45.
(10) الرواية والملحمة- ميخائيل باختين- ترجمة د.جمل
شحيد – معهد الإنماء العربي- 1982- ص: 10
(11) حوارية الفن الروائي- ص:22
(12) مواقيت الصمت- ص:135
(13) نفسه- ص:146
(14) نفسه- ص:41
(15) نفسه- ص:26
(16) نفسه- ص:49
(17) نفسه- ص:
قراءة حسن البقالي في "مواقيت الصمت"
خليل الجيزاوي